الحديث المعلق
بقي علينا بعدما تقدم أن نتمم بحث اصطلاحاته في هذا الكتاب.
نعم لقد التزم فيه الأحاديث الصحيحة، وقسمه إلى كتب، وقسم الكتب إلى أبواب، وكان لا ينتقل من كتاب لآخر إلا أن تكون هناك مناسبة بين الكتابين أو بين الباب كما بينا.
ولما كان البخاري يذكر في كتابه أحاديث معلقة ويكرر الأحاديث ويقطِّعها كان علينا أن نشير إلى كل نوع من هذه الثلاثة، وأن نذكر الفائدة منه.
ما هو الحديث المعلق؟
الحديث المعلق: هو ما حذف من مبدأ إسناده واحد أو أكثر ولو إلى آخر السند، وتارة يجزم به، كـ قال، وتارة لا يجزم به، كـ يذكر.
والمعلق من المرفوعات قسمان:
أولاً- ما يوجد في موضع آخر من كتابه هذا موصولاً.
ثانياً- ما لا يوجد فيه إلا معلقاً.
ولنعد إلى بيان كل من هذين النوعين على حدة.
النوع الأول: إنه يورده معلقًا حيث يضيق مخرج الحديث، إذ من قاعدته أن لا يكرر إلا لفائدة، فمتى ضاق المخرج واشتمل المتن على أحكام فاحتاج إلى تكريره، فإنه يتصرف في الإسناد بالاختصار خشية التطويل.
النوع الثاني: هو ما لا يوجد فيه إلا معلقًا فإنه على صورتين:
أ- الصورة الأولى: هي أن يورد الحديث بصيغة الجزم ويستفاد منه الصحة إلى من علق عنه، (لكنه يبقى النظر في أبرز رجال ذلك الحديث، فمنه ما يلتحق بشرطه ومنه ما لا يلتحق) أما ما يلتحق بشرطه: فالسبب في كونه لم يوصل يعود للأمور الأربعة التالية: /
1 - إنه أخرج ما يقوم مقامه فاستغنى عن إيراده مستوفى السياق، ولم يهمله بل أورده بصيغة التعليق طلبًا للاختصار.
2 - إنه لم يحصل عنده مسموعاً.
3 - سمعه وشك في سماعه له من شيخه.
4 - سمعه من شيخه مذاكرة فما رأى أن يسوقه مساق الأصل.
مثال عن الحديث المعلق:
قال في «كتاب الوكالة»: وقال عثمان بن الهيثم أبو عمرو: حدثنا عوف عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة ☺، قال: وكلني رسول الله صلعم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آتٍ فجعل يحثو من الطعام، فأخذته وقلت له: والله لأرفعنك إلى رسول الله صلعم . قال: إني محتاج، وعليَّ عيال، ولي حاجة شديدة، قال: فخلَّيت عنه، فأصبحت، فقال النبي صلعم : يا أبي هريرة ما فعل الله بأسيرك [ما فعل أسيرك] البارحة؟ قال: قلت يا رسول الله شكا حاجة شديدة، وعيالاً، فرحمته فخليت سبيله، قال: أما إنه كذب، وسيعود، فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله صلعم : أنه سيعود، فرصدته فجاء يحثو من الطعام فأخذته، فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلعم قال: دعني فإني محتاج، وعلي عيال، لا أعود، فرحمته، فخليت سبيله، فأصبحت فقال رسول الله صلعم : يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟... إلى أخر الحديث الموجود في باب الوكالة (جـ3 ص64).
فقد أورد الإمام البخاري هذا الحديث في مواضع أخرى، بمثلها: في «فضائل القرآن» وفي «ذكر إبليس»، و«فضل البقرة». (جـ6 ص104) ذكره مختصراً.
ولم يقل في موضوع منها «حدَّثنا عثمان»، فالظاهر أنه لم يسمعه منه، وقد استعمل البخاري هذه الصيغة فيما لم يسمعه من مشايخه في عدة أحاديث، فيوردها عنهم بصيغة، ثم يوردها في موضع آخر بواسطة بينه وبينهم. /
وقال في «التاريخ»: قال إبراهيم بن موسى: حدثنا هشام بن يوسف، فذكر حديثاً، ثم قال: حدثوني بهذا عن إبراهيم. [أوقفت هنا اللون الأصفر وما سيشتبه سأجعله بالأخضر فقط]
ولكن ليس ذلك مطردًا في كل ما أورده بهذه الصيغة، ومع هذا الاحتمال لا يمكن حمل جميع ما أورده بهذه الصيغة على أنه سمع ذلك من شيوخه، ولا يلزم من ذلك أن يكون مدلسًا عنهم، فقد صرح الخطيب وغيره بأن لفظ (قال): لا يحمل على السماع إلا ممن عرف من عادته أنه لا يطلق ذلك إلا فيما سمع، فاقتضى ذلك أنَّ من عادته كان الأمر فيه على الاحتمال، والله أعلم.
وأما ما لا يلتحق بشرط البخاري وهو ثلاثة أقسام:
القسم الأول: لا يلتحق بشرط البخاري لكنه صحيح على شرط غيره.
القسم الثاني: لا يلتحق بشرط البخاري لكنه حسن للحجة.
القسم الثالث: لا يلتحق بشرط البخاري، لكنه ضعيف من جهة انقطاع يسير في إسناده، لا من جهة قدح في رجاله.
قال الإسماعيلي: قد يصنع البخاري ذلك إما لأنه سمعه من ذلك الشيخ بواسطة من يثق به عنه، وهو معروف مشهور عن ذلك الشيخ.
