مجمع البحرين وجواهر الحبرين

أبواب فضائل المدينة

          ░░29▒▒ فضائل المدينة
          ░1▒ باب ما جاء في حرم المدينة
          فيه أربعة أحاديث:
          أحدها:
          1867- عن عاصم الأحول، عن أنس بن مالك عن النبي صلعم: ((المدينة حرم))، الحديث.
          1868- حديثه أيضاً من حديث أبي التياح _واسمه: يزيد بن حميد_ قال: قدم النبي صلعم المدينة، الحديث.
          1869- حديث أبي هريرة قال: قال النبي صلعم: ((حرم ما بين لابتي المدينة))، الحديث.
          1870- حديث علي ☺ قال: ما عندنا إلا كتاب الله، الحديث.
          حديث أنس أخرجه (م) أيضاً، ويأتي في الاعتصام، وحديث أنس الثاني سلف في المساجد.
          وحديث أبي هريرة أخرجه (م)، وحديث علي أخرجه (م)أيضاً بلفظ: ((المدينة حرم ما بين عير إلى ثور)).
          قوله: ((من كذا إلى كذا)): وفي رواية: ((ما بين عائر إلى كذا)) واختلف فيهما هل هما بالمدينة أو بمكة، والحق: أنهما بالمدينة وأنهما معروفان.
          قال ابن المنير: قوله: ((من عير إلى كذا)): سكت عن النهاية، وقد جاء في طريق آخر: ((ما بين عير إلى ثور))، قال: والظاهر أن (خ) أسقطها عمداً؛ لأن أهل المدينة ينكرون أن يكون بها جبل يسمى ثوراً، وإنما ثور بمكة، فلما تحقق عنده أنه وهم أسقطه وكذا بقية الحديث، وهو مفيد يعني: بقوله: ((من عير إلى كذا)) إذ البداءة يتعلق بها حكم، فلا تترك؛ لإشكال سنح في حكم النهاية، وقد ذكرها في الجزية والموادعة إلى ثور.
          نعم أنكر مصعب الزبيري وغيره هاتين الكلمتين _أعني: عيراً وثوراً_ وقالوا: ليسا بالمدينة، عير بمكة.
          قال صاحب ((المطالع)): أكثر رواة (خ) ذكروا عيراً، وأما ثور فمنهم من كنى عنه بكذا، ومنهم من ترك مكانه بياضاً إذ اعتقدوا الخطأ في ذكره.
          وقال أبو عبيد: كأن الحديث: ((من عير إلى أحد)).
          قلت: وكذا رواه الطبراني في ((أكبر معاجمه)) في حديث عبد الله بن سلام. وذكر الإمام البكري عن أبي عبيد أيضاً أنه بالمدينة، فلعله رجع آخراً.
          وذكر الإمام أبو محمد عبد السلام بن مزروع البصري أنه لما خرج رسولاً من صاحب المدينة إلى العراق كان معه دليل يذكر له الأماكن والأجبلة، فلما وصل إلى أحد، إذا بقربه جبيل صغير فسأله: ما اسم هذا الجبل؟ قال: هذا يسمى ثوراً.
          قلت: فصح الحديث.
          وقال حكى المحب الطبري: هو جبل بالمدينة رأيته غير مرة وحددته.
          قال عياض: وبيض آخرون موضع ((ثور)) في الحديث، ومنهم من روى ((من كذا إلى كذا)).
          وفي رواية النسفي وابن السكن: <من عير إلى كذا> وكذا وفي وراية أبي علي من رواية أبي كثير.
          وقال آخرون: من الرواية الصحيحة أنه حرم ما بين عير إلى أحد، وأن ثوراً بمكة وعيراً بالمدينة. وهو بفتح العين، ثم مثناة تحت ساكنة، ثم راء، قاله ابن السيد في ((مثلثه)).
