الإمام البخاري حياته ومنهجه في صحيحه

موضوع الكتاب وغايته

           موضوع الكتاب وغايته
          فأصل موضوعه أنه لا يدخل في كتابه إلاّ حديثًا صحيحًا، وهذا مستفاد من تسميته إياه: (الجامع الصحيح)، ولكنَّه لا يستوعب فيه كل الأحاديث الصحيحة. فهو يقول _كما يروي عنه الإسماعيلي_: لم أُخرج في هذا الكتاب إلاّ صحيحًا، وما / تركت من الصحيح أكثر، قال الإسماعيلي(1): لأنه لو أخرج كل صحيح عنده لجمع في الباب الواحد حديث جماعة من الصحابة، ولذكر طريقة كل واحد منهم إذا صحَّت فيصير كتابًا كبيرًا جداً.
          ثم رأى ألاّ يخليه من الفوائد الفقهية، والنكت الحكمية، فاستخرج بفهمه من المتون معاني كثيرة فرقها في أبواب الكتاب بحسب تناسبها، واعتني فيه بآيات الأحكام، فانتزع منها الدلالات البديعة، وسلك في الإشارة إلى تفسيرها السبل الواسعة.
          ويذكر الشيخ محي الدين أنه ليس مراد البخاري الاقتصار على الأحاديث فقط، بل مراده الاستنباط منها، والاستدلال لأبواب أرادها، ولهذا المعنى أخلى كثيرًا من الأبواب عن إسناد الحديث واقتصر فيه على قوله فيه: فلان عن النبي صلعم ، وقد يذكر المتن بغير إسناد وقد يورده معلقاً؛ لأنه يومئ بذلك إلى أن الحديث معلوم له أو سبق ذكره في كتابه، فلا ضير أن يحتج به على المسألة التي يترجم لها(2).
          وأشار إلى الحديث لكونه معلومًا وقد يكون مما تقدم، وربما تقدم قريباً، ويقع في كثير من أبوابه الأحاديث الكثيرة، وفي بعضها ليس فيه إلاّ حديث واحد، وبعضها ليس فيه إلاّ آية من كتاب الله، وبعضها لا شيء في البتة، ويدَّعي البعض أنه صنع ذلك عمداً، وغرضه أن يبين أنه لم يثبت عنده حديث بشرطه في المعنى الذي ترجم عليه، وكذلك وقع في بعض نسخ من الكتاب ضمُّ باب لم يذكر فيه حديث إلى حديث لم يذكر فيه باب فأشكل فهمه على الناظر.
          إذن لقد حدَّد الإمام البخاري موضوعه، ووضع شروطه، وبدأ في تصنيف كتابه فقسمه إلى كتب، وقسم الكتب إلى أبواب، ووضع له العناوين، وقد قام بهذه / العملية بنفسه (خلافًا للإمام مسلم الذي جمع كتابه دون أن يبوبه، ثم قام بهذه العملية الإمام النووي من بعده). فخرج كتاب محمد بن إسماعيل كما هو عليه من ترتيب وإتقان.
          ومن الغريب حقًا أن الأستاذ الحافظ عمر البلقيني حاول أن يعقد شبهًا بين طريقة البخاري في ترتيب كتبه في الصحيح وبين ما يعتقده كثير من العلماء من تناسب آخر ِكلِّ سورة مع أول التي تليها، ولئن دلّ هذا على شيء فإنه يدل على عمق النظرة المقدَّسة لكتاب البخاري إلى حدٍّ أمكن معه أن يلحظ عالم كبير كالبلقيني وتلميذه ابن حجر مثل هذا التشابه المذكور، ولا يريا بأسًا في التنبيه عليه، ولعلنا نتفق معهما في كثير من هذه الانتقالات الطبيعية التي أحكم فيها البخاري الربط بين كلِّ باب وما يليه، وإن كنا لا نستبعد أن تكون النظرة المقدسة ذاتها هي التي حملتهما على التماس تلك الروابط، وإن لم تكن واضحة على حدٍّ سواء في بعض المواطن، وإليك ما نقله ابن حجر تلخيصًا عن أستاذه البلقيني في التناسب بين كتب الجامع الصحيح وأبوابه؛ لتدرك مدى اعتداله تارة، وإيغاله تارة أخرى، ومن الملاحظ أن كتب البخاري وأبوابه في «الجامع الصحيح» (بمجرد أن تركت التبويب وما ماثلها من الموضوعات) أصبحت عبارة عن أبحاث تتعاقب من غير أن يوجد بين سوابقها ولواحقها روابط طبيعية كالتي لوحظت في الموضوعين الأساسيين المذكورين.