أو لأنه سمعه ممن ليس من شرط الكتاب فنبَّه على ذلك الحديث بتسمية من حدَّث به، لا على جهة التحديث عنه، والسبب فيه أنه أراد ألا يسوقه مساق الأصل.
أمثلة:
1 - فمثال ما هو صحيح على شرط غيره قوله في «الطهارة»: وقالت عائشة: «كان النبي صلعم يذكر الله على كل أحيانه»، وهو حديث صحيح على شرط مسلم، وقد أخرجه في صحيحه.
2 - وأما مثال ما لا يلتحق بشرطه، ولكنه حسن صالح للحجة قوله فيه: /
وقال بهز بن حكيم: عن أبيه عن جده: «الله أحق أن يستحيا منه من الناس»، وهو حديث مشهور عن بهز أخرجه أصحاب السنن.
3 - ومثل ما هو ضعيف بسبب الانقطاع لكنه منجبر بأمر آخر قوله في «كتاب الزكاة»: وقال طاووس: قال معاذ بن جبل لأهل اليمن: «أئتوني بعرض ثياب خميص أو لبيس في الصدقة مكان الشعير والذرة أهون عليكم وخير لأصحاب محمد صلعم » فإسناده إلى طاووس [متصل]، إلا أن طاووسًا لم يسمع من معاذ.
هذا كله بالنسبة للصيغة التي يجزم بها.
ب- الصورة الثانية: وهي صيغة التمريض ولا يستفاد منها الصحة إلى من علق عنه، ولكن فيها ما هو صحيح وفيها ما ليس صحيح.
1- الصحيح من صيغة التمريض:
وأما الصحيح من صيغة التمريض فلم نجد ما هو على شرطه إلا مواضع يسيرة ووجدناه لا يستعمل ذلك إلا حيث يورد ذلك الحديث المعلق بالمعنى، كقوله في «الطب»: ويُذكر عن ابن عباس(1): عن النبي صلعم ، في الرقى بفاتحة الكتاب، فإنه أسنده في موضع أخر من طريق عبيد الله ابن الأخنس عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس☻: أن نفرًا من أصحاب رسول الله صلعم ، مروا بحي فيهم لديغ فذكر الحديث في رقيتهم للرجل بفاتحة الكتاب، وفيه: «إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله»(2).
فهذا كما ترى لمّا أورده بالمعنى لم يجزم به، إذ ليس في الموصل أنه صلعم ذكر الرقية بفاتحة الكتاب، إنما فيه أنه لم ينههم عنه فاستفيد ذلك من تقريره. /
وأما ما لم يورده في موضع آخر مما أورده في هذه الصيغة فمنه:
1- ما هو صحيح إلا أنه ليس على شرطه.
2- ما هو حسن.
3- ما هو ضعيف فردٌ إلا أن العمل على موافقته.
4- ومنه ما هو ضعيف فردٌ لا جابر له.
فمثال الأول: الصحيح الذي ليس على شرطه:
أنه قال في الصلاة: ويذكر عن عبد الله بن السائب قال: «قرأ النبي صلعم المؤمنون في صلاة الصبح، حتى إذا جاء ذكر موسى وهارون أو ذكر عيسى، أخذته سعلة فركع» وهو حديث صحيح على شرط مسلم، أخرجه في «صحيحه» إلا أن البخاري لم يخرج لبعض رواته.
ومثال الثاني: وهو الحسن:
قوله في البيوع: «ويذكر عن عثمان بن عفان ☺ أن النبي صلعم قال: إذا بعت فَكِلْ، وإذا ابتعت فاكتل» وهذا الحديث قد رواه الدارقطني من طريق عبد الله بن المغيرة وهو صدوق عن منقذ مولى عثمان، وقد وُثِّق عن عثمان، به، وتابعه عليه سعيد ابن المسبب، ومن طريق آخر أخرجه أحمل في «المسند» إلا أن في إسناده ابن لهيعة، ورواه بن أبي شيبة في «مصنفه» من حديث عطاء عن عثمان وفيه انقطاع، فالحديث حسنٌ لما عضده من ذلك.
ومثال الثالث: وهو الضعيف الفرد الذي لا عاضد له إلا أنه على وَفْقِ العمل:
قوله في «الوصايا»: «ويذكر عن النبي صلعم أنه قضى بالدين قبل الوصية». وقد رواه الترمذي موصولًا من حديث أبي إسحاق السَّبيعي عن الحارث الأعور، عن علي، والحارث ضعيف وقد استغربه الترمذي، ثم حكى إجماع أهل العلم على القول به.
المثال الرابع: وهو الضعيف الفرد الذي لا عاضد له في الكتاب، وليس على وَفِق العمل، وهو قليل جداً، وحيث يقع ذلك فيه يتعقبه المصنِّف بالتضعيف بخلاف / ما قبله، فمن أمثلته:
قوله في «كتاب الصلاة»: «ويذكر عن أبي هريرة رفعه: لا يتطوع الإمام في مكانه» ولم يصح، وهو حديث أخرجه أبو داوود من طريق ليث بن أبي سُليم، عن الحجاج بن عبيد، عن إبراهيم بن إسماعيل، عن أبي هريرة.
وليث بن أبي سُليم ضعيف، وشيخ شيخه لا يُعرف، وقد اختلف عليه فيه. فهذا حكم الجميع ما في الكتاب من التعاليق(3).
[1] راجع الحديث في البخاري جـ 7 باب الطب ص 22-23.
[2] راجع الحديث في البخاري جـ 7 باب الطب ص23.
[3] وقد خص ابن حجر في مقدمته فصلاً يذكر فيه الأحاديث المعلقة وفي أي مكان وصلت من ص 14 إلى ص 71.