          وأغرب ابن قدامة حيث قال: يحتمل أن يكون قد أراد قدر ما بين ثور وعير اللذين بمكة، ويحتمل أنه أراد جبلين بالمدينة، وسماهما عيراً وثوراً تجوزاً، وهما احتمالان بعيدان، وعند ثبوت ذلك ومعرفتهما فلا اعتراض ولا احتمال.
          وحرم مدينة سيدنا رسول الله صلعم ما ذكرناه.
          واللابتان: الحرتان، وهي أرض بركتها حجارة سود، وهما الطرفان.
          قال أبو عبيد: وجمعها: لاب ولوب كقارة وقور، وجمعت أيضاً على لاب، ما بين الثلاث إلى العشر، وهما غربية وشرقية.
          قال ابن حبيب: وتحريم رسول الله صلعم البتي(1) المدينة إنما ذلك في الصيد، فأما قطع الشجر فبريد في بريد في دور المدينة كله، كذا أخبرني ابن مطرف عن مالك، وهو قول عمر بن عبد العزيز، وللمدينة حرتان أيضاً: حرة / في القبلية وحرة في الجوف، وترجع كلها إلى الحرتين؛ لأن القبلية والجوفية تفصلان بهما، وكذلك حرم رسول الله صلعم ما بين لابتي المدينة، جمع دورها كلهه في اللابتين، وقد ردها حسان بن ثابت إلى حرة واحدة فقال:
لنا حرة مأطورة بجبالها                     بني العز فيها بيته فتأيلا
          ومأطورة يعني: مقطوعة بجبالها؛ لاستدارتها، وإنما جبالها الحجارة السود التي تسمى الحرار وقالوا: أسود لوبي ونوبي، منسوبة إلى اللوبة والنوبة، حكاه في ((المحكم)).
          فإن قلت: ما إدخال حديث أنس في بناء المسجد في هذا الباب بعد قوله: ((لا يقطع شجرها))؟.
          قلت: وجهته _كما قال المهلب_ ليعرفك أن قطع النخل كان ليبوئ المسلمين مسجداً، ففيه من الفقه: أن من أراد أن يتخذ جناناً في حرم المدينة ليعمرها ويغرس فيها النخل، ويزرع فيها الحبوب، أنه لا يتوجه إليه النهي عن قطع شجرها ولا يمنع قطع ما فيه من شجر الشعراء، وشوكها؛ لأنه يبتغي الصلاح والتأسيس للسكنى في موضع العمارة.
          وقيل: قطعه للنخل من موضع المسجد يدل أن النهي يتوجه إلى ما أنبته الله تعالى من الشجر، مما لا صنع فيه لآدمي؛ لأن النخيل التي قطعه من موضع المسجد كان بغرس الآدميين؛ لأنه طلب شراء الحائط من بني النجار إذ كان ملكاً لهم، وعلى هذا التأويل حمل نهيه ◙ عن قطع شجر مكة.
          واتفق مالك والشافعي وأحمد وجمهور الفقهاء على أن الصيد محرم في حرم المدينة، وقال أبو حنيفة وأصحابه: صيدها غير محرم، وكذلك قطع شجرها، مخالف أحاديث الباب، واحتج الطحاوي بحديث أنس أنه ◙ دخل دارهم، وكان لأنس أخ صغير، وكان له نغر يلعب به، فقال له رسول الله صلعم: ((يابا عمير ما فعل النغير؟)) ولا حجة فيه؛ لأنه يمكن أن يصاد ذلك العصفور من غير حرم المدينة، قالوا: وبدخوله صار حرمياً، ولا نسلم لهم ذلك، وروي عن عائشة: كان لآل رسول الله صلعم وحش، فإذا خرج رسول الله صلعم لعب واشتد وأقبل وأدبر، فإذا أحس برسول الله صلعم قد دخل، ربض، قالوا: فحبس الوحش، وإغلاق الباب عليه دليل على إباحته.
