نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي

          6452- (حَدَّثَنِي) بالإفراد، وفي رواية أبي ذرٍّ: <حدَّثنا> (أَبُو نُعَيْمٍ) الفضل بن دُكين (بِنَحْوٍ) بالتنوين (مِنْ نِصْفِ هَذَا الْحَدِيثِ) أشار به إلى حديث الباب، قال الكِرمانيُّ: هذا مشكلٌ؛ لأنَّ نصف الحديث يبقى بدون الإسناد، ثمَّ إن النِّصف مبهمٌ أهو النِّصف الأوَّل أم الآخر، ثم أجاب بأنَّه اعتمد على ما ذكر في «كتاب الأطعمة» [خ¦5374] [خ¦5375] من طريق يوسف بن عيسى المروزي، وهو قريبٌ من نصف الحديث، فلعلَّ البخاري أراد بالنِّصف المذكور لأبي نُعيمٍ ما لم يذكره ثمَّة، فيصير الكيل مسنداً بعضه بطريق يوسف، والبعضُ الآخر بطريق أبي نُعيمٍ.
          وقال صاحب «التلويح»: ذكر البخاريُّ هذا الحديث في «الاستئذان» في باب «إذا ادَّعى الرَّجل فجاء هل يستأذن» [خ¦6246] مختصراً، فقال: حدَّثنا أبو نُعيم: حدَّثنا عمر بن ذرٍّ، وحدَّثنا محمد بن مقاتل: أخبرنا عبد الله _هو: ابن المبارك_: أخبرنا عمر بن ذرٍّ: أخبرنا مجاهد، عن أبي هريرة ☺ قال: دخلتُ مع رسول الله صلعم فوجد لبناً في قدحٍ، فقال: أبا هريرة الحق أهل الصُّفة فادعهم إليَّ، قال: فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا فاستأذنوا فأذنَ لهم فدخلوا.
          قال صاحب «التلويح»: هذا هو القدر الَّذي سمعه البخاري من أبي نُعيمٍ، واعترض عليه الكرماني بقوله: ليس ما ذكره ثمَّة نصفه ولا ثلثه ولا ربعه. /
          وقال الحافظ العسقلانيُّ: وفيه نظرٌ من وجهين آخرين: أحدهما: أن يكون هذا السِّياق لابن المبارك، فإنَّه لا يتعيَّن كونه لفظ أبي نُعيمٍ.
          ثانيهما: أنَّه منتزع من أثناء الحديث، فإنَّه ليس فيه القصَّة الأولى المتعلِّقة بأبي هريرة ولا ما في آخره من حصول البركة في اللِّبن إلى آخره، وتعقَّبه العينيُّ: بأنَّه إذا لم يتعيَّن كون السِّياق لأبي نُعيم كذلك لا يتعيَّن كونه لابنِ المبارك، وكونه منتزعاً من أثناء الحديث لا يضرُّ على ما لا يخفى.
          وقال الحافظ العسقلانيُّ: المحرَّر المعتبر قول شيخنا؛ يعني: الحافظ زين الدِّين العراقي في «النكت على ابن الصلاح» ما نصُّه: القدر المذكور في «الاستئذان» بعض الحديث المذكور في «الرِّقاق» قال: فهو ما حدَّثه به أبو نُعيم سواء كان بلفظه أم بمعناه، وأمَّا باقيه الَّذي لم يسمعه منه فقال الكرمانيُّ: إنَّه يصير بغير إسنادٍ فيعود المحذور، كذا قال وكأنَّ مراده أنَّه لا يكون متَّصلاً لعدم تصريحه بأنَّ أبا نُعيم حدَّثه.
          قال الزَّين: ويكون البخاري حدَّثه عن أبي نُعيمٍ بطريق الوجادة أو الإجازة أو حمله عن شيخٍ آخرَ عن أبي نُعيمٍ، انتهى.
          وقال الحافظ العسقلانيُّ: أو سمع بقيَّة الحديث من شيخ سمعه من أبي نُعيمٍ.
