الإسناد
لقد عرّف العلماء الحديث الصحيح بأن الحديث المسند(1)... إلى آخر التعريف، وهنا نجد لزامًا علينا أن نتعرَّض لبحث الإسناد.
فمعنى السند: هو الطريق الذي وصل الحديث بواسطته إلينا، ولقد اعتنى المسلمون بالإسناد عناية لم توجد عند غيرهم.
قال ابن الصلاح: إن أصل الإسناد خصيصة من خصائص فاضلة لهذه الأمة، وسنة بالغة من السنن المؤكدة. ثم يروي ابن الصلاح عن عبد الله بن المبارك أنه قال: «الإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء»، وطلب العلوّ فيه سنة أيضًا، ولذلك أستُحبَّت الرحلة فيه(2).
وقال ابن حزم: «نقل الثقة عن الثقة يبلغ به النبي صلعم مع الاتصال، خصّ الله به المسلمين دون سائر الملل»(3). وينقسم الإسناد إلى قسمين: /
أ. الإسناد العالي: وطلبه مستحبّ كما رأينا قبلاً. قال أحمد بن محمد ☺: «الإسناد العالي سنة من السلف». وسُئل يحيى بن معين في مرض موته: «ما تشتهي؟ قال: بيت خال وإسناد عال»، وقال ابن الصلاح: «العلو يبعد الإسناد من الخلل؛ لأن كل رجل من رجاله يحتمل أن يقع الخلل من جهته سهوًا أو عمدًا ففي قلتهم قلّة جهات الخلل، وفي كثرتهم كثرة جهات الخلل»(4).
وينقسم العلوّ المطلوب في رواية الحديث إلى خمسة أقسام:
الأول: هو القرب من رسول الله صلعم بإسناد نظيف غير ضعيف، وذلك أجلّ أنواع العلوّ(5).
الثاني: القرب من إمام من أئمة الحديث، وإن كثر العدد من ذلك الإمام إلى رسول الله صلعم ، وهذا رأيُ الحاكم. فإذا وُجِد ذلك في إسنادٍ وُصِفَ بالعلوّ نظرًا إلى قربه من الإمام، وإن لم يكن عاليا(6) بالنسبة إلى رسول الله صلعم .
الثالث: العلوّ بالنسبة إلى رواية الصحيحين أو أحدهما أو غيرهما من الكتب المعروفة المعتمدة(7).
الرابع: العلوّ المستفاد من تقدُّم وفاة الراوي، مثاله: ما أَرويه عن شيخ أخبرني به عن واحدٌ عن البيهقي الحافظ عن الحاكم أبي عبد الله الحافظ، أعلى من روايتي لذلك عن شيخ أخبرني به عن واحد عن أبي بكر بن خلف عن الحاكم وإن تساوى الإسناد في العدد، لتقدُّم وفاة البيهقي على وفاة ابن خلف؛ لأن البيهقي توفي سنة ثمان وخمسين وأربع مئة، وتوفي ابن خلف سنة سبع وثمانين وأربع مئة(8). /
الخامس: والعلوّ المستفاد من تقدُّم السماع، ويُؤيد ذلك ما ورد في «مقدمة ابن الصلاح»: أنبأنا محمد بن ناصر الحافظ عن محمد بن طاهر الحافظ قال: «من العلوّ تقدم السماع»(9).
وأما النزول للإسناد فهو ضد العلوّ، وأقسامه خمسة أيضًا، وتفصيلها يدرك من تفصيل أقسام العلوّ على نحو ما تقدم شرحه(10).
وقبل أن ننتقل من بحث الإسناد إلى غيره سنختمه بكلمة عن أصح الأسانيد، فأصح الأسانيد عند إسحق بن راهويه وأحمد بن حنبل: الزهري عن سالم عن أبيه(11).
وأما أصحّ الأسانيد كلها عند البخاري فهو: مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر(12) رضي الله عنهم أجمعين، وهذا ما يسمَّى بالسلسلة الذهبية.
وبنى على ذلك الإمام أبو منصور عبد القاهر بن طاهر التيمي أن أجلّ الأسانيد الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر(13).
ومن هذا كله يتَّضح لنا عناية علماء الحديث الشريف بجمعه ورجاله، وحرصهم على تمييز كلام النبيّ عليه الصلاة والسلام من غيره لئلا يدخل في الدين ما ليس منه، وكفاهم بالله مثبتاً.
[1] كلمة «المسند» وضعها الحافظ ابن الصلاح في التعريف، وتعقَّبه من بعده لأنه يخرج بقولنا المسند: أقوال الصحابة والتابعين، ولا شك أن هذا قصور في التعريف. (المعتني).
[2] «علوم الحديث» لابن الصلاح ص215.
[3] «علوم الحديث» لابن الصلاح ص215.
[4] «علوم الحديث» لابن الصلاح ص216.
[5] «علوم الحديث» لابن الصلاح ص216.
[6] «علوم الحديث» لابن الصلاح ص216.
[7] «علوم الحديث» لابن الصلاح ص217.
[8] «علوم الحديث» لابن الصلاح ص 220.
[9] «علوم الحديث» لابن الصلاح ص220.
[10] «علوم الحديث» لابن الصلاح ص 222.
[11] «علوم الحديث» لابن الصلاح ص11.
[12] «علوم الحديث» لابن الصلاح ص217.
[13] «علوم الحديث» لابن الصلاح ص11.
