نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: إني لأول العرب رمى بسهم في سبيل الله.

          6453- (حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ) هو: ابن مسرهدٍ، قال: (حَدَّثَنَا يَحْيَى) هو: ابنُ سعيد القطَّان (عَنْ إِسْمَاعِيلَ) هو: ابنُ أبي خالدٍ، أنَّه قال: (حَدَّثَنَا قَيْسٌ) هو: ابن أبي حازمٍ (قَالَ: سَمِعْتُ سَعْداً) بسكون العين، هو: ابن أبي وقَّاص ☺ (يَقُولُ: إِنِّي لأَوَّلُ الْعَرَبِ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) واللام في «لأوَّل» للتأكيد. وروى التِّرمذي من طريق بيان عن قيسٍ: سمعتُ سعداً يقول: ((إنِّي لأوَّل رجلٍ أهراق دماً في سبيل الله)). وفي رواية ابن سعدٍ في «الطبقات» من وجهٍ آخر عن سعدٍ: ((أنَّ ذلك كان في السَّرية الَّتي خرج فيها مع عبيدة بن الحارث في ستِّين راكباً وهو أوَّل السَّرايا بعد الهجرة)).
          (وَرَأَيْتُنَا) بضم الفوقية؛ أي: ورأيت أنفسنا (نَغْزُو) في سبيل الله ╡ (وَمَا لَنَا طَعَامٌ إِلاَّ وَرَقُ الْحُبْلَةِ) بضم الحاء المهملة وسكون الموحدة وبضمها أيضاً، وهو ثمرُ السلم، أو ثمر عامَّة العِضاه، وهي بكسر العين المهملة وتخفيف الضاد المعجمة: شجر الشَّوك كالطَّلح والعوسج (وَهَذَا السَّمُرُ) بفتح السين المهملة وضم الميم، شجر البادية. قال أبو عبيد وغيره: هما نوعان من شجرِ البادية.
          قال النَّووي: وهذا جيِّد على رواية البخاري لعطفه الورق على «الحُبلة»، وفي روايةٍ أخرى عند البخاري بلفظ: «إلَّا الحبلة وورق السَّمر» وكذا وقع عند أحمد وابن سعدٍ وغيرهما. وفي رواية بيان عند التِّرمذي: ((ولقد رأيتني أعني في العصابة من أصحاب رسولِ الله صلعم ما نأكلُ إلَّا الورق الشَّجر والحبلة)). وقال ابن الأعرابيِّ: الحبلة: ثمر السَّمر يشبه اللُّوبياء. ورواية البخاريِّ أحسنُها للتَّفرقة / بين الورق والسَّمر. ووقع في حديث عقبة بن غزوان عند مسلمٍ: ((لقد رأيتني سابع سبعةٍ مع رسول الله صلعم ما لنا طعام إلَّا ورق الشَّجر حتَّى قَرِحَتْ أشداقنا)).
          (وَإِنَّ أَحَدَنَا لَيَضَعُ) بالضاد المعجمة، كنايةٌ عن الَّذي يخرج منه عند التَّغوط مثل البعر (كَمَا تَضَعُ الشَّاةُ) زاد بيان في روايته: ((والبعير)) عند التِّرمذي عن قيسٍ (مَا لَهُ خِلْطٌ) بكسر المعجمة وسكون اللام بعدها طاء مهملة؛ أي: لا يختلط بعضه ببعضٍ لجفافه وشدَّة يبسه النَّاشئ عن تقشُّف العيش.
          (ثُمَّ أَصْبَحَتْ بَنُو أَسَدٍ) قبيلةٌ، وهي أسدُ بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، وبنو أسد كانوا فيمَن ارتدَّ بعد النَّبيِّ صلعم وتبعُوا طُليحة بن خويلد الأسدي لمَّا ادَّعى النُّبوة، ثمَّ قاتلهم خالدُ بن الوليد ☺ في عهد أبي بكرٍ ☺ وكسرهم، ورجع بقيَّتهم إلى الإسلام، وتاب طليحة وحسُن إسلامه، وسكن معظمهم الكوفة بعد ذلك، ثمَّ كانوا ممَّن شكا سعد بن أبي وقَّاصٍ وهو أميرُ الكوفة إلى عمر ☺ حتَّى عزله.
          وأغرب النَّووي فنقل عن بعضِ العلماء: أنَّ مراد سعد بقوله: «ثمَّ أصبحت بنو أسدٍ»، بنو الزُّبير بن العوَّام بن خويلد بن أسد بن عبد العزيز بن قصي، وفيه نظرٌ؛ لأنَّ القصَّة إن كانت هي الَّتي وقعت في عهد عمر ☺ فلم يكن للزُّبير إذ ذاك بنون يصفهُم سعدٌ بذلك، ولا يشكو منهم، فإنَّ أباهم الزُّبير كان إذ ذاك موجوداً وهو صديقُ سعدٍ، وإن كانت بعد ذلك فيحتاج إلى بيانٍ.
          (تُعَزِّرُنِي) بضم الفوقية وفتح العين المهملة وكسر الزاي المشددة بعدها راء فنون فتحتية، من التَّعزير وهو التَّوقيف (عَلَى الإِسْلاَمِ) وفي رواية بيان: ((على الدِّين)) على الأحكام والفرائض، قاله أبو عبيدةَ.
