-
مقدمة المصنف
-
الكلام على البسملة
-
كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلعم
-
كتاب الإيمان
-
كتاب العلم
-
كتاب الوضوء
-
باب ما جاء في الوضوء
-
باب لا تقبل صلاة بغير طهور
-
باب فضل الوضوء والغر المحجلون من آثار الوضوء
-
باب لا يتوضأ من الشك حتى يستيقن
-
باب التخفيف في الوضوء
-
باب إسباغ الوضوء
-
باب غسل الوجه باليدين من غرفة واحدة
-
باب التسمية على كل حال وعند الوقاع
-
باب ما يقول عند الخلاء
-
باب وضع الماء عند الخلاء
-
باب لا تستقبل القبلة بغائط أو بول إلا عند البناء جدار أو نحوه
-
باب من تبرز على لبنتين
-
باب خروج النساء إلى البراز
-
باب التبرز في البيوت
-
باب
-
باب الاستنجاء بالماء
-
باب من حمل معه الماء لطهوره
-
باب حمل العنزة مع الماء في الاستنجاء
-
باب النهي عن الاستنجاء باليمين
-
بابٌ: لا يمسك ذكره بيمينه إذا بال
-
باب الاستنجاء بالحجارة
-
باب الوضوء مرة مرة
-
باب الوضوء مرتين مرتين
-
باب الوضوء ثلاثًا ثلاثًا
-
باب الاستنثار في الوضوء
-
باب الاستجمار وترًا
-
باب غسل الرجلين ولا يمسح على القدمين
-
باب المضمضة في الوضوء
-
باب غسل الأعقاب
-
باب غسل الرجلين في النعلين ولا يمسح على النعلين
-
باب التيمن في الوضوء والغسل
-
باب التماس الوضوء إذا حانت الصلاة
-
باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان
-
باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين
-
باب الرجل يوضئ صاحبه
-
باب قراءة القرآن بعد الحدث وغيره
-
باب من لم يتوضأ إلا من الغشي المثقل
-
باب مسح الرأس كله
-
باب غسل الرجلين إلى الكعبين
-
باب استعمال فضل وضوء الناس
-
باب من مضمض واستنشق من غرفة واحدة
-
باب مسح الرأس مرة
-
باب وضوء الرجل مع امرأته وفضل وضوء المرأة
-
باب صب النبي وضوءه على المغمى عليه
-
باب الغسل والوضوء في المخضب والقدح والخشب والحجارة
-
باب الوضوء من التور
-
باب الوضوء بالمد
-
باب المسح على الخفين
-
باب: إذا أدخل رجليه وهما طاهرتان
-
باب من لم يتوضأ من لحم الشاة والسويق
-
باب من مضمض من السويق ولم يتوضأ
-
باب: هل يمضمض من اللبن
-
باب الوضوء من النوم
-
باب الوضوء من غير حدث
-
باب من الكبائر أن لا يستتر من بوله
-
باب ما جاء في غسل البول
-
باب ترك النبيِّ والناس الأعرابي حتى فرغ من بوله فِي المسجد
-
باب صب الماء على البول في المسجد
-
باب يهريق الماء على البول
-
باب بول الصبيان
-
باب البول قائِمًا وقاعدًا
-
باب البول عند صاحبه والتستر بالحائط
-
باب البول عند سباطة قوم
-
باب غسل الدم
-
باب غسل المني وفركه وغسل ما يصيب من المرأة
-
باب إذا غسل الجنابة أو غيرها فلم يذهب أثره
-
باب أبوال الإبل والدواب والغنم ومرابضها
-
باب ما يقع من النجاسات في السمن والماء
-
باب الماء الدائم
-
باب إذا ألقى على ظهر المصلي قذر أو جيفة لم تفسد عليه صلاته
-
باب البزاق والمخاط ونحوه في الثوب
-
باب لا يجوز الوضوء بالنبيذ ولا المسكر
-
باب غسل المرأة أباها الدم عن وجهه
-
باب السواك
-
باب دفع السواك إلى الأكبر
-
باب فضل من بات على الوضوء
-
باب ما جاء في الوضوء
-
كتاب الغسل
-
كتاب الحيض
-
كتاب التيمم
-
كتاب الصلاة
-
كتاب مواقيت الصلاة
░34▒ هذا (باب من لم ير الوضوء) أي: واجبًا (إلا من المخرجَين)، وهو تثنية مخرج_بفتح الجيم_ وبيَّن ذلك بطريق عطف البيان بقوله: (القبل والدبر) ويجوز أن يكون جرُّهما بطريق البدل، و (القبل) يتناول الذكر، والفرج، والخنثى، وزاد في رواية: (من القبل)، وسقط (من القبل والدبر) للأصيلي، والحصر لبيان الغالب المعتاد، فالخارج من المخرجين يشمل الدم، والقيح، ويلحق به الفصد والحجامة، والقيء، والنوم، وغيرها، فحكم الخارج منهما وغيرهما سواء في الحكم، فلا يتفاوت، وزعم الكرماني رده في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
(لقوله تعالى) وفي رواية: (وقول الله تعالى) : ({أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم} ) يشمل المذكَّر والمؤنث ({مِنَ الغَائِطِ} [النساء:43] ) هو كناية عن قضاء حاجة الإنسان، وهذا لا يصلح دليلًا لما ادَّعاه الشافعية من الحصر على الخارج من المخرجَين؛ لأنَّ عندهم ينتقض الوضوء من لمس النساء ومس الفرج، فإذًا الحصر باطل؛ لأنَّ الملامسة كناية عن الجماع، وقد قال ابن عباس: (المس، واللمس، والغشيان، والقربان، والإتيان، والمباشرة؛ الجماع، لكنه ╡ حيي كريم يعفو ويكنِّي، فكنَّى باللمس عن الجماع كما كنى بالغائط عن قضاء الحاجة)، ومذهب علي بن أبي طالب، وأبي موسى الأشعري وعَبيدة السلماني_ بفتح العين المهملة_، وعُبيدة الضبي_ بضم العين المهملة_، وعطاء، وطاووس، والحسن البصري، والثوري، والأوزاعي: أنَّ اللمس والملامسة كناية عن الجماع، وهو الذي صحَّ عن عمر بن الخطاب كما نقله ابن العربي وابن الجوزي، فحينئذٍ قولهم: ملامسة النساء تبطل الوضوء؛ باطل لا دليل عليه، وكذا مسُّ الذكر، واستدلوا بحديث وهو ضعيف؛ لأنَّه ليس على شرط الشيخين، وإذا كانت / الملامسة بمعنى الجماع كيف يكون مس الذكر مثله؟! فيلزم من ذلك أن يجب الغسل، ولنا أحاديث كثيرة وأخبار شهيرة على أنَّ مسَّ الذكر غير ناقض؛ منها: أنَّه سئل ◙ عن مسِّ الذكر، فقال: «هل هو إلا بضعة منك؟!» فكان الذكر كاليد والرجل، والإجماع منعقد على أنَّ الشخص إذا مسَّ يده أو رجله لا ينتقض وضوءُه، فكذا هذا بنصِّ الشارع ◙، وأما قوله تعالى: {فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} [الأنعام:7]، وقوله ◙ لماعز: «لعلَّك لمست»؛ فالقرينة الحالية وكذا المقالية عيَّنت أنَّه مسُّ اليد، وكلامنا عند عدم القرينة، وهو لا يكون إلا كناية عن الجماع، وتفسير ابن عمر الملامسة بجسِّ اليد قد ثبت أنَّه رجع عنها إلى معنى الجماع، فاللفظ مخصوص به؛ فافهم.
