إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: إنما أنا بشر وإنكم تختصمون

          6967- وبه قال: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ) بالمثلَّثة أبو عبد الله العبديُّ البصريُّ، أخو سليمان بن كثير (عَنْ سُفْيَانَ) الثَّوريِّ (عَنْ هِشَامٍ، عَنْ) أبيه (عُرْوَةَ) بن الزُّبير (عَنْ زَيْنَبَ ابْنَةِ) ولأبي ذرٍّ: ”بنت“ (أُمِّ سَلَمَةَ) واسم أبي زينب أبو سلمة بن عبدِ الأسد (عَنْ) أمِّها (أُمِّ سَلَمَةَ) هند بنت أبي أميَّة ♦ (عَنِ النَّبِيِّ صلعم ) أنَّه (قَالَ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ) يُطلقُ على الواحدِ كما هنا، وعلى الجمع كقولهِ تعالى: {نَذِيرًا لِّلْبَشَرِ}[المدثر:36] وليست «إنَّما» هنا للحصر التَّامِّ بل لحصرِ بعض الصِّفات في الموصوف، فهو حصر في البشريَّة بالنِّسبة إلى الاطِّلاع على البواطن، ويُسمَّى هذا عند أهلِ البيان قصرَ قَلبٍ؛ لأنَّه أتى به ردًّا على من يزعم أنَّ من كان رسولًا يعلم الغيب ولا يخفى عليه المظلوم، فأعلم صلعم أنَّه كالبشر في بعض الصِّفات الخلقيَّة، وإن زاد عليهم بما أكرمَهُ الله به من الكراماتِ من الوحي والاطِّلاعِ على المغيَّبات في أماكن، وأنَّه يجوزُ عليه في الأحكام ما يجوزُ عليهم، وأنَّه إنَّما يحكُم بينهم بالظَّواهر، فيحكم بالبيِّنة واليمين وغيرهما مع جوازِ كون الباطنِ على خلافِ ذلك، ولو شاء الله لأطلعَه‼ على باطن أمر الخصمين، فحكمَ بيقين من غير احتياجٍ إلى حجَّةٍ من المحكوم له من بيِّنةٍ أو يمينٍ، لكن لما كانت أمَّته مأمورين باتِّباعه والاقتداءِ بأقوالهِ وأفعالهِ جعل له من الحكم في أقضيتهِ ما يكون حكمًا لهم في أقضيتِهم؛ لأنَّ الحكمَ بالظَّاهر أطيبُ للقلوبِ وأسكنُ للنُّفوس، وقال صلعم ذلك توطئةً لما يأتي بعد؛ لأنَّه معلومٌ أنَّه صلعم بشر (وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) زاد أبو ذرٍّ عن الكُشمِيهنيِّ: ”إليَّ“ فلا أعلمُ بواطنَ أمورِكم كما هو مُقتضى الحالة البشريَّة، وإنَّما أحكمُ بالظَّاهر (وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ) بالحاء المهملة، أفعل تفضيل من لحِن _بكسر الحاء_ إذا فطنَ لحجَّته، أي: ألسنَ وأفصحَ وأبينَ كلامًا، وأقدرَ على الحجَّة (مِنْ بَعْضٍ) وهو كاذبٌ (وَأَقْضِيَ) عطف على المنصوب السَّابق بالواو، ولأبي ذرٍّ: ”فأقضِي“ (لَهُ) بسبب بلاغتهِ (عَلَى نَحْوِ مَا) أي: الَّذي (أَسْمَعُ) ولأبي ذرٍّ عن الحَمُّويي والمُستملي: ”ممَّا أسمعُ“ (فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ) وفي رواية: ”بحقِّ أخيه المسلم“ ولا مفهوم له؛ لأنَّه خرجَ مخرج الغالبِ، وإلَّا / فالذِّمِّيُّ والمعاهد كذلك، وسقطَ لفظ «حقّ» لأبي ذرٍّ، فيصيرُ: ”فمَن قضيْتُ له مِن أخيهِ“ (شَيْئًا) بظاهرٍ يُخالف الباطنَ فهو حرامٌ (فَلَا يَأْخُذْ) بإسقاطِ الضَّمير المنصوب، أي: فلا يأخذْ ما قضيتُ له. ولأبي ذرٍّ عن الكُشمِيهنيِّ: ”فلا يأخذه“ (فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً) بكسر القاف، طائفة (مِنَ النَّارِ) إن أخذَها مع علمه بأنَّها حرامٌ عليه، وهذا من المبالغةِ في التَّشبيه جعل ما يتناوله المحكوم له بحكمهِ صلعم ، وهو في الباطنِ باطلٌ قطعة من النَّار. وقال في «العدَّة»: أطلقَ عليه ذلك؛ لأنَّه سببٌ في حصول النَّار له، فهو من مجاز التَّشبيه كقولهِ تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا}[النساء:10] وحاصله: أنَّه أخذ ما يؤولُ به إلى قطعةٍ من النَّار، فوضع المسبَّب وهو قطعةٌ من النَّار موضعَ السَّبَب وهو ما حكمَ له به.
          وفي الحديث: أنَّ حكمَ الحاكمِ لا يُحلُّ ما حرَّم الله ورسوله ولا يحرِّمه، فلو شهدَ شاهدا زورٍ لإنسان بمالٍ فحكمَ به لم يحلَّ للمحكومِ له ذلك المال، ولو شهدا عليه بقتلٍ لم يحلَّ للوليِّ قتله مع علمه بكذبهِمَا، وإنْ شهدا على أنَّه طلَّق امرأتَه لم يحلَّ لمن علم كذبهما أنْ يتزوَّجها، فإن قيل: هذا الحديثُ ظاهره: أنَّه يقع منه صلعم حكم في الظَّاهر يخالفُ الباطن، وقد اتَّفق الأصوليُّون على أنَّه صلعم لا يقرُّ على الخطأ في الأحكامِ. فالجوابُ: أنَّه لا تعارض بين الحديثِ وقاعدةِ الأصول؛ لأنَّ مرادَ الأصوليِّين ما حكم فيه باجتهادِهِ(1) هل يجوزُ أن يقعَ فيه خطأ؟ فيه خلاف والأكثرون على أنَّه لا يخطئُ في اجتهاده بخلاف غيره، وأمَّا الَّذي في الحديث فليس من الاجتهادِ في شيءٍ؛ لأنَّه حكم بالبيِّنة ونحوها، فلو وقعَ منه ما يخالفُ الباطن لا يسمَّى الحكم خطأ، بل الحكم صحيحٌ على‼ ما استقرَّ به التَّكليف، وهو وجوبُ العمل بشاهدين مثلًا، فإن كانا شاهدَي زورٍ أو نحو ذلك فالتَّقصير منهما، وأمَّا الحكم فلا حيلةَ له فيه، ولا عيبَ عليه بسببهِ بخلاف ما إذا أخطأَ في الاجتهادِ.
          والحديث سبق في «المظالم» [خ¦2458] و«الشَّهادات» [خ¦2680] ويأتي إن شاء الله تعالى بعونه وقوَّته في «الأحكام» [خ¦7168].


[1] في (ع): «باجتهاد».