مجمع البحرين وجواهر الحبرين

{قل أعوذ برب الناس}

          ░░░114▒▒▒ قل أعوذ برب الناس
          ويذكر عن ابن عباس {الْوَسْوَاسِ} [الناس:4] إذا ولد خنسه الشيطان... إلى آخره.
          ثم ساق حديث زر: سألت أبي بن كعب قلت: أبا المنذر، إن أخاك ابن مسعود يقول كذا وكذا... الحديث.
          أبي: هو ابن كعب بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار، وهاتان السورتان مدنيتان، وبه جزم الثعلبي، وعن قتادة وغيره، مكيتان والصواب الأول، نزلتا في اليهودي لبيد بن الأعصم سحر سيدنا رسول الله صلعم وجعل سحره في راعوفة بئر ذروان، يعني: الحجر الذي في أسفل البئر إذا نزل الإنسان بفم البئر قام عليه، ويقال: إن العقد التي عقدها بنات البيد، وهي إحدى عشرة عقدة في وتر ومشط ومشاطة أعطاها غلام يهودي يخدمه لهم، وصورة من عجين فيها إبر مغروزة، فبعث عليًّا والزبير وعماراً فاستخرجوه وشفاه الله تعالى(1).
          ويقال: إنه سحره امرأتين من البحرين بحضرته بحائل بينهما وجعلا ينفثان ويعقدان فنزلت الفلق، وفي رواية: لبيد بن عامر بن مالك وأم عبد الله اليهودية.
          وفي رواية في ((الصحيح)) قالت عائشة: هلا استخرجته قال: ((قد عافاني الله وكرهت أن أثور منه على الناس شرًّا)) وفيه مخالفة لما سبق.
          وفي رواية: فهلا أحرقته. وظاهر دال على الذي سحر به، كما قاله ابن الجوزي، إلا أنا قد روينا من طريق آخر: قالوا يا رسول الله، أفلا نأخذ الخبيث فنقتله، وهو دال على أن الإشارة إلى اليهودي الساحر، والظاهر أن هذا للساحر وذاك للسحر، ويجوز أن يكون ذلك منها على وجه الاستفهام فيحتج به إذن على قتل الساحر، وجاء في رواية: أنه لما سحر احتجم على رأسه بقرن وهو اسم موضع كما قال ابن السيرافي.
          وقال المهلب: ووقع في باب السحر قلت: يا رسول الله، / أفلا استخرجته فأمر بها فدفنت. قال: وهو اختلاف من الرواة، ومداره على هشام بن عروة وأصحابه يختلفون في استخراجه، فأثبته سفيان في رواية من طريقين، وأوقف سؤال عائشة على النشرة، ونفى الاستخراج عن عيسى بن يونس، وأوقف سؤالها النبي صلعم على الاستخراج، ولم يذكر أنه جاوب على الاستخراج بشيء، وحقق أبو أسامة جوابه ◙ إذ سألته عائشة عن استخراجه بلا، فكان الاعتبار يعطي أن سفيان أولى بالقول لتقدمه في الضبط وأن الوهم على أبي أسامة في أنه لم يستخرجه، ويشهد لذلك أنه لم يذكر النشرة وكذلك عيسى بن يونس لم يذكر أنه ◙ جاوب على استخراجه بلا، وذكر النشرة، والزيادة من سفيان مقبولة؛ لأنه أثبتهم لا سيما فيما حقق من الاستخراج، وفي ذكره النشرة في جواب النبي صلعم مكان الاستخراج، ويحتمل أن يحكم بالاستخراج لسفيان، ويحكم لأبي سفيان بقوله لا، على أنه استخرج الجف بالمشاقة ولم يستخرج صورة ما في الجف لئلا يراه الناس فيتعلمونه.
          ثم اعلم أن السحر مرض من الأمراض، وعارض من العلل غير قادح في نبوته، وطاح بذلك طعن الملحدة وأنه كان يخيل إليه أنه فعل الشيء وما فعله، فذاك فيما يجوز طروؤه عليه في أمر دنياه دون ما أمر بتبليغه، ويؤيده الرواية الأخرى أنه يأتي أزواجه ولا يأتيهن، أو يحمل على يخيل لا يعتقد صحته.
          وقد روي عن ابن المسيب وعروة سحر حتى كاد ينكر بصره، وعن عطاء الخراساني: حبس عن عائشة سنة، قال عبد الرزاق: وحبس عنها خاصة حتى أنكر بصره، قلت: وما أسلفناه من رواية ثلاثة أيام أو أربعة هو أصوب، وسنة بعد.
          و{الْفَلَقِ} [الفلق:1]: الصبح، لأن الليل يفلق عنه، وهو بمعنى مفلوق، أو كلما فلقه الله من خلق قال تعالى: {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} [الأنعام:95]، أو واد، أو جب في جهنم، أو هو جهنم، إذا فتح صاح أهل النار من شدة حره، والغاسق: الليل كما ذكره عن مجاهد، وقاله ابن عباس، وقال الحسن: أول الليل إذا أظلم، وقال محمد بن كعب: هو النهار إذا دخل في الليل، وفي رواية: غروب الشمس إذا وجبت، وقال أبو هريرة: الغاسق: كوكب، وعنه مرفوعاً: ((النجم))، وقال ابن دريد: العرب تقول: الغاسق سقوط الثريا.