          قال ابن حجر(3) في «مقدمته» ملخصًا كلام شيخه البلقيني:
          بدأ البخاري كتابه بقوله: كيف بدء الوحي، ولم يقل كتاب الوحي ولا كتاب بدء الوحي؛ لأن بدء الوحي مما يشمل عليه الوحي. (ويقول ابن حجر: يظهر لي إنما عراه من باب؛ لأن كل باب يأتي بعده ينقسم منه، فهو أم الأبواب فلا يكون فقسمًا قسيماً لها). /
          وقدَّمه؛ لأنه منبع الخيرات وبه قامت الشرائع، وجاءت الرسالات، ومنه عرف الإيمان والعلوم، وكأن أوله إلى النبي صلعم بما يقضي الإيمان من القراءة والربوبية وخلق الإنسان، فذكر بعد كتاب الإيمان والعلوم. وكان الإيمان أشرف العلوم فعقبه بكتاب العلم، وبعد العلم يكون العمل، وأفضل الأعمال البدنية الصلاة، ولا يتوصل إليها إلاّ بالطهارة، فقال: «كتاب الطهارة»، فذكر أنواعها وأجناسها وما يصنع من لم يجد ماء ولا تراباً، إلى غير ذلك مما يشترك فيها الرجال والنساء، وما تفرد بها النساء، ثم «كتاب الصلاة» وأنواعها، ثم «كتاب الزكاة» على ترتيب ما جاء في حديث «بني الإسلام على خمس» واختلفت النسخ في الصوم والحج أيهما قبل الآخر، وكذا اختلف الرواية في الأحاديث، وترجم عن الحج بـ«كتاب المناسك» ليعم الحج والعمرة وما يتعلق بهما، كان في الغالب من يحج يمر بالمدينة الشريفة، فذكر ما يتعلق بزيارة النبي صلعم ، وما يتعلق بحرم المدينة.
          وهنا يقول ابن حجر: «ظهر لي أن يقال في تعقيبه الزكاة بالحج: إن الأعمال لما كانت بدنية محضة ومالية محضة وبدنية مالية معًا رتَّبها كذلك فذكر الصلاة، ثم الزكاة، ثم الحج، ولما كان الصيام هو الركن الخامس المذكور في حديث ابن عمر «بني الإسلام على خمس» عقب به فقال: «كتاب الصيام» وإنما أخره؛ لأنه من التروك، والترك وإن [كان] عملًا أيضًا لكنه عمل النفس لا عمل الجسد، فلهذا أخره، وإلا لو كان اعتمد على الترتيب الذي في حديث ابن عمر لقدَّم الصيام على الحج؛ لأن ابن عمر أنكر على من روي عنه الحديث بتقديم الحج على الصيام».
          وجعل بعد هذه التراجم كلها معاملة العبد مع الخالق، وبعدها معاملة العبد مع الخلق فقال: «كتاب البيوع»: وذكر تراجم بيوع الأعيان ثم بيع دين على وجه مخصوص وهو «السلم» وكان البيع يقع قهريًا فذكر «الشفقة» التي هي بيع قهري.