وإذا عُلِم أن المراد من الغائط الكناية عن قضاء الحاجة؛ عُلِم أن الناقض كل خارج من البدن، فيشمل البول، والغائط، والدم، والقيح، والقيء، والحجامة، وغيرها، فالبول والغائط ثبت بالنصِّ وما ألحق بهما ثبت بدلالته وبالأحاديث المشهورة؛ فافهم.
(وقال عطاء) هو ابن أبي رباح، مما وصله ابن أبي شيبة في «مصنفه» بإسناد صحيح (فيمن يخرج من دبره الدود أو من ذكره نحو القملة) واحدة القمل، وهو معروف، وفي معنى الذكر قُبُل المرأة قال: (يعيد الوضوء)؛ لانتقاضه بذلك، فيلزم قطعًا إعادة الصلاة، وفي رواية: (يعيد الصلاة) بدل (الوضوء)، قيَّد بالدودة من الدبر؛ لأنَّه لو خرجت الدودة من الأذن، أو الفم، أو الأنف، أو الجراحة؛ لا ينتقض الوضوء بها، وهذا مذهب الإمام الأعظم، وابن مسعود، وابن عباس، والثوري، وأبو ثور، وإسحاق، والشافعي، وأحمد، وغيرهم، واحتجُّوا بحديث علي بن أبي طالب الآتي في الباب في المذي، وقِيْس عليه نحو القملة، والحصى، وغيرهما، وخالف في ذلك قتادة ومالك فقالا: بإعادة الصلاة دون الوضوء، وهو مرويُّ عن النخعي.
وقال داود: النادر لا ينقض الوضوء وإن دام إلا المذي؛ لقوله ◙: «لا وضوء إلا من صوت أو ريح»، وأجيب: بأنه إذا أوجب الوضوء بالمعتاد الذي تعمُّ به البلوى، فغيره من باب أولى، والإجماع قائم على أنَّه ليس المراد حصر الناقض للوضوء بالصوت أو الريح الذي في الحديث، بل المراد نفي وجوب الوضوء بالشكِّ، وأما حديث صفوان: (لكن من غائط، وبول، ونوم)، فإنَّه بيَّن فيه جواز المسح وبعض ما يمسح بسبب، ولم يقصد بيان جميع النواقض، ألا تراه لم يذكر فيه الريح وزوال العقل وهما مما ينقض بالإجماع، ودم الاستحاضة ناقض في قول عامَّة العلماء.
وقال ابن حزم: المذي، والبول، والغائط من أي موضع خرج من الدبر، والإحليل، أو المثانة، أو البطن، وغير ذلك من الجسد، أو الفم ناقض للوضوء؛ لعموم أمره ◙ بالوضوء عنها، ولم يخص موضعًا من موضع، وبه قال إمامنا ☺.
وأمَّا الريح الخارجة من ذكر الرجل وقُبُل المرأة؛ فإنَّها لا تنقض الوضوء؛ لأنَّها ليست بريح حقيقة، وإنما هي اختلاج، وهو يحصل في جميع أعضاء الجسد، كما بيَّنتُ ذلك في رسالة سميتها «احتجاج الإقضاء في بيان اختلاج الأعضاء»، وأما المرأة المفضاة_وهي التي اختلط مسلك بولها ووطئها وصارا واحدًا، أو التي صار مسلك الغائط والوطء منها واحدًا_؛ فالريح الخارج منها ناقض؛ فيجب عليها الوضوء، وهو قول الإمام محمد الشيباني، وبه أخذ الإمام أبو حفص البخاري للاحتياط، وقيل: إنَّ كان الريح مسموعًا أو منتنًا؛ نقض، وإلا؛ فلا، كما في «شرح المنية» للبرهان الحلبي، وقيل: إنَّه يستحب لها الوضوء ولا يجب؛ لأنَّه يحتمل أنَّها خرجت من الدبر، فتنقض، ويحتمل أنَّها خرجت من الفرج؛ فلا تنقض، والأصل: تيقن الطهارة والناقض مشكوك فيه فلا ينتقض وضوءُها بالشك، لكن يستحب لها الوضوء؛ لإزالة الاحتمال، كذا في «الجوهرة» و«شرح الهاملية».
(وقال جابر بن عبد الله) ☻، مما وصله البيهقي في «المعرفة»، وأبو شيبة في «سننه»: (إذا ضحك) أي: المصلي سواء كان رجلًا أو امرأةً (في الصلاة) وهو ما كان مسموعًا له، ولمن عن يمينه أو عن يساره فقط دون جيرانه؛ وهم أهل مجلسه؛ (أعاد الصلاة) وحكمة الإعادة للزجر؛ لأنَّه واقف في عبادة الله ╡، فينبغي أن يكون على أكمل الأوصاف، (ولم يعد الوضوء)؛ لعدم انتقاضه بذلك، وهو مذهب الإمام الأعظم، وأصحابه منهم الليث، وهو قول مالك والشافعي، وأمَّا التبسم؛ وهو ما لا صوت له أصلًا بل تبدو أسنانه فقط؛ فهو غير مبطل للوضوء والصلاة جميعًا، وظاهره أنَّ التبسم في الصلاة غير مكروه، كما في «البحر»، لكن في «شرح الملتقى» للداماد(1) أنَّه قال: (تكره الصلاة به؛ لأنَّه ينافي الخشوع) انتهى.
