تقطيعه للحديث
وأما تقطيعه للحديث في الأبواب تارة واقتصاره منه على بعضه أخرى فذلك لأنه إن كان المتن قصيرًا أو مرتبطًا بعضه ببعض وقد اشتمل حكمَين فصاعدًا فإنه يعيده بحسب ذلك مراعيًا مع ذلك عدم إخلائه من فائدة حديثية. وهي (أي الفائدة) ايراده له عن شيخ سوى الشيخ الذي أخرجه عنه قبل ذلك، كما تقدم تفصيله [فنستفيد] بذلك تكثير الطرق لذلك الحديث. /
وربما ضاق عليه مخرج الحديث [حيث لا يكون له إلا طريق واحدة] فيتصرَّف حينئذ فيه فيورده في موضع موصولًا وفي موضع معلقاً، ويورده تارةً تامًا وتارةً مقتصرًا على طرفه الذي يحتاج إليه في ذلك الباب.
فإن كان المتن مشتملًا على جمل متعددة لا تعلُّق لإحداها بالأخرى فإنه يخرج كل جملة منها في باب مستقل فرارًا من التطويل، وربما نشط فساقه بتمامه فهذا كله في التقطيع.
وقد حكى بعض شراح البخاري أنه وقع في أثناء الحج في بعض النسخ بعد «باب قصر الخطبة في عرفة»: باب تعجيل الوقوف، قال أبو عبد الله: يزاد في هذا الباب حديثُ مالك عن ابن شهاب، ولكنني لا أريد أن أدخل فيه مُعَاداً.
وهو يقتضي أنه لا يتعمَّد أن يخرج في كتابه حديثًا معادًا بجميع متنه وإسناده، وإن كان وقع له ذلك فعن غير قصد وهو قليل جداً.
وأما اقتصاره على بعض المتن ثم لا يذكر الباقي في موضع آخر، فإنه لا يقع له ذلك في الغالب إلا حيث يكون المحذوف موقوفًا على الصحابي، وفيه شيء قد يحكم برفعه فيقتصر على الجملة التي يحكم لها بالرفع، ويحذف الباقي؛ لأنه لا تعلق له بموضوع كتابه كما وقع في حديث، هزبل بن شرحبيل، عن عبد الله بن مسعود ╠ قال: إن أهل الإسلام لا يسيِّبون، وإن أهل الجاهلية كانوا يسيِّبون.
هكذا أورده وهو مختصر من حديث موقوف أوله: جاء رجل إلى عبد الله ابن مسعود قال: إني أعتقت عبدًا لي سائبة، فمات وترك مالاً، ولم يدع وارثاً، فقال عبد الله: إن أهل الإسلام لا يسيبون، وإن أهل الجاهلية كانوا يسيبون، فأنت وليُّ نعمته، فلك ميراثه، فإن تأثمت وتحرَّجت في شيء فنحن نقبله منك وتجعله في بيت المال.
فاقتصر البخاري على ما يُعطي حكم الرفع من هذا الحديث الموقوف وهو قوله: «إن أهل الاسلام لا يسيبون»؛ لأنه يستدعي بعمومه النقل عن صاحب الشرع لذلك / الحكم واختصر الباقي؛ لأنه ليس من موضوع كتابه، وهذا من أخفى المواضيع التي وقعت له من هذا الجنس.
وإذا تقرر ذلك اتضح أنه لا يعيد إلا لفائدة، حتى لو لم تظهر لإعادته فائدة من جهة الإسناد ولا من جهة المتن لكان ذلك لإعادته لأجل مغايرة الحكم الذي تشتمل عليه الترجمة الثانية موجبًا لئلا يعدَّ مكررًا بلا فائدة(1).
وإن هذه الخطة العملية المحكمة تظهر لنا منزلة محمد بن إسماعيل العملية بين المحدِّثين في النصف الأول من القرن الثالث للهجرة.
[1] «مقدمة ابن حجر» ص 13- 14.