          ولما تمَّ الكلام على بيوع العين والدَّين الاختياري والقهري وكان ذلك / يقع فيه غبن من أحد الجانبين، إما في ابتداء العقد أو في مجلس العقد وكان في البيوع ما يقع على دينين لا يجب فيهما قبض في المجلس ولا تعيين أحدهما وهو «الحوالة» فذكرها. وكانت الحوالة فيها انتقال الدين من ذمة إلى ذمة أردفها بما يقتضي ضم ذمة إلى ذمة وهو «الكفالة» و«الضمان»، وكان الضمان شُرِعَ للحفظ فذكر «الوكالة» التي هي حفظٌ للمال، وكانت الوكالة فيها توكُّل على آدميٍّ فأردفها بما فبه التوكل على الله فقال: «كتاب الحرث والمزارعة» وذكر منها متعلقات الأرض و«الموات»، و«الغرس»، و«الشرب»، وتوابع ذلك. وكان في كثير من ذلك يقع الارتفاق فعقبه بـ «كتاب الاستقراض» لما فيه من فضل والإرفاق ثم ذكر: «العبد راع في مال سيده»، ولا يعمل إلا بإذنه للإعلام بمعاملة الأرقاء، فلما تمت المعاملات كان لابد أن يقع فيها منازعات فذكر «الإشخاص» و«الملازمة» و«الالتقاط». وكان الالتقاط وضع اليد بالأمانة الشرعية، فذكر بعده وضع اليد تعديًا وهو «الظلم» و«الغصب»، وعقَّبه بما يظن فيه غصب ظاهر وهو حق شرعي فذكر: «وضع الخشب في جدار الجار» و«صبّ الخمر في الطريق»، و«الجلوس في الأفنية» و«الآبار في الطريق»، وذكر في ذلك الحقوق المشتركة، وقد يقع في الاشتراك نهي، فترجم «النهي بغير إذن صاحبه»، ثم ذكر بعد الحقوق المشتركة العامة، الاشتراك الخاص فذكر: «كتاب الشركة» وتفاريعها، ولما كانت هذه المعاملات في مصالح الخلق ذكر شيئًا يتعلق بمصالح الرعية، وهي «الرهن» وكان الرهن يحتاج إلى «فكِّ رقبة» وهو جائز من جهة المرتهن لازم من جهة الراهن أردفه بـ«العتق» ((وهنا يبدو التكلف واضحاً)) الذي هو فك الرقبة، والملك الذي يرتب عليه جائز من جهة السيد لا من جهة العبد، فذكر متعلقات من «التدبير» و«الولاء» و«أم الولد»، و«الإحسان إلى الرقيق»، «وأحكامهم» «ومكاتباهم». ولما كانت الكتابة تستدعي إيتاء لقوله تعالى: { وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللهِ الَّذِي آتَاكُمْ }[النور:33] فأردفه «بكتاب الهبة» وذكر معها «العمرى والرقبى»، ولما كانت / الهبة نقل الملك الرقبة بلا عوض أردفه بنقل المنفعة بلا عوض وهو: «العارية»، «والمنيحة». ولما تمت المعاملات وانتقال الملك بالوجوه السابقة وكان ذلك يقع فيه تنازع فيحتاج إلى الإشهاد فأردفه بـ «كتاب الشهادات». ولما كانت البيانات قد يقع فيها تعارض ترجم «القرعة في المشكلات» وكان ذلك التعارض قد يقتضي صلحًا وقد بلغ بلا تعارض ترجم «كتاب الصلح» ولما كان الصلح قد يقع فيه الشرط عقبه بـ «الشروط في المعاملات»، ولما كانت الشروط قد تكون في الحياة وبعد الوفاة ترجم «كتاب الوصية» و«الوقف». فلما انتهى ما يتعلق بالمعاملات مع الخالق، ثم ما يتعلق بالمعاملات مع الخلق أردفها بمعاملة جامعة بين معاملة الخالق، وفيها نوع