وأمَّا القهقهة؛ فإنَّها تنقض الوضوء عند الإمام الأعظم، وأصحابه، والثوري، والأوزاعي، وهي كما قاله في «البحر»: (أن يقول: قه قه؛ لغة، واصطلاحًا: ما يكون مسموعًا له ولجيرانه بدت أسنانه أو لا) انتهى، وفي «المنية»: (وحد القهقهة: قال بعضهم: ما يظهر القاف والهاء، ويكون مسموعًا له ولجيرانه، وقال بعضهم: إذا بدت نواجذه، ومنعه عن القراءة) انتهى، في «القاموس»: (قهقه: رجَّع_بالتشديد_ في ضحكه، أو اشتد ضحكه؛ كـ«قهَّ» فيهما، أو «قهَّ»: قال في ضحكه: قه) انتهى وهو موافق لما قاله في «البحر».
ويشترط إظهار الهاء والقاف، أو بدل القاف وهو الألف مع الهاء، وهو المستعمل في كلام الناس، والمراد: من بقربه هم أهل مجلسه، فيشترط سماع جميع أهل مجلسه، فلو سمع بعضهم، ولم يسمع البعض الآخر؛ لا تكون قهقهة، بل هو ضحك غير مفسد للوضوء، كذا قاله شيخ شيخنا، واعتمده في «منهل الطلاب»؛ فليحفظ؛ لما رواه الدارقطني، عن أبي المليح، عن أبيه: بينا نحن نصلي خلف رسول الله صلعم؛ إذ أقبل رجل ضرير البصر فوقع في حفرة، فقال رسول الله صلعم: «من ضحك منكم؛ فليعد الوضوء والصلاة»، ورواه أيضًا من حديث أنس، وعمران بن حصين، وأبي هريرة، والمراد من قوله: من ضحك في الصلاة فقهقه؛ فليعد الوضوء والصلاة، رواه ابن عدي في «الكامل» من حديث بقية عن ابن عمر ☻، والأحاديث يفسِّر بعضها بعضًا، وما زعمه ابن الجوزي: من أنَّ بقية مدلس؛ ممنوع؛ فإنَّ بقية قد صرَّح بالتحديث، وهو صدوق كما وثَّقه الحفَّاظ.
على أنَّ لنا في هذا الباب أحد عشر حديثًا عن النبيِّ الأعظم ◙، منها أربعة مرسلة، وسبعة مسندة:
فأول المراسيل: حديث أبي العالية رفيع بن مهران الرياحي البصري، رواه عنه عبد الرزاق، عن قتادة، عن أبي العالية، وهو عدل ثقة، وثَّقه يحيى، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وروى له الجماعة: (أن أعمًى تردَّى في بئر، والنبي صلعم يصلي بأصحابه، فضحك بعض من كان يصلي معه ◙، فأمر ◙ من كان معهم أن يعيد الوضوء ويعيد الصلاة)، وأخرجه / الدارقطني من جهة عبد الرزاق في «مسنده»، وعبد الرزاق فمن فوقه من رجال «الصحيحين»، وقال ابن رشد المالكي: (هو مرسل صحيح)، ولم يعتلَّ الشافعي إلَّا بإرساله، والمرسل حجَّة عندنا وعند مالك وأحمد، كما حكاه ابن العربي وابن الجوزي، وروي ذلك أيضًا من طرق(2) سبعة متصلة [ذكرها جماعة، منهم ابن الجوزي.
والثاني من المراسيل: مرسل الحسن البصري رواه الدارقطني](3) بإسناده إليه، وهو أيضًا مرسل صحيح.
والثالث: مرسل النخعي، رواه أبو معاوية، عن الأعمش، عن النخعي قال: «جاء رجل ضرير البصر، والنبي ◙ يصلي...»؛ الحديث.
والرابع: مرسل معبد الجهني، روي عنه من طرق متعددة.
وأول المسانيد: حديث عبد الله بن عمر، وقد ذكرناه.
والثاني: حديث أنس بن مالك رواه الدارقطني من طرق متعددة.
والثالث: حديث أبي هريرة من رواية أبي أمية، عن الحسن، عن أبي هريرة ☺، عن النبي صلعم أنَّه قال: «من ضحك في الصلاة؛ أعاد الوضوء وأعاد الصلاة»، رواه الدارقطني.
والرابع: حديث عمران بن الحصين عن النبي صلعم: «من ضحك في الصلاة قرقرة؛ فليعد الوضوء والصلاة».
والخامس: حديث جابر، أخرجه الدارقطني.
والسادس: حديث أبي المليح بن أسامة، أخرجه الدارقطني أيضًا، كما ذكرناه.
والسابع: حديث رجل من الأنصار: (أنَّ رسول الله صلعم كان يصلي، فمرَّ رجل في بصره سوءٌ، فتردَّى في بئر، فضحك طوائف من القوم، فأمر رسول الله صلعم من ضحك أن يعيد الوضوء والصلاة)، رواه الدارقطني وغيره.
وزعم ابن حجر حاكيًا عمَّا زعمه ابن المنذر: (أجمعوا أنَّه لا ينقض خارج الصلاة، واختلفوا إذا وقع فيها؛ فخالف من قال بالقياس الجلي، أو تمسكوا بحديثٍ لا يصح، وحاشا أصحاب رسول الله صلعم الذين هم خير القرون أن يضحكوا بين يدي الله تعالى خلف رسول الله صلعم) .
قال في «عمدة القاري»: (قلت: هذا الزاعم أعجبه هذا الكلام المشوب بالطعن على التابعين الأئمة الكبار، وفساده ظاهر من وجوه:
الأول: كيف يجوز التمسك بالقياس مع وجود الأخبار المشتملة على المراسيل والمسانيد؟! والمراسيل مع كونها حجة عندهم، فما قاله افتراء وتعصب.
والثاني: أن قوله: «تمسكوا بحديث» لا يصح، وليس كما زعم، بل تمسكوا بالأحاديث الصحيحة المتواترة المكررة، واختلاف طرقها ومتونها ورواتها دليل قوتها وصحتها، فهذا الزعم باطل لا أحد يعرج عليه من الجهال المتعصِّبين فضلًا عن العلماء الموصوفين.
والثالث: قوله: «حاشا من أصحاب رسول الله ◙...» إلى آخره: هذا طعن في الأحاديث الصحيحة، وهو مردود عليه؛ لأنَّه كان يصلي خلف رسول الله صلعم الصحابة وغيرهم من المنافقين والأعراب الجهال، وهذا من باب حسن الظن بهم، وإلا فليس الضحك كبيرة، وهم ليسوا من الصغائر بمعصومين، ولا عن الكبائر على تقدير كونه كبيرة، ومع هذا قد وقع من الأحداث في حضرته ◙ ما هو أشد وأعظم من هذا، فما زعمه باطل لا يعتد به) .
وزعم ابن حجر بعد نقله عن ابن المنذر الذي ذكرناه على: (أنَّهم لم يأخذوا بمفهوم الخبر المروي في الضحك، بل خصُّوه بالقهقهة) .