          وأخذ سعد بن أبي وقاص سلب من صاد في حرمها وقطع شجرها، ورواه عن النبي صلعم، إلا أن أئمة الفتوى لم يقولوا بأخذ سلبه، وإن كان هو المختار.
          قال أبو عمر: واحتج لأبي حنيفة بحديث سعد بن أبي وقاص مرفوعاً: ((من وجدتموه يصيد في حدود المدينة، ويقطع شجرها فخذوا سلبه))، قال: واتفق العلماء على أنه لا يؤخذ سلب من صاد في المدينة، فدل على أنه منسوخ.
          قال: ويحتمل أن يكون معنى النهي عن صيدها وقطع شجرها؛ لأن الهجرة كانت إليها، فكان بقاء الصيد والشجر مما يزيد في تزينها ويدعو إلى إلفها، كما روى ابن عمر ((أن النبي صلعم نهى عن هدم آطام المدينة فإنها من زينة المدينة)).
          قوله: ((حرم ما بين لابتيها على لساني)): يريد أن تحريمها كان بالوحي، فوجب تحريم صيدها وقطع شجرها، إلا أن جمهور العلماء _كما قاله المهلب_ على أنه لا جزاء في حرمها، لكنه آثم عندهم من استحله.
          فإن قال الكوفيون: لما أجمعوا على سقوط الجزاء في حرمها دل أنه غير محرم؟
          فالجواب: أنه لا حجة في هذا؛ لأن صيد مكة قد كان محرماً على غير هذه الأمة، ولم يكن عليهم فيه جزاء، وإنما الجزاء فيه على أمة محمد، فليس إيجاب الجزاء فيه علة للتحريم.
          وشذ ابن أبي ذئب، وابن نافع صاحب مالك، والشافعي في أحد قوليه، فأوجبوا فيه / الجزاء، واستدل على مسقوطه بأنه ◙ لما حرمها وذكر ما ذكر، لم يذكر جزاء من قتل الصيد، وما كان من جهته ◙ ليس ببيان لما في القرآن، فليس بمحرم تحريم القرآن، وإنما هو مكروه حتى يكون بين تحريمه وبين تحريم القرآن فرق. (2)
          وحديث سعد السالف في أخذ سلبه فلم يصح عند مالك ولا رأى العمل عليه بالمدينة، ولو صح لأوجب الجزاء على من لا سلب له، ولو لم يكن على القاتل إلا ما يستر به عورته لم يجز أخذه، وكشف عورته، فثبت أن الصيد ليس مضموناً أصلاً، ألا ترى أن صيد مكة لما كان مضموناً لم يفترق حكم الغني والفقير، ومن له سلب ومن لا سلب له في أنه مضمون عليه أي وقت قدر؟
          وقال مالك: لم أسمع أن في صيد المدينة جزاء، ومن مضى أعلم ممن بقي، فقيل له: فهل يؤكل؟ فقال: ليس كالذي يصاد بمكة، وإني لا أكرهه.
          وقول علي: ((ما عندنا شيء سوى كتاب الله، وما في هذه الصحيفة)): فيه: رد على ما يدعيه الشيعة بأن علياً عنده وصية من سيدنا رسول الله صلعم بأمور كثيرة من أسرار العلم وقواعد الدين.
          وفيه: جواز كتابة العلم.
          وفي حديث أنس وعلي: لعنة أهل المعاصي والمعاند لإقامة الشرع.
          وفيه: أن المحدث في حرم المدينة والمؤذي للمحدث في الإثم سواء كما في حرم مكة، وأن من فعل ذلك فهو كبيرة؛ لأن اللعنة لا يكون إلا عليها، لاسيما ما في هذا من المبالغة في الطرد والإبعاد عن الجنة لا عن الرحمة.
          والمراد باللعن هنا: العذاب الذي يستحقه على ذنبه.