اكتساب فترجم «كتاب الجهاد» إذ به يحصل إعلاء كلمة الله تعالى وبدأ بـ: «فضل الجهاد» ثم ذكر ما يقتضي أن المجاهد ينبغي أن يعد نفسه في القتلى فترجم «باب التحنط عند القتال». وقريب منه «من ذهب ليأتي بخبر العدو وهو الطليعة»، وكان الطليعة يحتاج إلى ر«كوب الخيل». ثم ذكر من الحيوان ماله من خصوصية وهي «بغلة النبي صلعم وناقته»، وكان الجهاد في الغالب للرجال وقد يكون النساء معهم تبعًا فترجم «أحوال النساء في الجهاد»، وذكر باقي ما يتعلق بالجهاد، ومنه: «آلات الحرب»، «وهيئتها» و«الدعاء قبل القتال». وكل ذلك من آثار بعثته العامة فترجم: «دعاء النبي صلعم الناس إلى الإسلام»، وكان عزم الإمام على الناس في الجهاد إنما هو بحسب الطاقة، فترجم «عزم الإمام على الناس فيما يطيقون» وتوابع ذلك. وكانت الاستعانة في الجهاد تكون بجُعْل أو غير جُعْلٍ فترجم «الجعائل» وكان الإمام ينبغي أن يكون إمام القوم، فترجم: «المبادرة عند الفزع»، وكانت المبادرة لا تمنع من التوكل لاسيما في حق من نُصِر بالرعب فذكره مبادرته، على أن تعاطي الأسباب لا يقدح في التوكل فترجم: «حمل الزاد في الغزو»، ثم ذكر «آداب السفر»، وكان القادمون من الجهاد قد تكون معهم الغنيمة فترجم: «فرض الخمس» / وكان ما يؤخذ من الكفار تارة يكون بالحرب وتارة يكون بالصلح فذكر: كتابي «الجزية»، «وأحوال أهل الذمة»، ثم ذكر تراجم تتعلق «بالموادعة والعهد والحذر من الغدر».
          ولما تمت المعاملات الثلاث وكلها من الوحي المترجم عليه بـ«بدء الوحي» فذكر بعد هذه المعاملات: «بدء الخلق». هذا كله كلام البلقيني، ويعقب عليه ابن حجر هنا بقوله: «ويظهر لي أنه إنما ذكر «بدء الخلق» عقب «كتاب الجهاد» لما أن الجهاد يشتمل على إزهاق النفس، فأراد أن يذكر أن هذه المخلوقات محدثات، وأن مآلها إلى الفناء وأنه لا خلود لأحد» انتهى كلام ابن حجر.
          ومن مناسبة «ذكر الجنة والنار» اللتين مآل الخلق إليهما، ناسب ذكر «إبليس وجنوده» عقب «صفة النار» لأنهم أهلها، ثم ذكر «الجن» ولما كان خلق الدواب قبل خلق آدم عقَّبه بـ«خلق آدم»، وترجم «الأنبياء» نبيًا نبيًا على الترتيب الذي نعتقده، وذكر فيه ذا القرنين؛ لأنه عنده نبي، وأنه قبل إبراهيم ولهذا ترجمه بعد ترجمة إبراهيم. وذكر ترجمة أيوب بعد يوسف لما بينهما من مناسبة الابتلاء.
          وذكر قوله: { واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ }[الأعراف:163]. بعد قصة يونس؛ لأن [يونس] التقمه الحوت، فكان ذلك بلوى له فصبر فنجى. وأولئك ابتلوا بحيتان فمنهم من صبر فنجى، ومنهم من تعدى فعُذِّب، وذكر لقمان بعد سليمان؛ إما لأنه عنده نبي، وإما لأنه من جملة اتباع داود ◙، وذكر مريم؛ لأنها عنده نبية، ثم ذكر بعد الأنبياء أشياء من العجائب الواقعة في زمن إسرائيل، ثم ذكر الفضائل والمناقب المتعلقة بهذه الأمة وإنهم ليسوا بأنبياء مع ذلك.