قلت: هذا كلام من لا ذوق له في دقائق التركيب، وقد زاد في الطنبور نغمة على ابن المنذر، وكيف لم يأخذوا بمفهوم الخبر المروي في الضحك؟ ولو لم يأخذوا ما قالوا: الضحك يفسد الصلاة، ولا خصُّوه بالقهقهة، وقد ذكر صريحًا، كما جاء في حديث ابن عمر صريحًا، وجاء أيضًا بلفظ: (القرقرة) في حديث عمران بن حصين، والأحاديث تفسر بعضها بعضًا، فهذا الزعم باطل لا أصل له، بل هو زور وبهتان، كما لا يخفى على من له أدنى بيان.
وإنما تنقض الوضوء القهقهة إذا صدرت من بالغ رجل أو امرأة، أمَّا قهقهة الصبي؛ فلا تنقض وضوءه إجماعًا، وتفسد صلاته، كذا في «المصفى» و«السراج»، ورجحه في «البحر»، ولا بد أن يكون البالغ يقظانًا، أمَّا قهقهة النائم في الصلاة؛ ففيها(4) قولان مصححان، واختار في «فتح القدير»: أنَّها تفسد الصلاة ولا تنقض الوضوء، وبه يفتى، كما في «الدر المختار»، وأمَّا قهقهة الناسي في الصلاة؛ فجزم في «التبيين» بالنقض؛ لأنَّ حالة الصلاة مذكِّرة، ورجحه في «البحر»، ومثل الناسي الساهي، كما في «الدر»، فإنَّه إذا تقهقه في الصلاة ساهيًا؛ انتقض وضوءُه على المختار، ولا بد أن تكون القهقهة في كل صلاة ذات ركوع وسجود، فلا تنقض القهقهة في صلاة الجنازة وسجدة التلاوة، لكن يبطلان، والتيمم كالوضوء، واتفقوا على أنَّ القهقهة لا تبطل الغسل، واختلفوا هل الوضوء الذي في ضمن الغسل ينتقض بها؟ فعلى قول عامة المشايخ: لا ينتقض، وهو الأصح، كما في «شرح الملتقى»، وصحَّح المتأخرون النقض، وهو اختيار الإمام قاضيخان، ورجحه في «البحر»، وقال غير واحد: إنَّه الصحيح، وهو الأحوط، والله أعلم.
واختلف في القهقهة؛ فقيل: إنها من الأحداث، وقيل: إنَّها ليست من الأحداث، وإنما وجب الوضوء بها زجرًا(5) وعقوبة، وهو المعتمد، كما رجحه في «البحر» و«النهر» وغيرهما؛ لأنَّه الموافق للأحاديث المرويَّة فيها؛ لأنَّه ليس فيها إلا الأمر بالإعادة للوضوء والصلاة، ولا يلزم منه كونها حدثًا، وتمامه في «منهل الطلاب».
(وقال الحسن)؛ أي: البصري، مما وصله ابن أبي شيبة، وسعيد بن منصور بإسناد صحيح: (إن أخذ من شعره) أي: شعر رأسه أو شاربه (أو) من (أظفاره)، ولابن عساكر: (وأظفاره)؛_بالواو_ بعد الوضوء؛ فلا وضوء عليه، وكذا لو قشط خفه بعد مسحه؛ فلا إعادة عليه، والمراد من أخذ الشعر ما هو أعم؛ فيشمل القص والحلق والنتف بالنسبة للإبط، فلا إعادة عليه ولا مسحه في الجميع، خلافًا لأبي العالية، والحكم، وحماد، ومجاهد، وقال عطاء والنخعي والشافعي: (يمسه الماء)، (أو خلع) وفي رواية: بالواو (خفيه) أو أحدهما بعد المسح عليهما؛ (فلا وضوء عليه)، بل يغسلهما إذا أراد الوضوء، وبه قال الإمام الأعظم، والثوري، وأبو ثور، والشافعي في الجديد، والمزني، وقال مكحول، والنخعي، وابن أبي ليلى، والزهري، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق: (يستأنف الوضوء)، وبه قال الشافعي في القديم، وقال مالك والليث: (يغسل رجليه مكانه، فإن لم يفعل؛ استأنف الوضوء)، وقال الحسن البصري وقتادة وروي عن النخعي: (أنه لا شيء عليه ويصلي) .
(وقال أبو هريرة) عبد الرحمن بن صخر ☺، مما وصله إسماعيل القاضي في «الأحكام» بإسناد صحيح من طريق مجاهد عنه موقوفًا: (لا وضوء إلا من حدث) وهو لغة: الشيء الحادث، ثم نقل إلى المعاني الناقضة للطهارة، وإلى المنع المترتب عليها مجازًا، من باب قصر العام على الخاص، والأول هو المراد هنا، فالحدث عام في سائر الأحداث لا يختص بحدث دون حدث، فيشمل الخارج من السبيلين، والإغماء، والدم، والنوم، والجنون، والقهقهة وغيرها، ولا معنى لتخصيصه بالخارج من السبيلين؛ لأنَّ اللفظ عامٌّ، ولا دليل على التخصيص، والأصل عدمه، ومدَّعيه مطالَب بالدليل؛ فافهم.
(ويُذكر) بضم المثناة (عن جابر) ☺، مما وصله ابن إسحاق في «المغازي»، وأخرجه أحمد في «مسنده»، والحاكم في «مستدركه» وصحَّحه، وابن حبان في «صحيحه»، والدارقطني في «سننه»؛ كلهم من طريق ابن إسحاق، وإذا كان الحديث صحيحًا؛ فلمَ لم يجزم به المؤلف، وذكره بصيغة التمريض؟! لأجل الاختلاف في ابن إسحاق، كما في «عمدة القاري»، وما أجاب به ابن حجر والكرماني، فلا يعوَّل عليه؛ لأنَّه لا يقوله من له أدنى معرفة في العلم؛ فافهم.
(أن رسول الله صلعم كان في غزوة ذات الرِّقاع)؛ بكسر الرَّاء، جمع رُقعة؛ بضمها، سميت باسم شجرة هناك، وقيل: باسم جبل هناك فيه بياض وسواد وحمرة يقال له: الرِّقاع، فسميت به، وقيل: سميت به؛ لرقاع كانت في ألويتهم، وقيل: لأنَّ أقدامهم نقبت، فلفُّوا عليها الخرق، وهذا هو الصحيح؛ لأنَّ أبا موسى حاضر ذلك شاهده، وقد أخبر به، وكانت تلك الغزوة في سنة أربع من الهجرة، وذكر المؤلف: / أنها كانت بعد خيبر؛ لأنَّ أبا موسى جاء بعد خيبر، كذا في «عمدة القاري».