          وقال الطَّبري: معناه: تقوِّمني وتعلِّمني، ومنه: تعزير السُّلطان وهو التَّقويم بالتَّأديب، والمعنى أنَّ سعداً أنكر أهليَّة بني أسد لتعليمهِ الأحكام مع سابقتهِ / في الإسلام وقِدَمِ صحبتهُ. وقال الحربيُّ: معنى تعزرني تلومني، وقيل: توبِّخني على التَّقصير.
          وقال القرطبيُّ بعد أن حكى هذه الأقوال: والَّذي يظهرُ لي أنَّ اللَّائق بمعنى الحديث أنَّ المراد بالتَّعزير هنا: الإعظام والتَّوقير كأنَّه وصف ما كانت عليه حالتهم في أوَّل الأمر من شدَّة الحال وخشونة العيش والجهد، ثمَّ إنَّهم اتَّسعت عليهم الدُّنيا بالفتوحات والولايات فعظَّمهم النَّاس لشهرتهم وفضلهم، فكأنَّه كرهَ تعظيم النَّاس، وخصَّ بني أسد بالذِّكر؛ لأنَّهم أفرطوا في تعظيمه.
          قال: ويؤيِّده أنَّ في حديث عقبة بن غزوان_الَّذي في مسلم_ نحو حديث سعد في الإشارة إلى ما كانوا عليه من ضيق العيش، ثمَّ قال في آخره: ((فالتقطت بردة فشققتُها بيني وبين سعد بن مالكٍ؛ أي: ابن أبي وقَّاصٍ فاتَّزرت بنصفها فما أصبح منَّا أحد إلَّا أميراً على مصر من الأمصار))، انتهى.
          وكان عقبة يومئذٍ أميرَ البصرة وسعدٌ أميرَ الكوفة.
          قال الحافظ العسقلانيُّ: وهذا كلُّه مردودٌ لما ذكر من أنَّ بني أسد شكوه وقالوا فيه ما قالوا، ولذلك خصَّهم بالذِّكر، وقد وقع في رواية خالد بن عبد الله الطَّحَّان عن إسماعيل بن أبي خالدٍ في آخر الحديث في «مناقب سعدٍ» بعد قوله: «وضلَّ عملي»: وكانوا وشوا به إلى عمر ☺ قالوا: لا يحسن يصلِّي [خ¦3728]. ووقع في بعض طرق الحديث الَّذي فيه أنَّهم شكوه عند مسلم فقال سعد: أتعلِّمني الأعرابُ الصَّلاةَ، فهذا هو المعتمد، وأمَّا قصَّة عقبة بن غزوان فإنَّما قال في آخر حديثه ما قال؛ لأنَّه خطب بذلك وهو يومئذٍ أمير، فأراد إعلام القوم بأوَّل أمره وآخره إظهاراً منه للتَّواضع والتَّحديث بنعمة الله والتَّحذير من الاغترار بالدُّنيا، وأمَّا سعد فقد قال ذلك بعد أن عُزِلَ وجاء إلى عمر ☺ فاعتذرَ وأنكر على مَن سعى فيه بما سعى.
          (خِبْتُ) من الخيبة، وهي الحرمانُ والخسران (إِذاً) بالتنوين (وَضَلَّ) أي: ضاع / (سَعْيِي) وفي رواية خالدٍ: ((وضلَّ عملي)) [خ¦3728] وكذا هو في معظم الرِّوايات، وفي رواية بيان: ((لقد خبت إذاً وضلَّ عملي))؛ أي: ضلَّ سعيي فيما مضى وفيما صلَّيت مع رسول الله صلعم إن كنت محتاجاً إلى تعليمهم وتأديبهم، وحاشاهُ من ذلك.
          قال ابن الجوزيِّ: كيف ساغ لسعدٍ أن يمدحَ نفسه، ومن شأن المؤمن ترك ذلك لورود النَّهي عنه؟
          والجواب: أنَّ ذلك ساغ له لمَّا عيَّره الجهَّال بأنَّه لا يحسنُ الصَّلاة، فاضطر إلى ذكر فضلهِ، والمِدْحَةُ إذا خلتْ عن البغي والاستطالة، وكانَ مقصود قائلها إظهار الحقِّ وشكر نعمة الله لم يكره، كما لو كان قال القائل: إنِّي لحافظ لكتاب الله تعالى عالمٌ بتفسيره وبالفقه في الدِّين، قاصداً إظهار الشُّكر أو تعريف ما عنده ليستفاد ولو لم يقل ذلك لم يُعلم، ولهذا قال يوسف ◙: {إنِّي حفيظٌ عليمٌ} [يوسف:55]، وقال صلعم : ((سلُوني عن كتاب الله)). وقال ابن مسعودٍ: لو أعلم أحداً أعلم منِّي بكتاب الله لأتيته. وساق في ذلك أخباراً وآثاراً عن الصَّحابة والتَّابعين تؤيِّد ذلك.
          ومطابقة الحديث للتَّرجمة ظاهرةٌ؛ لأنَّ فيه بيان عيش سعد وغيره على الوجه المذكور، وقد مضى الحديث في «فضل سعدٍ» [خ¦3728] وفي «الأطعمة» [خ¦5412]، وأخرجه مسلم في آخر الكتاب.