          قال الخطابي: روي: ((محدثاً)): بفتح الدال، معناه: الرأي المحدث في الدين والسنة، أراد الإحداث نفسه، قال: ويروى بكسر الدال، يريد: الذي أحدثه.
          قال أبو عبيد: الحدث كل حد لله تعالى يجب على صاحبه أن يقام عليه، وهو شبيه بحدث الرجل يأتي حداً من الحدود ثم يلجأ إلى الحرم أنه لا يقام عليه فيه، ولكنه يلجأ حتى يخرج منه، فإذا خرج منه أقيم عليه، فجعل الشارع حرمة المدينة كحرمة مكة في المأثم في صاحب الحد أن لا يؤويه أحد حتى يخرج منه فيقام عليه الحد.
          قوله: ((أوى)): وآوى: بالقصر والمد في الفعل اللازم والمتعدي جميعاً، لكن القصر في اللازم أشهر وأفصح، والمد في المتعدي أشهر وأفصح وبالأفصح جاء القرآن: {إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ} [الكهف:63] فهذا في اللازم، وقال في المتعدي: {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ} [المؤمنون:50].
          وفي قول بني النجار: ((لا نطلب ثمنه إلا إلى الله)): فيه من الفقه: إثبات الأحباس المراد بها وجه الله؛ لأنهم وهبوا البقعة للمسلمين حبساً موقوفاً عليهم، وطلبوا الأجر على ذلك من الله تعالى.
          وفي حديث أبي هريرة من الفقه: أن للعالم أن يقول على غلبة الظن، ثم ينظر ليصحح النظر ويقول بعد ذلك، كما قال ◙ لبني حارثة.
          قوله: ((لا يقبل منه صرف ولا عدل)): هذا يمكن أن يكون في وقت دون وقت إن أنفذ الله عليه الوعيد، ليس هذا له عند الله أبداً؛ لأن الذنوب لا تخرج من الدين إلى الكفر.
          ومعنى: ((أخفر مسلماً)): نقض عهده.
          قال الخليل: أخفرت الرجل: إذا لم تر بذمته، والاسم: الخفور.
          وقال ابن فارس، يقال: أخفر عهده: نقضه، وخفره: إذا أمنه، وأخفرته: جعلت معه خفيراً. قال: وأخفرت الرجل: نقضت عهده.
          والذمة: العهد والأمان، فأمان الكافر للمسلم صحيح ويحرم التعرض له ما دام في الأمان.
          قوله: ((يسعى بها أدناهم)): فيه: حجة لمن أجاز أمان العبد والمرأة وهو مذهب مالك والشافعي؛ لأنهما أدنى من الأحرار الذكور، وأبى ذلك أبو حنيفة فقال: إلا أن يكون سيده أذن له في القتال.
          والصرف والعدل قال أبو عبيدة: العدل: الحيلة، وقيل: المثلة. وقيل: الصرف: الدية، والعدل: الزيادة.
          وقال أبو عبيد عن مكحول: الصرف: التوبة، والعدل: الفدية. ويقال: إن الصرف النافلة، والعدل: الفريضة. وقال يونس: الصرف: الاكتساب، والعدل: الفدية.
          وقال أبو علي البغدادي: الصرف: الحيلة والاكتساب، والعدل: الفدية والدية، صحيح في الاشتقاق، فأما من قال: الصرف: الفريضة، / والعدل: النافلة، والصرف: الدية، والعدل: الزيادة على الدية، فغير صحيح في الاشتقاق.
          وقال الطبري: الصرف مصدر من قوله: صرفت نفسي عن الشيء، أصرفها صرفاً، وإنما عني به في هذا الموضع صرف راكب الذنب، وهو المحدث في الحرم حدثاً من سفك دم، أو استحلال محرم، فلا تقبل توبته، والعدل: ما يعدله من الفدية والبدل، وكل ما عادله الشيء من غير جنسه وكان له مثلاً من وجه الجزاء لا من جهة المشابهة في الصورة والخلقة فهو له عدل _بفتح العين_ ومنه قوله تعالى: {وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ} [الأنعام:70] بمعنى: وإن تفد كل فدية.