(فرُمي) بالبناء للمفعول (رجل) هو عباد بن بشر (بسهم) من رجل من المشركين، وهو قائم يصلي، (فنزَف الدم)؛ بفتح الزاي، وفي رواية: (فنزفه الدم)؛ أي: خرج منه دم كثير حتى يضعف، كذا قاله الجوهري، وقول ابن التين: (كذا رويناه، والذي عند أهل اللغة: «نُزف» على صيغة المجهول؛ أي: سال دمه) فيه نظر؛ فافهم.
(فركع) أي: الرجل، (وسجد، ومضى في صلاته)؛ أي: لم يقطعها، فاستدلَّ به الشافعي على أنَّ الدم إذا خرج وسال؛ لا ينقض الوضوء، والاستدلال غير ظاهر؛ لأنَّه يحتمل أنَّ الرجل قد قضى تلك الصلاة بعد أنَّ عصب جراحته، ومضيُّه فيها كان لعدم علمه بخروج الدم؛ بدليل ما في الحديث المذكور، ولمَّا رأى المهاجري بالأنصاري من الدماء؛ قال: سبحان الله! ألا نبهتني أول ما رمى؟ قال: كنت في سورة أقرؤها، فلم أحبَّ أن أقطعها، فنسب عدم القطع للسورة لا للصلاة، وهذا يدلَّ على أن المهاجري أنكر عليه ذلك حيث رآه في الصلاة ودمه سائل على ثيابه وبدنه، وهو يدلَّ على أن الأنصاري كان لا يعلم الحكم؛ لكونه حديث عهد بالإسلام، فعلم بذلك أنَّه لا يدري سيلان الدم منه فمضى في صلاته ثم قضاها، والدليل إذا طرقه الاحتمال؛ لا يصح الاحتجاج به.
على أنَّ احتجاج الشافعي بالحديث مشكل جدًّا؛ لأنَّ الدم إذا سال؛ أصاب بدنه ورجله، وربما أصاب ثوبه وثيابه، ونزل عليه من الدماء، ومع إصابة شيء من ذلك، فإن كان يسيرًا؛ لا تصح الصلاة معه عنده، فكيف بالكثير الفاحش؟
وأجابوا عن ذلك: بأنَّ الدم كان يخرج من الجراحة على سبيل الزَّرَق حتى لا يصيب شيئًا من ظاهر بدنه.
قلت: وهو بعيد جدًّا؛ لأنَّ الإنسان إذا جرحه موسًى أو قلم طراش جرحًا يسيرًا؛ لا بدَّ وأنَّ الدم يبقى على رأس الجرح؛ لأنَّ الدم ليس له قوة السيلان كالماء، بل هو ثقيل، وبمجرد خروجه يتجمَّد ويلطخ بالبدن والثوب، كما هو مشاهد بالعينين.
وحاول ابن حجر الاستدلال لإمامه، وجعله للمؤلف حيث قال: (والظاهر: أنَّ المؤلف يرى أنَّ خروج الدم في الصلاة لا تبطل بدليل أنه ذكر عقيبه أثر الحسن) .
قلت: وهذه المحاولة لضعف استدلال إمامه فجعله للمؤلف، وهو بعيد غير صحيح أيضًا، فإن المؤلف لم ير ذلك ولا قال به، ونسبته لهذا القول رجمًا بالزعم الباطل، وأثر الحسن لا يدلُّ على شيء من ذلك أصلًا؛ لأنَّه لا يلزم من قوله: (يصلُّون في جراحاتهم) أن يكون الدم خارجًا سائلًا، ومن له جراحة؛ لا يترك الصلاة لأجلها، بل يصلي وجراحته إمَّا معصبة بشيء أو مربوطة بجبيرة، ومع ذلك لو خرج شيء من ذلك؛ لا تفسد صلاته بمجرد الخروج، ولا بدَّ من السيلان وخروجه إلى موضع يلحقه حكم التطهير؛ فافهم.
واحتج أئمتنا الحنفية بأحاديث كثيرة صحيحة منها: ما رواه الإمام المؤلف في هذا الصحيح عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة ♦ قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي صلعم فقالت: يا رسول الله؛ إني أُستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ قال: «لا، إنَّما ذلك عرق، وليس بحيضة، فإذا أقبلت الحيضة؛ فدعي الصلاة، وإذا أدبرت؛ فاغسلي عنك الدم» قال هشام: (قال: أي ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت)، فهذا دليل واضح على أن سيال الدم ناقض للوضوء، لا يقال: قوله: «توضئي لكل صلاة» من كلام عروة؛ لأنَّ الترمذي لم يجعله من كلام عروة وصحَّحه، ولنا أحاديث غيره ستأتيك إن شاء الله تعالى؛ فافهم.
(وقال الحسن) أي: البصري: (ما زال المسلمون يصلون في جراحاتهم)؛ جمع جِراحة؛ بكسر الجيم فيهما؛ أي: يصلون في جراحاتهم من غير سيلان الدم بأن تشدَّ بجبيرة أو تعصب بشيء، والدليل على ذلك ما رواه ابن أبي شيبة في «مصنفه»، عن هشيم، عن يونس، عن الحسن: (أنَّه كان لا يرى الوضوء من الدم إلا ما كان سائلًا)، هذا الذي روي عن الحسن بإسناد صحيح هو مذهب الإمام الأعظم وأصحابه، وهو حجة لهم على الخصم، فبطل بذلك قول القائل: (لكونه يرد ما ذهب إليه ويبطل ما اعتمد عليه)، وليس هذا شأن المصنفين، وإنَّما هو دأب المعاندين المتعصبين الذين يدقون الحديد البارد على السندان، وتمامه في «عمدة القاري»؛ فافهم.
واعترض القسطلاني: (بأنَّ الأثر الذي رواه المؤلف ليس هو الذي ذكره ابن أبي شيبة، فإنَّ الأول روايته عن الصحابة وغيرهم والثاني مذهبٌ للحسن) انتهى.
قلت: وهو ممنوع، بل الذي ذكره المؤلف هو عين ما ذكره ابن [أبي] شيبة، وهما في الحقيقة واحد، لكن دأب المؤلف الاختصار، فاقتصر المؤلف بهذه العبارة لبيان غرضه، وأحال على ما ذكره ابن أبي شيبة، وكلُّ ذلك مروي عن الصحابة، وهو مذهب الحسن؛ لأنَّه لو كان الأول روايته عن الصحابة والثاني مذهبٌ له؛ لكان مذهب الحسن مخالفًا لأقوال الصحابة، ويلزم منه القول بالرأي، وإذا وُجِدت أقوال الصحابة؛ لا مساغ للرأي عند وجودها، فثبت بذلك أنَّ الأثر المذكور وإن كان في الظاهر أنَّه أثران؛ لكنهما في الحقيقة أثر واحد مرويٌّ عن الصحابة، وهو مذهب الحسن؛ فافهم، ومنشأ الاعتراض إنَّما هو من التعصب والمحاولة؛ فافهم.
