مجمع البحرين وجواهر الحبرين

[كتاب التعبير]

          ░░91▒▒ كتاب التعبير
          باب أول ما بدئ به رسول الله صلعم من الوحي الرؤيا الصادقة.
          فيه حديث عائشة السالف في أول ((الصحيح)) بطوله بفوائده نحو ستين فائدة.
          وسلف هذا التعليق مسنداً في التفسير، وتقدم قول مجاهد من عند ابن أبي شيبة: {وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} [يوسف:101]، قال: عبارة الأنبياء.
          وفيه: أن المرء ينبه على فعل الخير بما فيه مشقة كما فتل ◙ أذن ابن عباس في الصلاة من يساره إلى يمينه، وسلف معنى ((غطني)). وعبارة الداودي: معنى غطني: صنع بي شيئاً حتى ألقاني إلى الأرض كمن تأخذه الغشية.
          و(الحزن) بضم الحاء وسكون الزاي، وبفتحهما.
          قوله: مؤزرا، قال القزاز: أحسب أن الألف سقطت من أمام الواو إذ لا أصل لمؤزر بغير ألف في كلام العرب، إنما هو مؤازر من وازرته موازرة: إذا عاونته، ومنه أخذ وزير الملك، فعلى هذا يقرأ موزراً بغير همز، وقيل: هو مأخوذ من الأزر: وهو القوة، ومنه قوله تعالى: {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} [طه:31] أي: قوتي، وقيل: ظهري. قال الجوهري: آزرت فلاناً: عاونته، والعامة تقول: وازرته.
          قال المهلب: الرؤيا الصالحة الصادقة قد يراها المسلم والكافر والناس كلهم، إلا أن ذلك يقع لهم في النادرة والوقت دون الأوقات، وخص سيدنا رسول الله صلعم بعموم صدق رؤياه كلها ومنع الشيطان أن يتمثل في صورته؛ لئلا يتسور بالكذب على لسانه في النوم، والرؤيا جزء من أجزاء الوحي.
          ولذا قال القاضي عياض عن بعض العلماء أنه قال: خص الله نبيه بأن رؤية الناس إياه صحيحة على ما ذكرناه إلى قوله: في النوم ولذلك استحال أن يتصور الشيطان في صورته في اليقظة، ولو وقع لاشتبه الحق بالباطل، ولم يوثق بما جاء به مخافة من هذا المتصور، فحماه الله من الشيطان ونزغه وكيده، وكذا حمى رؤياه لأنفسهم.
          واتفق العلماء على جواز رؤية البارئ تعالى في المنام وصحتها، ولو رآه إنسان على صفة لا تليق بجلاله من صفات الأجسام؛ لأن ذلك المرئي غير ذات الله تعالى، ولا يجوز عليه التجسيم، ولا اختلاف الأحوال، بخلاف رؤية سيدنا رسول الله.
          فإن قلت: فإن الشيطان قد تسور عليه في اليقظة، وألقى في أمنيته ◙، قيل: ذلك لم يستقم، بل تلافاه الله ╡ في الوقت بالنسخ وأحكم آياته، وكانت فائدة تسوره إبقاء دليل البشرية عليه؛ لئلا يغلو مغالون فيه فيعبدونه من دون الله كما فعل بعيسى وعزير.
          فإن قلت: كيف منع الشيطان أن يتمثل في صورته ◙ في المنام، وأطلق له أن يتمثل ويدعي أنه البارئ تعالى، والصورة لا تجوز على البارئ؟
          قيل: سره أنه إنما منع أن يتصور في صورته ◙ الذي هو صورته في الحقيقة دلالة للعلم وعلامة على صحة الرؤية من ضعفها، وأطلق له أن يتصور على ما تصوره، ولا يجوز عليه دلالة للعلم أيضاً وسبباً إليه، لأنه قد تقرر في نفوس البشر أنه لا يجوز التجسيم على البارئ تعالى، فجاز أن يجعل لنا هذا الوهم في النوم دليل على علم ما لا سبيل إلى معرفته إلا بطريق التمثيل في البارئ تعالى مرة، وفي سائر الأرباب والسلاطين مرة؛ ولذلك قال أبو بكر بن الطيب الباقلاني في ((انتصاره)): إن رؤية البارئ تعالى في النوم أوهام وخواطر في القلب في أمثال لا تليق به تعالى في الحقيقة، ويتعالى سبحانه عنها؛ دلالة للرائي على أمر كان أو يكون كسائر المرئيات. وهذا كلام حسن؛ لأنه لما كان خرق العادة دليلاً على صحة العلم في اليقظة في الأنبياء بهديها الخلق، جعل خرق العادة الجائزة على نبيه بتصور الشيطان على مثاله بالمنع من ذلك دليلاً على صحة العلم.