          وأما العدل _بكسر العين_ فهو مثل الحمل المحمول على الظهر، يقال: عندي غلام عدل غلامك، وشاة عدل شاتك بكسر العين: إذا كان يعدله، وذلك في كل مثل الشيء من جنسه، فإذا أراد أن عنده قيمته من غير جنسه فتحت العين، فتقول: عندي عدل شاتك من الدراهم.
          وقد ذكر عن بعض العرب أنهم يكسرون العين من العدل الذي هو الفدية، وذلك لتقارب معنى العدل عندهم.
          وفي ((المحكم)): الصرف: الوزن، والعدل: الكيل، وقيل: الصرف: القيمة، والعدل: الاستقامة.
          قال عياض: فقيل في معنى ذلك: أي لا تقبل فريضته ولا نافلته قبول رضى وإن قبلت قبول جزاء. وقيل: القبول هنا بمعنى تكفير الذنب بها.
          وقال ابن التين: تحصلنا على ستة أقوال في الصرف: الحيلة، النافلة، التوبة، الفريضة، الاكتساب، الوزن، والعدل أربعة: النافلة، الفدية، الفريضة.
          ومعنى قول: ((غير مواليه)): يحتمل الحلف والموالاة، ولم يجعل إذن الموالي شرطاً في جواز ادعاء نسب أراد، لكن ذكره توكيداً للتحريم، يبينه الحديث الآخر: ((من تولى غير مواليه، فعليه لعنة الله)).
          قال والدي ⌂:
          قوله: ((من كذا إلى كذا)): لم يصرح بما قال غيره: ((من عير إلى ثور)) إذ لم يصح عنده أن بالمدينة موضعاً أو جبلاً يسمى بثور.
          قوله: ((لا يحدث)): بلفظ المعروف والمجهول؛ أي: لا يعمل فيها عمل مخالف للكتاب والسنة.
          قوله: ((أبو التياح)): بالمثناة الفوقانية ثم التحتانية المشددة وبالمهملة و((بنو النجار)): بفتح النون وتشديد الجيم وبالراء: بطن من الأنصار و((ثامنوني)): أي: بايعوني بالثمن و الخرب _بفتح الخاء وكسر الراء_ جمع الخربة، وفي بعضها: بكسر الخاء وفتح الراء.
          واللابة _بتخفيف الموحدة_ الحرة وهي الأرض التي ألبستها حجارة سود والمدينة بين حرتين يكتنفانها إحداهما شرقية والأخرى غربية، وقيل: المراد به أنه حرم المدينة ولابتيها جميعاً.
          قوله: ((بني حارثة)): بالمهملة وبالراء وبالمثلثة: قبيلة من الأنصار ظن رسول الله صلى عليه وسلم أنهم خارجون من الحرم فلما تأمل مواضعهم رآهم داخلين فيه فقال: ((بل أنتم فيه)).
          قوله: ((شيء)): أي: من أحكام الشريعة.
          فإن قلت: ليس الحكم منحصراً فيهما إذ عندهم كثير من السنة؟
          قلت: المراد: شيء مكتوب إذ لم تكن السنن في ذلك الوقت مكتوبة في الكتب مدونة في الدواوين.
          فإن قلت: تقدم في باب كتابة العلم أنه كان في الصحيفة: ((العقل وفكاك الأسير)) وههنا قال فيها: ((المدينة حرم..إلى آخره))؟
          قلت: لا منافاة بينهما لجواز كون الكل فيها.
          قوله: ((عائر)): بالمهملة والألف والهمزة والراء: جبل بالمدينة، وفي بعضها: ((عير)) بدون الألف.