          وبدأ بـ«قريش» لأن بلسانهم أُنزل الكتاب، ولما ذكر أسلم وغفارًا ذكر قريبًا منه: «إسلام أبي ذر»؛ لأنه أول من أسلم من غفار، ثم ذكر أسماء النبي صلعم وشمائله، وعلامات نبوته في الإسلام، ثم فضائل أصحابه، ولما كان المسلمون الذين اتبعوه وسبقوا إلى الإسلام، ثم فضائل أصحابه، ولما كان المسلمون الذين اتبعوه وسبقوا إلى الإسلام هم المهاجرون والأنصار، والمهاجرون مقدَّمون في السبق: ترجم / «مناقب المهاجرين»، ورأسهم أبو بكر الصديق فذكرهم، ثم اتبعهم بـ«مناقب الأنصار وفضائلهم»، ثم شرع بعد ذكر «مناقب الصحابة» في سياق سيرهم في إعلاء كلمة الله تعالى مع نبيهم، فذكر أولًا أشياء من أحوال الجاهلية قبل البعثة التي أزالت الجاهلية، ثم ذكر: «أذى المشركين للنبي صلعم وأصحابه»، ثم ذكر «أحوال النبي صلعم بمكة قبل الهجرة إلى الحبشة»، ثم «الهجرة إلى الحبشة»، وأحوال «الإسراء» وغير ذلك، ثم «الهجرة إلى المدينة المنورة»، ثم ساق «المغازي» على ترتيب ما صح عنده، وبدأ بإسلام ابن سلام تفاؤلًا بالسلامة في المغازي، ثم بعد إيراد «المغازي والسرايا» ذكر: «الوفود»، ثم «حجة الوداع»، ثم «مرض النبي صلعم ، ووفاته»، وما قبض صلعم إلا وشريعته كاملة بيضاء نقية، وكتابه قد كمل نزوله، فأعقب ذلك بـ«كتاب التفسير»، ثم ذكر عقب ذلك «فضائل القرآن الكريم»، ومتعلقاته، وآداب تلاوته، وكان ما يتعلق بالكتاب والسنة من الحفظ والتفسير وتقرير الأحكام يحصل به حفظ الدين في الأقطار، واستمرار الأحكام على الإعصار، وبذلك تحصل الحياة المعتبرة، أعقب ذلك بما يحصل منه النسل والذرية التي يقوم منها جيل بعد جيل يحفظون أحوال التنزيل فقال: «كتاب النكاح»، ثم أعقبه «كتاب الرضاع» لما فيه من متعلقات التحريم به، ثم ذكر ما يحرم من النساء وما يحل، ثم أردف ذلك بالمصاهرة، والنكاح الحرام، والمكروه، والخطبة، والعقد، والطلاق؟ والصداق، والولي، وضرب الدف في النكاح، والوليمة، والشروط في النكاح، وبقية أحوال الوليمة، ثم عِشْرة النساء، ثم أردفه بـ«كتاب الطلاق»، ثم ذكر «أنكحة الكفار»، ولما كان «الإيلاء» في كتاب الله مذكورًا بعد نكاح المشركين ذكره البخاري عقبه، ثم ذكر «الظهار» وهو فرقةٌ مؤقتة، ثم ذكر «اللعان» وهو فرقة مؤبدة، ثم ذكر «العُدَد» و«المراجعة»، ثم ذكر حكم الوطء من غير عقد. لما فرغ من توابع العقد الصحيح فقال: «مهر البغي»، و«النكاح الفاسد»، ثم ذكر «المتعة»، ولما انتهت الأحكام المتعلقة بالنكاح، وكان / من أحكامه أمر يتعلق بالزواج تعلقًا مستمراً، وهو «النفقة» ذكرها، ولما انقضت النفقات وهي من المأكولات غالباً، أردف بـ«كتاب الأطعمة»، وأحكامها وآدابها، ثم كان من الأطعمة ما هو خاص فذكر «العقيقة» وكان ذلك مما يحتاج فيه إلى ذبح ذكر «الذبائح»، وكان من المذبوح ما يُصاد فذكر «أحكام الصيد»، وكان من الذبح ما يُذبح في العام مرة فقال: «كتاب الأضاحي» وكانت المآكل تعقبها المشارب فقال: «كتاب الأشربة»، وكانت المأكولات والمشروبات قد يحصل منها في البدن ما يحتاج إلى طبيب فقال: «كتاب الطب»، وذكر تعلقات «المرض»، وثواب المرض وما يجوز إن يتداوى به، وما يجوز من الرقى، وما يكره منها ويحرم.
