إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: يقول الله: يا آدم فيقول: لبيك وسعديك والخير في يديك

          6530- وبه قال: (حَدَّثَنِي) بالإفراد، ولأبي ذرٍّ وابن عساكرَ: ”حَدَّثنا“ (يُوسُفُ بْنُ مُوسَى) بن راشدٍ القطَّان الكوفيُّ، المتوفى ببغداد سنة اثنتين وخمسين ومئتين، قال: (حَدَّثَنَا جَرِيرٌ) بفتح الجيم، ابن عبد الحميد (عَنِ الأَعْمَشِ) سليمان (عَنْ أَبِي صَالِحٍ) ذكوان الزَّيَّات (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ) سعد بن مالكٍ الخدريِّ ☺ ، أنَّه(1) (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم : يَقُولُ اللهُ) ╡، وسقط لأبي ذرٍّ «قال: قال رسول الله صلعم » فيكون الحديثُ غير مرفوعٍ، وبه جزمَ أبو نُعيمٍ في «مُستخرجه». قال في «الفتح»: وفي روايةٍ بإثبات قوله: ”قالَ رسولُ الله صلعم “ وكذا في مسلمٍ عن عثمان ابن أبي شيبة، عن جريرٍ بسند البخاريِّ فيه: (يَا آدَمُ. فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالخَيْرُ فِي يَدَيْكَ) في الاقتصار على الخيرِ نوع تعطُّفٍ ورعايةٍ للأدب، وإلَّا فالشَّرُّ أيضًا بتقديرهِ كالخير (قَالَ: يَقُولُ: أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ) ميِّزهم من النَّاس (قَالَ) آدمُ: سمعتُ يا ربِّ وأطعتُ (وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟) فالواو عاطفةٌ على محذوفٍ، أي: وما مقدار مبعوث النَّار؟ (قَالَ) الله تعالى: (مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَ مِئَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ) فالمتأخِّر من الألف واحدٌ(2)، ولا معارضة بينه وبين الرِّواية الأولى «من كلِّ مئة تسعةً وتسعين» [خ¦6529] لأنَّ مفهومَ العدد لا اعتبارَ له، فالتَّخصيص بعددٍ لا يدلُّ على نفي الزَّائد / ، أو المقصود(3) من العددين هو تقليلُ عددِ المؤمنين، وتكثيرُ عدد الكافرين، قاله صاحب «الكواكب». وتعقَّبه صاحب «الفتح» فقال: مقتضَى كلامه الأوَّل تقديم حديث أبي هريرة على حديثِ أبي سعيدٍ، فإنَّه يشتملُ على زيادةٍ، فإنَّ حديث أبي سعيدٍ يدلُّ على أنَّ نصيبَ أهل الجنَّة من كلِّ ألفٍ واحدٌ، وحديثُ أبي هريرة يدلُّ على أنَّه عشرةٌ، فالحكمُ للزَّائد، ومُقتضى كلامهِ الأخير أنَّ لا يُنظر إلى العددِ أصلًا بل القدر المشترك منهما ما ذكرهُ من تقليلِ العدد، ثمَّ أجاب بحمل حديث أبي سعيدٍ ومَن وافقه على جميع ذرِّيَّة آدم، فيكون من كلِّ ألفٍ واحدٌ، وحمل حديث أبي هريرة ومَن وافقه على من عدا يأجوج ومأجوج، فيكون من كلِّ ألفٍ عشرةٌ، ويقرِّب ذلك‼ أنَّ يأجوجَ ومأجوج ذُكِرُوا في حديثِ أبي سعيدٍ دون حديث أبي هريرة، ويحتملُ أن يكون الأوَّل يتعلَّق بالخلقِ أجمعين، والثَّاني بخصوصِ هذه الأمَّة، ويقرِّبه قوله في حديثِ أبي هريرة: «إذا أخذَ منَّا واحدٌ»، أو يُحتمل أن تقعَ القسمة مرَّتين مرَّةً من جميع الأمَّة ومرةً من هذه الأمَّة فقط، فيكون من كلِّ ألفٍ عشرة(4)، لكن قيل في حديث ابن عبَّاسٍ: «إنَّما أنتُم جزءٌ من ألف جزءٍ»، يُحتمل أن يكون المراد بـ «بَعث النَّار» الكفَّار ومَن يدخُلها من العُصاة، فيكون من كلِّ ألف تسع مئة وتسعة وتسعون كافرًا، ومن كلِّ مئةٍ تسعةٌ وتسعون عاصيًا. انتهى.