          قال القاضي عياض: أكثر رواة (خ) ذكروا عيراً وأما ثور فمنهم من كنى عنه بلفظ: ((كذا)) ومنهم من ترك بياضاً مكانه؛ لأنهم اعتقدوا أن ذكر ثور خطأ إذ ليس بالمدينة موضع يسمى ثوراً، وإنما ذلك هو في مكة، وقال بعضهم: الصحيح: بدله؛ أي: ((من عير إلى أحد)).
          قال النووي: يحتمل أن ثوراً كان اسماً لجبل هناك إما أحد وإما غيره فخفي اسمه، وقيل: ما بين لابتيها بيان لحد حرمها من جهتي المشرق والمغرب وما بين جبليها / بيان لحده من جهة الجنوب والشمال.
          قال الطيبي: المراد أن حرم المدينة قدر ما بين عير وثور في حرم مكة بتقدير حذف المضاف.
          قوله: ((آوى)): بالقصر والمد في الفعل اللازم والمتعدي جميعاً لكن القصر في اللازم والمد في المتعدي أشهر.
          الخطابي: يروى: محدثاً _بفتح الدال_ أي: الرأي المحدث في أمر الدين والسنة، وبكسرها؛ أي: صاحبه الذي أحدثه؛ أي: الذي جاء ببدعة في الدين أو بدل منه.
          التيمي: يعني من ظلم فيها أو أعان ظالماً.
          قوله: ((صرف)): أي: فريضة و((عدل)): أي: نافلة.
          وقال الحسن: الصرف: النافلة، والعدل: الفريضة عكس قول الجمهور.
          قال الأصمعي: الصرف: التوبة، والعدل: الفدية. قالوا: معناه: لا تقبل قبول رضا وإن قبلت قبول جزاء، وقالوا: المراد باللعنة هنا: البعد عن رحمة الله وعن الجنة أول الأمر بخلاف لعنة الكفار؛ فإنها البعد منها كل الإبعاد أولاً وآخراً.
          وفيه: وعيد شديد، واستدلوا بهذا على أنه من الكبائر.
          قوله: ((ذمة)): أي: العهد والأمان أي: أمان المسلم للكافر صحيح والمسلمون كنفس واحدة فإذا أمن أحدهم حربياً فهو آمن لا يجوز لأحد أن ينقض ذمته ويتعرض له، وللأمان شروط مذكورة في الفقهيات.
          وفيه: أن أمان العبد والمرأة جائز.
          و((أخفر مسلماً)): أي: بنقض عهده، ويقال: خفرت الرجل بغير ألف: إذا أمنته، وأخفرته إذا نقضت عهده فالهمزة للإزالة.
          قوله: ((تولى)): أي: اتخذتهم أولياء له، ولفظ: ((بغير إذن مواليه)): ليس لتقييد الحكم بعدم الإذن وقصره عليه، وإنما هو إيراد الكلام على ما هو الغالب وهذا صريح في غلط انتماء الإنسان إلى غير أبيه أو انتماء العتيق إلى غير معتقه لما فيه من تضييع النعمة وحقوق الإرث والولاء والعقل وغير ذلك مع ما فيه من قطيعة الرحم والعقوق.
          الخطابي: لم يجعل إذن الموالي شرطاً في ادعاء نسب أو ولاء ليس هو منه وإليه، وإنما ذكر الإذن في هذا تأكيداً للتحريم؛ لأنه إذا استأذنهم في ذلك منعوه وحالوا بينه وبين ما يفعل من ذلك.
          الزركشي:
          ((من كذا إلى كذا)): بفتح الكاف فيهما، كناية عن اسم مكان.
          ((أبو التياح)): بمثناة من فوق ثم بمثناة من تحت مشدد وحاء مهملة، اسمه: يزيد بن حميد.
          ((ثامنوني)): أي: بايعوني بالثمن.