          ولما انقضى الكلام على المأكولات والمشروبات وما يزيل الداء المتولد منها أردف بـ «كتاب اللباس والزينة»، وأحكام ذلك، و«الطيب وأنواعه»، وكان كثير منها يتعلق بآداب النفس فأردفها بـ «كتاب الأدب»، و«البر والصلة»، و«الاستئذان» ولما كان «السلام والاستئذان» سببًا لفتح الأبواب السفلية أردفها بـ«الدعوات» التي هي فتح الأبواب العلوية، ولما كان الدعاء سبب المغفرة، ذكر «الاستغفار»، ولما كان الاستغفار سببًا لهدم الذنوب قال: «باب التوبة» ثم ذكر «الأذكار» المؤقتة وغيرها، و«الاستعاذة»، ولما كان الذكر والدعاء سببًا للاتعاظ ذكر «المواعظ والزهد»، كثيرًا من «أحوال يوم القيامة»، ثم ذكر ما يبين أن الأمور كلها بتصريف الله تعالى فقال: «كتاب القدر وذكر أحواله»، ولما كان القدر قد تُحال عليه الأشياء المنذورة، قال: «كتاب النذور»، فكان النذر فيه كفارة فأضاف إليه «الأيمان»، وكانت «الأيمان والنذر» تحتاج إلى الكفارة فقال: «كتاب الكفارة»، ولما تمت أحوال الناس في الحياة الدنيا ذكر أحوالهم بعد الموت فقال: «كتاب الفرائض» [فذكر أحكامه ولما تمت الأحوال بغير جناية ذكر الجنايات] الواقعة بين الناس فقال: «كتاب الحدود»، وذكر في آخره «أحوال المرتدين»، ولما كان المرتد قد لا يكفر إذا كان مكَرها قال: / «كتاب الإكراه»، وكان المكَره قد يضمر في نفسه حيلةً دافعةً فذكر «الحيل» وما يحل منها وما يحرم، ولما كانت الحيل فيها ارتكاب ما يخفى أردف ذلك بـ«تعبير الرؤيا» لأنها مما يخفى وإن ظهر المعبر، فقال الله تعالى: { وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ }[الإسراء:60] فأعقب ذلك بـ«كتاب الفتن»، وكان من الفتن ما يرجع فيه إلى الحكَّام فهم الذين يسعون في تسكين الفتنة غالباً، فقال: «كتاب الأحكام»، و«ذكر أحوال الأمراء والقضاة»، ولما كانت الإمامة والحكم قد يتمناهما قوم أردف ذلك بـ«كتاب التمني»، ولما كان مدار حكم الحكَّام في الغالب على «أخبار الآحاد» قال: «ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق».
          ولما كانت الأحكام كلها تحتاج إلى الكتاب والسنة قال: «الاعتصام بالكتاب والسنة» [وذكر أحكام الاستباط من الكتاب والسنة] والاجتهاد وكراهية الاختلاف، وكان أصل العصمة أولًا وآخرًا هو توحيد الله فختم بـ«كتاب التوحيد»، وكان آخر الأمور التي يظهر بها المفلح من الخاسر ثقل الموازين وخفتها، فجعله آخر تراجم كتابه فقال: «باب قول الله تعالى: { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ } [الأنبياء:47]». وإن أعمال بني آدم توزن، فبدأ بحديث: «إنما الأعمال بالنيات» وختم بأن أعمال بني آدم توزن، وأشار إلى أنه إنما يتقبل ما كان بالنية الخالصة لله تعالى، وهو حديث «كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم».