          (فَذَاكَ) بدون لام (حِينَ) أي: الوقت الَّذي من شدَّة هَوله (يَشِيبُ) فيه (الصَّغِيرُ {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا}) جنينَها ({وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى}) بفتح السين وسكون الكاف، كأنَّهم سَكرى ({وَمَا هُم بِسُكَارَى}) على الحقيقةِ ({وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ}[الحج:2]) ولابن عساكرَ: ”سُكَارَى“ بضم السين وفتح الكاف فيهما، وبها قرأ غير حمزةَ والكسائيِّ في «الحجِّ» وهذا وقع على سبيلِ الفرض أو التَّمثيل(5)، والتَّقدير أنَّ الحال ينتهي إلى أنَّه لو كانت النِّساء حينئذٍ حوامل لوضعتْ، أو يحملُ على الحقيقة فإنَّ كلَّ أحدٍ يُبعث على ما مات عليه فتُبعث الحاملُ حاملًا والطِّفل طفلًا، فإذا وقعت زلزلة السَّاعة وقيل ذلك لآدم، حلَّ بهم من الوَجلِ ما تسقطُ معه الحاملُ ويشيب له الطِّفل (فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ) على الصَّحابة (فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ أَيُّنَا) ذلك (الرَّجُلُ) الَّذي يبقى من الألف (قَالَ صلعم : أَبْشِرُوا) قال الطِّيبيُّ: يُحتمل أن يكون الاستفهامُ على حقيقتهِ، فكان حقُّ الجواب أنَّ ذلك الواحد فلانٌ أو مَن يتَّصف بالصِّفة الفُلانيَّة، ويُحتمل أن يكون استعظامًا لذلك الأمرِ واستشعارًا للخوفِ منه، فلذلك وقعَ الجواب بقوله: «أَبشروا» (فَإِنَّ مِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أَلْفٌ) بالرَّفع مصحَّحًا(6) عليه في الفرعِ كأصله بتقدير: فإنَّه، فحذفت(7) الهاء وهي ضميرُ الشَّأن، والجملة الاسميَّة بعده خبر «إنَّ» ولأبي ذرٍّ: ”ألفًا“ بالنَّصب اسم «إنَّ» (وَمِنْكُمْ رَجُلٌ). وظاهر قوله: «فإنَّ من يأجوج ومأجوج ألفٌ» بزيادة(8) واحدٍ عمَّا ذُكر من تفصيل الألف فيُحتمل _كما في «الفتح»_ أن يكون من جبر الكسر، والمراد: أنَّ من يأجوج ومأجوج تسع مئةٍ وتسعة وتسعون أو ألفًا إلَّا واحدًا، وأمَّا قوله: «ومِنكم رجلٌ» فتقديره: والمُخرَج منكم رجلٌ، أو منكم رجلٌ مُخرجٍ. وقال القُرطبيُّ: قوله: «من يأجوج ومأجوج ألفٌ» أي: منهم وممَّن كان على الشِّرك مِثلهم، وقوله: «ومنكم رجلٌ»؛ يعني: من أصحابه ومَن كان مؤمنًا مِثلهم. وحاصله _كما في «الفتح»_: أنَّ الإشارة بقوله: منكم، إلى المسلمين من جميع الأُمم، وقد أشار إلى ذلك في حديثِ ابن مسعودٍ بقوله: إنَّ الجنَّة لا يدخُلها إلَّا نفسٌ مسلمةٌ. قال في «الفتح»: ووقع في بعض الشُّروح‼ أنَّ لبعض الرُّواة: ”فإنَّ منكم رجلًا ومن يأجوجَ ومأجوج ألفًا“ بالنَّصب فيهما.
          قلتُ: وكذا هو في «المصابيح» كـ «التَّنقيح» وقال الزَّركشيُّ: إنَّه مفعولٌ بـ «أَخْرج» المذكور في أوَّل الحديث، أي: فإنَّه يخرجُ(9) منكم كذا، قال البدر الدَّمامينيُّ: ومراده: أنَّه مفعولٌ بفعلٍ يدلُّ عليه «أَخرج» المذكور أوَّلًا؛ إذ لا يتصوَّر أن يكون مفعولًا بنفس ذلك الفعل، ففي عبارته تساهلٌ ظاهرٌ، ثمَّ إعرابه على هذا الوجه يقتضِي حذف الضَّمير المنصوب بـ «أنَّ» وهو / عندهم قليلٌ، وابن الحاجب صرَّح بضَعفه مع أنَّه لا داعي إلى ارتكابهِ، وإنَّما الإعرابُ الظَّاهر فيه أن يكون «رجلًا» اسم «إنَّ»، و«منكم» خبرها مُتعلِّقٌ بـ «يَخرج» أي: فإنَّ رجلًا يخرج منكم، و«من يأجوج ومأجوج» معطوفٌ على «منكم»، و«ألفًا» معطوفٌ على «رجلًا».