          فإن قلت: كيف يجب أن تكون الرؤيا إذا رئي فيها البارئ تعالى صادقة أبداً، كما كانت الرؤيا التي رأى فيها رسول الله؟
          فالجواب: أنه لما كان تعالى قد يعبر به في النوم على سائر السلاطين؛ لأنه سلطانهم ويعبر به عن الآباء والسادة والمالك، ووجدنا سائر السلاطين يجوز عليهم الصدق والكذب، فأبقيت رؤياهم على العادة فيهم، ووجدنا النبيين لا يجوز الكذب على أحد منهم، ولا على شيء من حالهم، فأبقيت حال النبوة في النوم على ما هي عليه في اليقظة من الصدق برؤية النبي صلعم، وإذا قام الدليل عند العابر على الرؤيا التي نرى فيها البارئ أنه البارئ لا يراد به غيره، لم يجز في تلك الرؤيا التي قام فيها دليل الحق على الله كذباً أصلاً لا في مقال ولا في فعال، فشابهت الرؤيا من حيث اتفقت في معنى الصدق، واختلفت من حيث جاز غير ذلك، وهذا ما لا ذهاب عنه.
          وسيأتي أن الشيطان لا يتمثل به.
          قال المازري: وفيه إشارة إلى أن رؤياه لا تكون أضغاثاً، وأنها تكون حقًّا، وقد يراه الرائي على غير صفته المنقولة إلينا، كما لو رآه شخص أبيض اللحية، أو على خلاف لونه، أو تراه رؤيتان في زمن واحد، أحدهما: بالمشرق، والآخر بالمغرب، ويراه كل منهما معه في مكانه. وقال آخرون: الحديث محمول على ظاهره، والمراد: أن من رآه فقد أدركه، ولا مانع يمنع من ذلك، ولا يحيله العقل حتى يضطر إلى صرف الكلام عن ظاهره.
          وأما الاعتلال بأنه قد يرى على غير صفته المعروفة، وفي مكانين مختلفين فإن ذلك غلط في صفاته، وتخيل له على غير ما هي عليه، وقد نظن بعض الخيالات مرئيات؛ لكون ما يتخيل مرتبطاً بما يرى في العادة، فتكون ذاته مرئية وصفاته متخيلة غير مرئية، والإدراك لا يشترط فيه تحديق الأبصار ولا قرب المسافة، ولا كون الرأي مدفوناً في الأرض ولا ظاهراً عليها وإنما يشترط كونه موجوداً، والأخبار دالة على بقائه، فيكون اختلاف الصفات المختلفة يمر بها اختلاف الدلالات.
          وقد ذكر الكرماني(1): أن من رآه شيخاً فهو عام سلم، أو شابًّا فهو عام حرب، وذلك أحد أجوبتهم عنه لو رأى أنه أمر بقتل من لا يحل قتله، فإن ذلك من الصفات المتخيلة لا المرئية.
          وجوابهم الثاني يمنع وقوع مثل هذا، ولا وجه عندي لمنعهم إياه من قولهم في تخيل الصفات، فهذا انفصال هؤلاء عما احتج به القاضي، وللمسألة تعلق بغامض الكلام في الإدراكات وحقائق متعلقاتها، وبسطه خارج عما نحن فيه.