(وقال طاووس)؛ هو ابن كيسان اليماني الحميري، واسمه ذكوان، وسمي طاووسًا؛ لأنَّه كان طاووس القراء، ووصل أثره ابن أبي شيبة بإسناد صحيح، عن عبد الله بن موسى، عن حنظلة، عن طاووس، توفِّي طاووسًا بمكة يوم التَّروية سنة ست ومئة، وصلى عليه هشام بن عبد الملك، (و) قال (محمد بن علي)؛ أي: ابن الحسين بن علي بن أبي طالب ♥، الهاشمي، المدني، أبو جعفر المعروف بالباقر، سمي به؛ لأنَّه بقر العلم؛ أي: شقَّه(6) بحيث عرف حقائقه، وتوفي سنة أربع عشرة ومئة، وزعم الكرماني: (أنه يحتمل أن يكون محمد بن علي المشهور بابن الحنفية)، وهو بعيد؛ لأنَّ عادة المؤلف إذا روى عن ابن الحنفية؛ صرح بقوله: (عن ابن الحنفية)، ولم يصرح بـ (محمد بن علي) ويطلق، وهو دليل على أنَّه هنا ما ذكرناه؛ فافهم، وهذا الأثر وصله أبو بشر المشهور بسمويه في «فوائده» من طريق الأعمش، (و) قال (عطاء)؛ بالمد: هو ابن أبي رباح، وأثره وصله عبد الرزاق عن ابن جريج عنه، (و) قال (أهل الحجاز)؛ من عطف العام على الخاص؛ لأنَّ طاووسًا ومحمد بن علي وعطاء حجازيون، وغير هؤلاء الثلاثة مثل سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، والفقهاء السبعة من أهل المدينة، ومالك، والشافعي، وآخرون: (ليس في الدم) السائل (وضوء) بل يغسل عنه الدم، وقال الإمام الأعظم، وأصحابه، وجماعة من الصحابة، والتابعين، وأبو عمرو، والثوري، والحسن ابن حيٍّ، وعبيد الله بن الحسن، والأوزاعي، وأحمد ابن حنبل، وإسحاق ابن راهويه: إن الدم إذا سال ينقض الوضوء؛ لما رواه الدارقطني: «إلا أن يكون دمًا سائلًا»، وفيه أحاديث أخرى دالَّة على ذلك، فإن كان الدم يسيرًا غير خارج ولا سائل؛ فإنَّه لا ينقض الوضوء عندهم جميعًا، وما أعلم أحدًا(7) أوجب الوضوء من يسير الدم إلا مجاهد وحده، وهذا الأثر ليس بحجة لمن قال: ليس في الدم السائل وضوء؛ لأنَّهم لا يرون العمل بفعل التابعين، ولا هو حجة على السادة الحنفية ومن تابعهم؛ لأنَّه لا يدل على أنَّ طاووسًا ومن معه كانوا يصلُّون والدم سائل؛ لأنَّ ذلك متعذر، ولئن سلَّمنا ذلك؛ فهو اجتهاد منهم، وقد قال الإمام الأعظم التابعي الجليل: «التابعون رجال، ونحن رجال يزاحمون ونزاحمهم»؛ والمعنى: أن أحدًا منهم إذا أدَّاه اجتهاده إلى شيء لا يلزمنا الأخذ به، بل نجتهد كما اجتهدوا، فما أدى اجتهادنا إليه؛ عملنا به وتركنا اجتهادهم، والظاهر: أنَّ هذا الأثر ليس بمروي عن النبي ◙، وإنما هو اجتهاد منهم، فلا يلزمنا اتباعهم، بل نتبع المرويَّ عن النبي الأعظم صلعم صريحًا، فإنَّه صرَّح بلزوم الوضوء من الدم السائل، وهو مذهبنا، وهو الحقُّ، وأدين الله عليه، والله أعلم.
(وعصر) عبد الله (ابن عمر) بن الخطاب ☻، مما وصله ابن أبي شيبة بإسناد صحيح (بَثْرة)؛ أي: واحدة في وجهه، كما صرح به / ابن أبي شيبة، وهي بفتح الموحَّدة وسكون المثلَّثة، ويجوز فتحها: الخراج الصغير، كالجدري، (فخرج منها)؛ أي: من البثرة (دم) وعند [ابن] أبي شيبة: (فخرج منها شيء من دم فحكَّه بين أصبعيه، ثم صلى) (ولم يتوضأ)؛ لأنَّه غير ناقض للوضوء؛ لعدم سيلانه، ولا فيه قوة السيلان، كما لو تخلل بعود فخرج عليه دم لا ينتقض؛ لأنَّه غير سائل، وقال في «الهداية»: ولو خرج الدم بالعصر وكان بحيث لو لم يعصر؛ لم يسل؛ قالوا: لا ينقض؛ لأنَّه ليس بخارج، وإنما هو مُخرَج، وهو المختار، وهو ظاهر عبارة القدوري، لكن اختار في «فتح القدير» عن «الكافي» النقض قال: (وهو الأصح، واعتمده غير واحد) .
قلت: والمعتبر عين السيلان، ولو بالقوة؛ لما قالوا: لو مسح الدم كلما خرج، ولو تركه لسال؛ نقض، وإلا؛ فلا، وكذا لو وضع عليه قطنة أو شيئًا آخر حتى ينشف، ثم وضعه ثانيًا وثالثًا، فإنه يجمع جميع ما نشف، فإن كان بحيث لو تركه سال؛ نقض، وإلا؛ فلا، وإنما يعرف ذلك بالاجتهاد وغلبة الظن، كذا في أكثر المعتبرات، فإذًا المعتبر السيلان، وفي مسألتنا لم يوجد السيلان ولو بالقوة؛ فلا نَقْضَ للوضوء أصلًا، فهذا حجَّة لمذهب الإمام الأعظم وأصحابه ♥؛ فافهم.