          ((بالخرب)): بخاء معجمة مكسورة وراء مفتوحة: جمع خربة، كنقمة ونقم، ويجوز أن تكون جمع خربة _بكسر الخاء وسكون الراء_ كنعمة ونعم، ويجوز أن تكون الخرب بفتح الخاء وكسر الراء كنبقة ونبق، ويروى بالحاء المهملة والثاء المثلثة، يريد به الموضع المحروث للزراعة.
          ((فصفوا النخل)): أي: جعلوها مصفوفة قبلة المسجد.
          ((لابتي المدينة)): بفتح الموحدة، واللابة: الحرة، وهي الأرض ذات الحجارة السود، وجمعها لوب ولابات، والمدينة ما بين حرتين عظيمتين بالشرقية والغربية.
          بنو حارثة _بحاء مهملة وثاء مثلثة_ بطن من الأنصار.
          ((المدينة حرم ما بين عائر إلى كذا)): بذال معجمة، يعني: إلى ثور كما في رواية (م)، وفي رواية أيضًا ((عير)): بحذف الألف.
          قال مصعب الزبيري وغيره: ليس بالمدينة عير وثور، وإنما هما بمكة.
          وقال أبو عبيد: كأن الحديث: ((من عرير(3) إلى أحد))، وأكثر روايات (خ) ذكروا عيرًا، وأما ثور فمنهم من كنى عنه بكذا، ومنهم من ترك مكانه بياضًا لاعتقادهم الخطأ في ذكره، قال عياض.
          قلت _والله أعلم_ إن لم يكن بالمدينة عير ولا عائر ولا ثور فيحمل على مسافة ما بينهما.
          ((من أحدث فيها حدثًا)): أي: عمل فيها بخلاف السنة.
          ((محدثًا)): بكسر الدال، يعني: من ظلم فيها أو أعان ظالمًاً، وحكى الماوردي: فتح الدال على معنى الإحداث نفسه، ومن كسر أراد فاعل الحدث.
          ((ذمة المسلمين واحدة)): أي: أمان المرأة والعبد جائز، فالمسلمون كنفس واحدة، فإذا أمن أحدهم حربيًا فهو آمن لا يجوز لأحد نقضه.
          ((فمن أخفر)): بخاء معجمة وفاء؛ أي: نقض عهده وذمته، يقال: خفرت الرجل / بغير ألف: إذا أمنته، وأخفرته: إذا نقضت عهده.
          ((ومن تولى قومًا بغير إذن مواليه)): لم يجعل الإذن شرطًا لجواز الادعاء، وإنما ذلك تأكيد للتحريم. انتهى كلام الزركشي.
          أقول: فإن قلت: ما الحكمة في أن صيد مكة وقطع شجرها يوجب الفدية وحرم المدينة ووج الطائف لا يوجب صيدهما وقطع شجرهما فدية؟
          قلت: لأنهما ليسا محل نسك فليس على المتعرض سوى الإثم مع التأدب.
          والنقيع _بالنون_ ليس بحرم، ولكن حماه رسول الله صلعم لنعم الصدقة والجزية فلا يحرم صيده، ولكن لا تملك أشجاره ولا حشيشه، ويضمن متلفها القيمة؛ لأنه ممنوع منها بخلاف الصيد، ومصرف القيمة مصرف نعم الصدقة والجزية، كذا قال الرافعي.
          وقال النووي: ينبغي أن يكون مصرفها بيت المال. وأباح أبو حنيفة صيدهما.
          وكره نقل تراب وأحجار الحرم، ولا يجوز قطع ستر الكعبة ولا بيعه ونقله.


[1] لعل الصواب: ((لابتي)).
[2] في هامش المخطوط: ((أقول: ويمكن أن يقال: إن النبي صلعم قال: ((إني أحرم المدينة كما حرم مكة))، فيقتضي المثلية من جميع الوجوه، ومنها الجزاء)).
[3] لعل الصواب: ((عير)).