          ثمَّ قال: فإنَّ قلت: إنَّما يقدَّر مُتعلَّق الظَّرف والجارّ والمجرور المخبر بهما مثلًا كونًا مطلقًا كالحصولِ والوجود كما قدَّره النُّحاة، فكيف قدرته كونًا خاصًّا، وهل هذا إلَّا عدولٌ عن طريقتهم فما السَّبب فيه؟ وأَجاب(10) بأنَّ تمثيلَ النُّحاة بالكون والحصولِ إنَّما كان لأنَّ غرضَهم لم يتعلَّق بعاملٍ بعينهِ، وإنَّما تعلَّق بالعاملِ من حيث هو عاملٌ، وإلَّا فلو كان المقام يقتضِي تقديرًا خاصًّا لقدَّرناه.
          ألا ترى أنَّه لو قيل: زيد على الفرسِ، لقدَّرت: راكب، وهو أحسن(11) من تقدير: حاصلٍ، لا يتردَّد في جواز مثله مَن له ممارسةٌ بفنِّ العربيَّة. قال: ويروى ”أَلْفٌ“ بالرَّفع، و”منكم رجلًا“ بالنَّصب، وهي رواية الأَصيليِّ، ووجهها أن يكون «ألفٌ» رفعًا على اسمِ «إنَّ» باعتبارِ المحلِّ، وهو هُنا جائزٌ بالإجماعِ؛ لأنَّه بعد مُضيِّ الخبر، ويُحتمل أن يكون مبتدأ، وخبره الجارّ والمجرور المتقدِّم عليه، والجملة معطوفةٌ على الجملةِ المتقدِّمة المصدَّرة بـ «إن». انتهى.
          (ثُمَّ(12) قَالَ) صلعم : (وَالَّذِي نَفْسِي فِي يَدِهِ) ولأبي ذرٍّ: ”بيدِه“ (إِنِّي لأَطْمَعُ أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الجَنَّةِ) وسبق في حديثِ ابن مسعودٍ: «أَترضون أن تكونوا رُبع أهل الجنَّة» [خ¦6528] وحَملوه على تعدُّد القصَّة (قَالَ) أبو سعيدٍ: (فَحَمِدْنَا اللهَ) تعالى على ذلك (وَكَبَّرْنَا) وفيه دَلالة على أنَّهم استبشروا بما بشَّرهم به، فحمدوا الله على نعمتهِ العُظمى وكبَّروه استعظامًا لِنعمته بعد استعظامِهم لنقمتهِ (ثُمَّ قَالَ) صلعم : (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) ولغير أبي ذرٍّ: ”في يده“ (إِنِّي لأَطْمَعُ أَنْ تَكُونُوا شَطْرَ أَهْلِ الجَنَّةِ) نِصف أهلها (إِنَّ مَثَلَكُمْ) بفتح الميم والمثلثة (فِي الأُمَمِ كَمَثَلِ الشَّعَرَةِ البَيْضَاءِ فِي جِلْدِ الثَّوْرِ الأَسْوَدِ أَوِ الرَّقْمَةِ) بفتح الراء وسكون القاف، ولأبي ذرٍّ: ”أو(13) كالرَّقمة“ وهي قطعةٌ بيضاءُ أو شيءٌ مستديرٌ لا شَعر فيه يكون (فِي ذِرَاعِ الحِمَارِ).
          والحديثُ سبق في «باب قصَّة يأجوج ومأجوج» [خ¦3348].


[1] «أنه»: ليست في (د).
[2] في (د): «واحد من الألف».
[3] في (د): «والمقصود».
[4] قوله: «ومرة من هذه الأمة فقط فيكون من كل ألف عشرة»: جاء في (س) بعد حديث أبي هريرة المُتقدِّم.
[5] في (د): «الفرض والتمثيل».
[6] في (د): «مصحح».
[7] في (د): «حذفت».
[8] في (د): «زيادة».
[9] في (ص): «مخرج».
[10] في (ع): «أجيب».
[11] في (س): «أمس».
[12] «ثم»: ليست في (د).
[13] «أو»: ليست في (د).