(وبزق)؛ بالزاي والسين والصَّاد بمعنًى واحد، كذا قاله في «عمدة القاري»، (ابن أبي أوفَى)؛ بفتح الفاء، هو عبد الله، واسم أبي أوفى: علقمة بن الحارث، الصحابي بن الصحابي، شهد بيعة الرضوان وما بعدها من المشاهد، ولم يزل بالمدينة حتى قُبِض النبي الأعظم ◙، وقال في حقِّه ◙: «اللهم صلِّ على آل أبي أوفى»، ثم انتقل إلى الكوفة، وتوفِّي بها سنة سبع وثمانين، وقد كُفَّ بصره، وهو آخر من مات من الصحابة بالكوفة، وهذا عبد الله بن أبي أوفى أحد من رأى الإمامُ الأعظمُ من الصحابة وروى عنه، وكان عمر الإمام الأعظم حينئذ سبع سنين، لأنَّ مولده ☺ كان سنة ثمانين على الصحيح، وقيل: سنة سبعين، وعليه فيكون حين رآه عمره سبع عشرة سنة.
وقد صح أن الإمام الأعظم قد سمع الحديث من سبعة من الصحابة، كما بسطه في أواخر «منية المفتي»، وذكر شمس الدين بن عربشاه الأنصاري في «منظومته» ثمانية من الصحابة ممن روى عنهم الإمام الأعظم: أنس بن مالك، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن أبي أوفى، وعامر بن الطفيل، وعبد الله بن أنيس، وواثلة بن الأسقع، وعبد الله بن الحارث بن جزء، وسهل بن سعد، والسائب بن يزيد، وعبد الله بن بسر، ومحمود بن ربيع ═، فهو من التابعين، كما جزم به الحافظ الذهبي، وابن حجر العسقلاني، والبدر العيني وغيرهم من الحفاظ، وأدرك بالسن نحو عشرين صحابيًّا، كما بسطه في أوائل «الضياء المعنوي»، وزاد عليه في «تنوير الصحيفة»، وقد اتَّبعه على مذهبه كثير من الأولياء الكرام؛ كإبراهيم بن أدهم، وشقيق البلخي، ومعروف الكرخي، وأبي يزيد البسطامي، وفضيل بن عياض الخراساني، وداود بن نصر الطائي، وأبي حامد اللفاف، وخلف بن أيوب، وعبد الله بن المبارك، ووكيع بن الجرَّاح، وأبي بكر الورَّاق، وغيرهم ممن لا يُحصَون، وقال أبو القاسم القشيري: (سمعت أبا علي الدقاق يقول: أخذت هذه الطريقة عن أبي القاسم النصرباذي، وقال: أنا أخذتها من الشبلي، وهو أخذها من السري السقطي، وهو من معروف الكرخي، وهو من داود الطائي، وهو أخذ العلم والطريقة من الإمام الأعظم ♥، وكلٌّ منهم قد أثنى عليه، وأقر بفضله)، وقال ابن المبارك في حقِّه ☺:
لقد زان البلادَ ومن عليها إمَامُ المسْلِمينَ أبُو حَنِيفةْ
بأحكامِ وآثارِ وفقهٍ كآيَاتِ الزَّبُورِ عَلَى صَّحِيفَةْ
فما في المشرقين له نظيرٌ ولا في المغربين ولا بكوفةْ
يبيت مشمِّرًا سَهَرَ الليالي وصام نهاره لله خيفةْ
فمن كأبي حنيفة في علاه إمام للخليقة والخليفةْ
رأيت العائبين له سفاهًا خلاف الحق مع حجج ضعيفةْ
وكيف يحل أن يؤذى فقيه له في الأرض آثار شريفةْ؟
وقد قال ابن إدريسٍ مقالًا صحيح النقل في حكمٍ لطيفةْ
بأنَّ الناس في فقه عيالٌ على فقه الإمام أبي حنيفةْ
فلعنة ربنا أعداد رمل على من رد قول أبي حنيفةْ
فأشار ☺ بابن إدريس، وهو الإمام الشافعي حيث قال: (الناس عيال على أبي حنيفة في الفقه)، وقد تزوج الإمام محمد الشيباني بأم الشافعي، ففوض إليه كتبه وماله، فبسببه صار الشافعي فقيهًا، ولقد أنصف الشافعي حيث قال: (من أراد الفقه؛ فليلزم أصحاب أبي حنيفة، فإنَّ المعاني قد تيسَّرت لهم، والله ما صرت فقيهًا إلَّا بكتب محمد بن الحسن)، وقال: (إن من أمنِّ الناس عليَّ في الفقه محمد بن الحسن)، كذا ذكره غير واحد من الحنفية والشافعية حتى ابن حجر في «التحفة»، ولا يلتفت إلى قول المعاندين المتعصبين، وليس مثلهم إلا كمثل الذباب وقع تحت ذنب جواد في حالة كرِّه وفرِّه، ولا يخفى أن النقي لا يغيره مقل الذباب، كما أن البحر لا يفسده ولوغ الكلاب، ولله درُّ من قال:
يَا نَاطِحَ الْجَبَلِ الْعَالِي لِيُكْلِمَهُ أَشْفِقْ عَلَى الرَّأْسِ لَا تُشْفِقْ عَلَى الْجَبَلِ
ومنشأ ذلك أنه لما شاعت فضائل الإمام الأعظم، وظهرت رفعته، ولم يظهر لأحد من الأئمة المشهورين مثل ما ظهر له من الأصحاب والتلاميذ، ولم ينتفع الناس والعلماء بمثل ما انتفعوا به وبأصحابه في تفسير الأحاديث المشتبهة، والمسائل المستنبطة، والنوازل والقضايا والأحكام، وما قال قولًا إلا أخذ به إمام من الأئمة الأعلام، وقد جعل الله الحكم لأصحابه وأتباعه من زمنه إلى هذه الأيام، إلى أن يحكم بمذهبه عيسى ◙، كما في «الدر» و«القهستاني» يدل لذلك ما ذكره أهل الكشف أن مذهبه آخر المذاهب انقطاعًا، كما قاله الشعراني في «الميزان»؛ تكلموا فيه بما يليق بهم، كما تكلموا في مالك والشافعي وأحمد، بل وفي الصدِّيق وعمر وعثمان وعلي، وكل الصحابة، ولله درُّ من قال:
وَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْجُو مِنِ النَّاسِ سَالِمًا وَلِلنَّاسِ قَالٌ بِالظُّنُونِ وَقِيلُ
وقد انتصر للإمام الأعظم السيوطي في «تبييض الصحيفة»، وابن حجر في «الخيرات الحسان»، وابن عبد الهادي الحنبلي في «تنوير الصحيفة» وغيرهم من الأئمة الأعلام، ولله درُّ القائل:
حَسْبِي مِنِ الْخَيْرَاتِ مَا أَعْدَدْته يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي رِضَا الرَّحْمَنِ
دِينُ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ خَيْرِ الْوَرَى ثُمَّ اعْتِقَادِي مَذْهَبَ النُّعْمَانِي
وقد نظم بعض الأفاضل تاريخ مولد الإمام الأعظم ووفاته، ومولد الإمام مالك ووفاته، ومولد الإمام الشافعي ووفاته، ومولد الإمام أحمد ووفاته؛ مشيرًا إليه بحروف الجُمَل لكل إمام منهم ثلاث كلمات على هذا الترتيب حيث قال:
تَارِيخُ نُعْمَانَ يَكُنْ سَيْفٌ سَطَا وَمَالِكٌ فِي قَطْعِ جَوْفٍ ضُبِطَا
وَالشَّافِعِيُّ صَيِّنٌ بِيْرٌ نَدٍ وَأَحْمَدٌ بِسَبْقِ أَمْرٍ جُعِّدَا
فَاحْسبْ عَلَى تَرْتِيبِ نَظْمِ الشِّعْرِ مِيلَادَهُمْ فَمَوْتُهُمْ كَالْعُمُرِ
وفيه إشارة إلى أنهم على هذا الترتيب كترتيب الخلفاء الراشدين: الإمام الأعظم، فمالك، فالشافعي، فأحمد ♥. /
وهذا الأثر وصله سفيان الثوري في «جامعه»، عن عطاء بن السائب، ورواه ابن أبي شيبة في «مصنفه» بسند جيد، عن عبد الوهاب الثقفي، عن عطاء بن السائب قال: رأيت ابن أبي أوفى بزق (دمًا) مخلوطًا بالبزاق، وهو يصلي من غير إظهار حروف، (فمضى في صلاته)؛ أي: استمر فيها؛ لعدم انتقاض طهره بذلك؛ لأنَّ الدم الذي يخرج من الفم إن كان من جوفه؛ فغير ناقض للوضوء عند الإمام محمد، كما في «التاترخانية»، وهو الصحيح، كما في «المحيط» و«السراج»، وإن كان من بين أسنانه؛ فالمعتبر للغلبة للبزاق وللدم، فإن غلب البزاق على الدم لا يَنْقُض، كما في مسألتنا، وإن غلب الدم؛ نقض، والغلبة تُعلَم من حيث اللون؛ فإن كان الدم المخلوط لونه أصفر؛ فهو مغلوب لا يَنْقُض، وإن كان شديد الحمرة؛ فهو غالب، وإن لم تشتدَّ حمرته؛ فمساوٍ، وهما ناقضان احتياطًا، ولم يتعرض الراوي لذلك، وظاهر كلامه هذا.
وقد روى ابن أبي شيبة عن الحسن في رجل بزق فرأى في بزاقه دمًا: أنه لم يرَ ذلك شيئًا حتى يكون عبيطًا، وروي عن ابن سيرين: (أنه ربما بزق، فيقول لرجل: انظر هل تغير الريق؟ فإن قال: تغير يبزق الثانية، فإن كان في الثالثة متغيِّرًا؛ فإنَّه يتوضأ، وإن لم يكن في الثالثة متغيِّرًا؛ لم يرَ الوضوء) .
قلت: والتغيير لا يكون إلا بالغلبة، كما ذكرنا؛ فافهم، والله تعالى الكريم أعلم.
(وقال ابن عمر) عبد الله بن عمر بن الخطاب ☻ (و) قال (الحسن)؛ أي: البصري، وهذان الأثران رواهما ابن أبي شيبة في «مصنفه» (فيمن يَحْتَجِم) وللأربعة: (فيمن احتجم) : (ليس عليه إلا غَسْلُ مَحَاجمه) جمع مَحجمة_بفتح الميم_: مكان الحجامة، وبكسر الميم: اسم للقارورة، والمراد هنا الأول، وسقط لفظة: (إلا) عند أكثر الرواة؛ يعني: أن الوضوء ينتقض بالحجامة، وعليه غسل مكان الحجامة؛ لأنَّها تنجَّست بالدم النجس، فإنَّ هذين الأثرين مبنيان على سؤال سائل سأل: إذا احتجم الرجل هل يَنْجُسُ مكان الحجامة؟ فأجابا: بأنَّه يلزمه غسل مكان الحجامة؛ يعني: وإذا كان متوضِّئًا؛ ينتقض وضوءُه، فلا دلالة فيه على أنَّ الحجامة لا تنقض الوضوء؛ لأنَّه لم يصرِّح بالوضوء؛ هل السائل متوضِّئ أم لا؟ والظاهر: أن السؤال وقع عن مكان الحجامة، هل تنجس؛ فيلزم غسله، أو طاهر؛ فلا يلزم؟ ويدل لهذا لفظ أثر ابن عمر: (أنه كان إذا احتجم؛ غسل أثر محاجمه)، وأثر الحسن: أنه كان يقول: (يغسل أثر المحاجم)، ففي كلٍّ منهما لم يتعرض لذكر الوضوء، فدلَّ على أن الوضوء ينتقض، ويلزمه غسل محاجمه، وهو مذهب الإمام الأعظم وأصحابه، والإمام أحمد ابن حنبل وغيرهم.
وقال في «عمدة القاري»: (الدم الذي يخرج من موضع الحجامة مُخرَج وليس بخارج، والنقض يتعلق بالخارج، فإذا احتجم وخرج الدم في المَحْجَمِ بمصِّ الحجَّام ولم يَسِلْ ولم يلحق إلى موضع يلحقه حكم التطهير؛ فعلى الأصل المذكور: الوضوء لا ينتقض، ولكن لا بدَّ من غسل مَحَاجمه بأي شيء كان) انتهى.
ولئن سلمنا أنَّه على ظاهره غير ناقض؛ فهو ليس بحجة على الأئمة الحنفية والحنابلة؛ لأنَّه إن كان من أقوال الصحابة؛ فالمروي عن النبي الأعظم ◙ بالنقض بالدم أحق وأولى بالاتباع، وأقوال الصحابة لها تأويل ومحمل صحيح، ولا تأويل ولا محمل لأقوال النبي الأعظم ◙، وإن كان من قول التابعين؛ فليس بحجة عليهم؛ لأنَّه لا يلزمنا الأخذ بما اجتهدوا به؛ لأنَّ كلَّ واحد من التابعين له اجتهاد خاصٌّ، فلا يلزم الأخذ باجتهاده، فهم رجال ونحن رجال، كما قدمناه؛ فافهم.
[1] في الأصل: (للدامات).
[2] في الأصل: (طريق).
[3] ما بين معقوفين سقط من الأصل، استفدناه من «عمدة القاري».
[4] في الأصل: (ففيه) .
[5] في الأصل: (جزرًا)، وهو تحريف عن المثبت.
[6] في الأصل: (سنَّه)، ولعل المثبت هو الصواب.
[7] في الأصل: (أحد) .