          وفي ((الصحيح)) عن عائشة مرفوعاً: ((القمر)) وقيل: إذا كسف فاسود، {وَقَبَ} [الفلق:3] دخل كما فسره، وقال قتادة: ذهب، واستغربه الطبري.
          وما ذكره في {الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} [الناس:4] عن ابن عباس هو كذلك لكن قوله: (خنسه الشيطان) الذي في اللغة خنس إذا رجع، و{الْخَنَّاسِ}: الرجاع، وقيل: هو الشيطان يوسوس في الصدور، قال قتادة: له خرطوم كخرطوم الكلب فإذا ذكر العبد ربه خنس؛ أي: تأخر، وجاء أن له رأساً كرأس الحية، فإذا ترك رجع في القلب يوسوس فيه.
          قوله: (إن أخاك ابن مسعود يقول كذا وكذا) يريد أنه لم يدخل المعوذتين في مصحفه، وهو من أفراده لكثرة ما كان يرى الشارع يتعوذ بهما فظن أنهما من الوحي وليسا من القرآن. والصحابة أجمعت عليهما، وأثبتهما في المصحف، وكان أبي أدخل سورتي القنوت في مصحفه وهما ((اللهم إنا نستعينك)) إلى ((بالكافرين بالحق)). وأول السورة الثانية: ((اللهم إياك نعبد)).
          قال والدي ⌂:
          قال تعالى: ({الْخَنَّاسِ. الَّذِي يُوَسْوِسُ}) [الناس:4-5].
          قوله: (خنسه) قال الصغاني: الأولى نخسه الشيطان مكان خنسه / وإن سلمت اللفظة من الانقلاب والتصحيف فالمعنى والله أعلم أخره وأزاله عن مكانه لشدة نخسه وطَعنه بأصبعه في خاصرته(2).
          قوله: (قال) أي: سفيان بن عيينة وثنا عاصم، و(أبو المنذر) بكسر المعجمة الخفيفة كنية أُبَي كناه به رسول الله صلعم، وأما الأخوة فهو بحسب الدين، و(كذا وكذا) يعني: أنهما ليستا من القرآن، و(قيل لي) أي: أنه من القرآن، وهذا كان مما اختلف فيه الصحابة ثم ارتفع الخلاف ووقع الإجماع عليه فلو أنكر اليوم أحد قرآنيته كفر، وقال بعضهم: ما كان المساءلة في قرآنيتهما بل في صفة من صفاتهما وخاصة من خواصهما، ولا شك أن هذه الرواية تحتملهما والحمل عليها أولى والله أعلم.
          الزركشي:
          (إذا ولد الإنسان خنسه الشيطان) قال السفاقسي: لينظر فيه، فالذي في اللغة: خنس إذا رجع وانقبض.
          وقال القاضي: كذا الرواية في جميع النسخ، وهو تصحيف وتغيير، فإما أن يكون صوابه: نخسه الشيطان كما جاء في غير هذا الباب، لكن اللفظ الذي جاء به من بعد في غير هذا الحديث وهو ما روي عن ابن عباس أنه قال: ((يولد الإنسان والشيطان جاثم على قلبه، فإذا ذكر الله تعالى خنس، وإذا غفل وسوس)) وكأن (خ) إنما أراد بهذا الحديث أو الإشارة للحديثين.
          (إن أخاك ابن مسعود) إلى آخره، وإنما كنى عنه هنا بكذا استعظاماً منه لهذا القول أن يلفظ به.
          وقال القاضي أبو بكر بن الطيب: لم ينكر ابن مسعود كونهما من القرآن؛ وإنما أنكر إثباتهما في المصحف؛ لأنه كانت السنة عنده ألا يثبت إلا ما أمر النبي صلعم بإثباته وكتبته ولم يبلغه أمره به، وهذا تأويل منه وليس جحداً لكونهما قرآناً.
          وقد روى ابن حبان في ((صحيحه)) عن زر: قلت لأبي ذر: إن ابن مسعود لا يكتب في مصحفه المعوذتين، فقال: قال لي رسول الله صلعم: ((قال لي جبريل: قل أعوذ برب الفلق فقلتها. وقال لي: قل قل أعوذ برب الناس فقلتها))، فنحن نقول ما قال رسول الله صلعم.


[1] في هامش المخطوط: ((أقول: فإن قلت: لم لم يقتل النبي صلعم الساحر اليهودي فإنه آذى رسول الله بسحره؟ قلت: كان معاهداً.
فإن قلت: ينتقض عهده بإيذاء النبي صلعم، قلت: كان الحق له ◙ فعفى عنه.
أقول: وفيه فائدة أخرى وهو أنه بظهور أثر السحر فيه دليل على نبوته وحديث الكفار فيما ادعوه أنه ساحر فلو كان ساحراً لدفع السحر عن نفسه بسحر آخر، ولكنه دفع بما أنزل عليه من القرآن بالسحر، وأيضاً فيه رد قول من ادعى عدم تأثير السحر)).
[2] في هامش المخطوط: ((أقول: قيل إن الآيات في السورتين هي بعدد العقد التي سحر بها فكل آية لعقدة)).