شروح الجامع الصحيح
لقد توفي محمد بن إسماعيل ☼ وبقي ذكره، وكتابه خالدين جنبًا إلى جنب يحتلان أقدس منزلة في قلوب المؤمنين بلا منازع، وبقي كتابه بعد موته قِبلة المحدِّثين كما كان هو كذلك في حياته، ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ من الدراسة والحفظ والطبع، وإنما تجرَّد به بالإضافة إلى ذلك العلماء الأمجاد العباقرة يشرحونه ويحشون عليه ويعلقون عليه ويختصرون ويبيتون اصلاحاته فيه، ولا يزال إلى اليوم أرضًا خصبة لكل من أراد أن يروم هذا الميدان.
فباستطاعته أن يجد فيه بغيته المنشودة فهو كتاب لا يَخلق على تقادم الدهر، وكلما عاد القارئ إليه تجددت له المتعة في قراءته، ورأى فيه ما يؤهله لأن يحتل المنزلة الأولى في عالم الإسلام بعد القرآن الكريم، ومن الجدير بنا أن نشير هنا إلى بعض شروحه لنعرف مدى عناية العلماء به وإقبالهم عليه.
1- فمن أهم الشروح لكتاب البخاري [كتاب] الحافظ العلامة أبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852هـ وهو في عشرة أجزاء(1)، ومقدِّمته في جزء مستقل وسماه: «فتح الباري» أوله: الحمد لله الذي شرح صدور أهل الإسلام بالهدى...إلى آخره. ومقدِّمته على عشرة فصول سماها: (هُدى الساري) وشهرة هذا الشرح وانفراده بما يشتمل عليه من الفوائد الحديثية والنكات الأدبية والفرائض الفقهية تغني عن وصفه، لاسيما وقد امتاز بجمع طرق الحديث التي ربما يتبين من بعضها ترجيح أحد الاحتمالات شرحًا وإعراباً، وطريقته في الأحاديث المقررة أنه يشرح في كل موضع ما يتعلق /
2- بمقصد البخاري بذكره فيه، ويحيل بباقي شرحه على المكان المشروح فيه، وربما يقع له ترجيح أحد الوجوه في الإعراب أو غيره من الاحتمالات أو الأقوال في موضع، وفي موضع آخر غيره، إلى ذلك مما لا طعن عليه بسبه بل هذا أمر لا ينفك عنه أحد من الأئمة.
وكان ابتداء تأليفه في أوائل سنة 817 على طريق الإملاء بعد أن كملت مقدِّمته في مجلد ضخم سنة 813، وسبق منه الوعد للشرح، ثم صار يكتب بخطه شيئًا فشيئًا، فيكتب الكراسة ثم يكتبها جماعة من الأئمة المعتبرين، ويعاري بالأصل مع المباحثة في يوم من الأسبوع، وذلك بقراءة العلامة ابن خضر فصار السِّفر منه لا يكمل إلا وقد قوبل وحرر إلى أن انتهى في أول يوم من رجب سنة 842هـ وقد اختصره الشيخ أبو الفتح محمد بن الحسين المراغي المتوفى سنة 859.
2- شرح الفاضل شهاب الدين أحمد بن محمد الخطيب القسطلاني [صاحب] المواهب اللدنية المتوفى سنة 923، وهو شرح كبير ممزوج في نحو عشرة أسفار له أوله: الحمد لله الذي شرح بمعارف عوارف السنة النبوية... إلى آخره.
قال فيه بعد مدح الفن والكتاب: طالما خطر لي أن أعلِّق عليه شرحًا أمزجه فيه مزجًا أميز فيه الأصل من الشرح بالحمرة؛ ليكون كاشفًا بعض أسراره مدركًا باللمحة موضحًا مشكله مقيدًا مهمله، وأطلقت لسن القلم بعبارات صريحة لخصتها من كلام الكبراء، ولم أتحاشَ من الإعادة في الإفادة عند الحاجة إلى البيان، ولا في ضبط الواضح عند علماء هذا الشأن، قصدًا لنفع الخاص والعام، فدونك شرحًا أشرقت عليه من شرفات هذا الجامع أضواء أنواره اللامع، واختفت منه كواكب الدراري، وكيف لا وقد فاض عليه النور في فتح الباري.
أراد بذلك أن شرح ابن حجر مندرج فيه، وسماه «إرشاد الساري».
وذكر في مقدمته فصولًا هي لفروع قواعد هذا الشرح أصول. وهذا الشرح موجود ومطبوع. /
3- ومن الشروح أيضًا «عمدة القاري» للعلامة بدر الدين أبي محمد محمود بن أحمد العيني الحنفي المتوفى سنة 855هـ وهو شرح كبير في عشرة أجزاء، أوله: الحمد لله الذي أوضح وجود معالم الدين... شرع في تأليفه في أواخر شهر رجب سنة 821هـ وفرغ منه في نصف الثلث الأول من جمادى الأولى عام 847، واستمد فيه من «فتح الباري» بحيث ينقل منه الورقة بكاملها، وبالجملة فهو شرح حافل كامل في معناه، لكنه لم ينتشر انتشار «فتح الباري» في حياة مؤلفه.
ويوصل صاحب «كشف الظنون» عدد شروح البخاري إلى سبع وخمسين شرحًا، ويذكر معها خمسة تعليقات وستة مختصرات(2)، فمن أراد الاستزادة فليرجع إلى «كشف الظنون» صفحة ░365 – 372▒.
[1] «كشف الظنون» صفحة 356، والكتاب موجود ومطبوع في 14 مجلد.
[2] أشهرها مختصر الزبيدي المسمى «التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح» حذف أسانيده وترك التكرار. والكتاب مطبوع وموجود.