          فقوله: «كلمتان» فيه ترغيب وتخفيف، وقوله: «حبيبتان» فيه حثٌّ على ذكرهما لمحبة الرحمن إياهما، وقوله: «خفيفتان» فيه حثٌّ بالنسبة لما يتعلق بالعمل، وقوله: «ثقيلتان» فيه إظهار ثوابها، وجاء الترتيب بهذا الحديث على أسلوب عظيم، وهو أن حبَّ الرب سابق، وذكر العبد وخفة الذكر على لسانه تالٍ، وبعد ذلك ثواب هاتين الكلمتين إلى يوم القيامة، وهاتان الكلمتان معناهما جاء في ختام دعاء أهل الجنان لقوله تعالى: { دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }[يونس:10].
          هذا ما أورده ابن حجر في كتابه نقلًا ملخصًا / عن شيخه أبي حفص عمر البلقيني، ولقد أبدى فيه لطائف وعجائب، نقلته في هذه الرسالة وبيَّنت بعض المواضع التي يصدع فيها ابن حجر برأيه مخالفًا أو معلقًا على رأي شيخه.
          هذه تقريبًا الترتيبات التي اتبعها البخاري في ترتيب كتابه، وكان كلُّ كتاب يحوي عددًا من الأبواب، ومن أراد معرفة الأبواب بكاملها فليرجع إلى الكتاب، ولينعم النظر في هذه الأبواب، ليعلم منها مدى عقله المفكِّر المنطقي السليم الذي ساعده على إخراج كتابه بهذا الشكل المنقطع النظير.
          وقد رأيت من المستحسن لزيادة الوضوح بعد أن أوردتُ فهرس الكتب التي ذكرها الإمام البخاري مع المناسبة بينها أن أذكر أسماء الأبواب المنضوية تحت كتابٍ من كتبه، وقد اخترت «كتاب العلم» لأننا طلاب علم.
          كتاب العلم
          قد ذكر هذا الكتاب أربعة وخمسين بابًا على الترتيب الذي سنذكره لك:
          1- باب فضل العلم وقول الله تعالى: { يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } [المجادلة:11] ويثني بالآية: { رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا }[طه:114] ولم يذكر في هذا الباب أيَّ حديثٍ.
          2- باب من سئل علمًا وهو مشتغل في حديث فأتم الحديث ثم أجاب السائل، ويذكر في هذا الباب حديثًا واحدًا دون أن يذكر في أوله آية من القرآن الكريم.
          3- باب من رفع صوته بالعلم ويذكر فيه أيضًا حديثًا واحدًا دون آية.
          4- باب قول المحدث: حدثنا أو أخبرنا أو أنبأنا، ويذكر في هذا الباب حديثين.
          5- باب طرح الإمام المسألة على أصحابه ليختبر ما عندهم من العلم، ويذكر فيه حديثًا واحداً.
          6- باب ما جاء في العلم وقول الله تعالى: { وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا}[طه:114] ولا يذكر فيه شيئاً.
          7- باب القراءة والعرض على المحدِّث، ورأى الحسن وسفيان النوري ومالك أنهم كانوا يرون القراءة جائزة، ويذكر فيه أربعة أحاديث. /
          8- باب ما يذكر في المناولة وكتاب أهل العلم بالعلم إلى البلدان، ويذكر فيه ثلاث أحاديث.
          9- باب من قعد حيث ينتهي به المجلس، ومن رأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، يذكر فيه حديثًا واحداً.
          10- باب قول النبي صلعم : «رب مبلغ أو على من سامع» وفيه حديث واحد.
          11- باب العلم قبل العمل ويذكر فيه خمس آيات من كتاب لله أولاهما: { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ } [محمد:19] ثم يقول: فبدأ بالعلم، ثم يذكر فيه حديثين.
          12- باب من كان النبي صلعم يتخولنا(4) بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا.
          13- باب من جعل لأهل العلم أيامًا معلومة، وفيه حديث واحد.
          14- باب من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، وفيه حديث واحد.
          15- باب الفهم في العلم، فيه حديث واحد.
          16- باب الاغتباط في العلم والحكمة، وتحته حديثان.
          17- باب ما ذكر في ذهاب موسى في البحر إلى الخضر ◙، وقوله تعالى: { هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا }[الكهف:66]، وفيه حديث واحد.