          ولا شك أن المنام جعله الله رحمة ليستريح بدنه من تعبه ودؤبه / ونصبه، لما علم الله تعالى [عجز] الروح عن القيام بتدبير البدن دائماً، والنوم هو أبخرة تحيط بالروح القائم بالبدن فتحجبه عن التدبير، وما هو في المثال إلا كالملك إذا حجب نفسه عن تدبير مملكته؛ ليستريح ويستريح أعوانه في وقت حجبه، وفيه تسخين للباطن وإجادة للهضم، وإذا أفرط فلا تكون الرأس بالأخلاط ترطب الجسم أو ترخيها وتطفئ الحر الذي تحتها. كما ذكره ابن سينا في ((أرجوزته)).
          والرؤيا قسمان: صحيح وفاسد، فالأول: ما كان ضمن اللوح المحفوظ، وهو الذي تترتب عليه الأحكام، والثاني: لا حكم له، وهو خمسة أقسام: حديث النفس: بأن يحدث في اليقظة نفسه بشيء فيراه في المنام، أو من غلبة الدم، أو من غلبة الصفراء، أو غلبة البلغم، أو السوداء.
          ذكر الإمام أبو محمد عبد المعطي ابن أبي الثناء محمود في كتابه ((مقامات الإيمان والإحسان)) أن النوم تارة يكون نوم غفلة، وتارة يكون نوم جهل عن العلم، وتارة يكون نوم فترة وشغل، وتارة يكون نوم راحة.
          والرؤيا تنقسم على أربعة أنواع: محمودة ظاهراً وباطناً، كمن يرى أنه كلم البارئ تعالى، أو أحداً من الأنبياء في صفة حسنة وبكلام طيب، وعكسه كمن يرى أن حية لدغته أو ناراً أحرقته وشبهه، ومحمودة ظاهراً لا باطناً كسماع الملاهي وشم الأزهار، وعكسه كمن يرى أنه ينكح أمه أو يذبح ولده.
          وروى أبو هريرة مرفوعاً: الرؤيا ثلاث: رؤيا ترى من الله، ورؤيا مما يحدث به الرجل نفسه، ورؤيا تحزن من الشيطان، وسيأتي في باب القيد في المنام الخلف في وصله وإرساله.
          والغالب في الرؤيا الجيدة تأخير تفسيرها بخلاف الرديئة وربما كانت له أو لغيره، وربما لا تكون له ولا لمن رئيت له، لكنها تكون لغيره من أقاربه أو معارفه، وربما رأى في نومه أشياء ودلالتها على شيء واحد وبالعكس، وربما كان للرائي وحده، وربما كان لمن يحكم عليه.
          والمنام أيضاً يختلف باختلاف اللغات والأديان وأثناء الزمان والصنائع والعادات والمعايش والأمراض والموت والحياة.
          فائدة:
          قال ابن سيده: يقال: عبر الرؤيا يعبرها عبراً وعبارة، وعبرها: فسرها وأخبر بآخر ما يؤول إليه أمرها، واستعبره إياها: سأله تعبيرها، وقال الأزهري: العابر الذي ينظر في الكتاب فيعبره؛ أي: يعبر بعضه ببعض حتى يقع فهمه عليه، ولذلك قيل: عبر الرؤيا وأعبر فلان كذا، وقال غيره: أخذ هذا كله من العبرة وهو جانب النهر، وفلان في ذلك العبر؛ أي: في ذلك الجانب، وعبرت النهر والطريق عبوراً إذا قطعته من هذا الجانب إلى ذلك الجانب، فقيل لعابر الرؤيا: عابراً؛ لأنه يتأمل ناحيتي الرؤيا وأطرافها، ويتدبر كل شيء منها ويمضي بفكره فيها من أول رؤياه إلى آخرها.
          وقال القزاز في ((جامعه)): كأن عابر الرؤيا جاز المثل إلى التأويل؛ لأن الرؤيا إنما هي مثل يضرب لصاحبها فإذا عبرها المعبر فقد جاز ذلك المثل إلى معناه. وقال قوم: إنما معناه: أنه يخرجها من حال النوم إلى ما يحب من اليقظة، وقد عبرها فهو عابر وعبرها فهو معبر.


[1] في هامش المخطوط: ((نقل غير والدي ⌂)).