          18- باب قول النبي صلعم : «اللهم علمه الكتاب» تحته حديث واحد.
          19- باب متى يصح سماع الضمير، ويورد فيه حديثين.
          20- باب الخروج في طلب العلم، وفيه حديث واحد، وهو حديث ذهاب موسى إلى البحر.
          21- باب فضل من علم وعلم.
          22- باب رفع العلم وظهور الجهل، وتحته حديثان.
          23- باب فضل العلم، وفيه حديث واحد. /
          24- باب الفتيا وهو واقف على الدابة، حديث واحد.
          25- باب من أجاب الفتيا بإشارة اليد والرأس، تحته ثلاثة أحاديث.
          26- باب تحريض النبي صلعم وفد عبد القيس على أن يحفظوا الإيمان والعلم ويخبروا به من وراءهم، وفيه حديثان.
          27- باب الرحلة إلى المسألة النازلة وتعليم أهله، حديث واحد.
          28- باب التناوب في العلم، يشمل حديثًا واحداً.
          29- باب الغضب في الموعظة والتعليم إذا رأى ما يكره، وفيه ثلاثة أحاديث.
          30- باب من برك على ركبتيه عند الإمام والمحدِّث، وفيه حديث واحد.
          31- باب من أعاد الحديث ثلاثاً، وفيه ثلاث أحاديث.
          32- باب تعليم الرجل أمته وأهله، وفيه حديث واحد.
          33- باب عظة النساء وتعليمهن، وفيه حديث واحد.
          34- باب الحرص على الحديث، وفيه حديث واحد.
          35- باب كيف يقبض العلم، وفيه حديث مكرر السند ولم يذكر المتن إلا مرة واحدة.
          36- باب هل يجعل للنساء يومًا على حدة في العلم، ويورد فيه حديثين.
          37- باب من سمع شيئًا فراجعه حتى يعرفه، وفيه حديث واحد.
          38- باب يبلغ العلم الشاهد الغائب، وفيه حديثان.
          39- باب إثم من كذب على النبي صلعم ، وفيه خمسة أحاديث.
          40- باب كتابة العلم، وفيه أربعة أحاديث.
          41- باب العلم والعظة في الليل، وفيه حديث واحد.
          42- باب السهر في العلم، وفيه حديثان.
          43- باب حفظ العلم، وفيه أربعة أحاديث. /
          44- باب الإنصات للعلماء، وفيه حديث واحد.
          45- باب ما يستحب للعالم إذا سئل: أي الناس أعلم؟ فيكل العلم إلى الله، وفيه حديث واحد.
          46- باب من سأل وهو قائم عالمًا جالساً، حديث واحد.
          47- باب السؤال والفتيا عند رمي الجمار، وفيه حديث واحد.
          48- باب قول الله تعالى: { وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً }[الإسراء:85] وفيه حديث واحد.
          49- باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقع في أشد منه، وفيه حديث واحد.
          50- باب من خص بالعلم قومًا دون قوم كراهية ألاّ يفهموا، وفيه أربعة أحاديث.
          51- باب الحياء في العلم، وفيه ثلاثة أحاديث.
          52- باب استحيا فأمر غيره بالسؤال، وفيه حديث واحد.
          53- باب ذكر العلم والفتيا في المسجد، وفيه حديث واحد.
          54- باب من أجاب السائل بأكثر مما سأله، وفيه حديث واحد.
          تمت أبواب هذا الكتاب نقلًا عن «صحيح البخاري» المجلد الأول الجزء الأول (ص21و22) طبعة عام 1315هـ بدار الطباعة العامرة في مصر.


[1] «مقدمة ابن حجر» ص 5 ويسمع إبراهيم بن معقل الشفي قريباً من هذا بنفس الصفحة س 10 أسفل الصفحة.
[2] «مقدمة ابن حجر» ص6 س9.
[3] ص470 إلى آخر البحث.
[4] تخول خالا اتخذ وتخول فلانا تعهده «القاموس المحيط» جـ3 ص371 س 1 من أسفل الصفحة.