          (حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ) بفتح الذال المعجمة وتشديد الراء ابن زرارة الهَمْداني _بسكون الميم_ الكوفي، قال: (حَدَّثَنَا مُجَاهِدٌ) هو: ابن جَبْرٍ _بفتح الجيم وسكون الموحدة_ أبو الحجَّاج المخزومي مولاهم المكي، الإمام في التَّفسير والعلم (أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ) ☺ (كَانَ يَقُولُ) وفي رواية روحٍ ويونس بن بُكير وغيرهما: ((حدَّثنا مجاهد عن أبي هريرة)) (آللَّهِ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ) كذا للأكثر بحذف حرف الجرِّ من القَسم. قال الحافظ العسقلانيُّ: وهو في روايتنا بالخفض، وقال القسطلانيُّ: وفي رواية أبي ذرٍّ ممَّا في هامش الفرع كأصلهِ بمنزلة واو القسم، انتهى.
          وحكى بعضُهم جواز النَّصب، وقال ابن التِّين السَّفاقسي: رويناه بالنَّصب. وقال ابن جنِّي: إذا حذف حرف القسم نصب الاسم بعده بتقدير الفعل، ومن العرب من يجرُّ اسم الله وحدَه مع حذف الجرِّ، فيقول: آللهِ لأقومنَّ / وذلك لكثرة ما يستعملونه، وفي بعض الأصول: «آللهُ» بإسقاط الأداة والرَّفع، وفي رواية رَوْح بن عبادةَ عن عمر بن ذرٍّ عند أحمد: ((والله)).
          (إِنْ كُنْتُ) كلمة «إن» هذه مخففة من الثَّقيلة (لأَعْتَمِدُ بِكَبِدِي عَلَى الأَرْضِ) أي: لألصق بطني بالأرض (مِنَ الْجُوعِ) وكأنَّه كان يستفيدُ بذلك ما يستفيدُه من شدِّ الحجر على بطنه، أو هو كنايةٌ عن سقوطه إلى الأرض مغشيًّا عليه كما وقع في رواية أبي حازمٍ في أوَّل «الأطعمة» [خ¦5375]: ((فلقيت عمر بن الخطَّاب فاستقرأته آيةً فذكره، قال: فمشيت غير بعيدٍ فخررت على وجهي من الجهد والجوع، فإذا رسول الله صلعم على رأسِي...)) الحديث.
          وفي حديث محمد بن سيرين عن أبي هريرةَ ☺ الآتي في «كتاب الاعتصام» [خ¦7324]: ((لقد رأيتني وإنِّي لأخِرُّ ما بين المنبر والحُجرة من الجوع مغشيًّا عليَّ فيجيءُ الجائي فيضع رجله على عنقي، يرى أنَّ بي الجنون وما بي إلَّا الجوع)).
          ومضى أيضاً في «مناقب جعفر» من طريق سعيد المقبُريِّ، عن أبي هريرة ☺ [خ¦3708]: ((وإنِّي كنت ألزم رسولَ الله صلعم لشِبع بطني))، وفيه: ((وكنت ألصقُ بطني بالحصى من الجوع، وإن كنت لأستقرئ الرَّجل الآية وهي معي كي ينقلب بي فيُطعمني))، وزاد فيه التَّرمذي: ((وكنت إذا سألتُ جعفر بن أبي طالبٍ لم يُجبني حتَّى يذهبَ بي إلى منزله)).
          (وَإِنْ كُنْتُ لأَشُدُّ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِي مِنَ الْجُوعِ) اللام في «لأشدُّ» للتَّأكيد، وعن عبد الله بن شقيقٍ: ((أقمت مع أبي هريرة ☺ سنةً فقال: لقد رأيتنا وإنَّه ليأتي على أحدنا الأيَّام ما يجدُ طعاماً يقيمُ به صلبه، حتَّى إذا كان أحدُنا ليأخذ الحجر فيشدُّ به على أخمصِ بطنه، ثمَّ يشدُّه بثوبه ليقيم به صلبه)).
          وفائدة شدِّ الحجر على البطنِ المساعدة على الاعتدالِ والانتصاب على القيام، أو المنع من كثرة التَّحلُّل من الغذاء الَّذي في البطنِ لكون الحجر بقدر البطن ربَّما سدَّ طرف الأمعاء، فيكون الضَّعف أقل، أو لتقليل حرارة الجوع ببرودةِ الحجر، أو لأنَّ فيه إشارة / إلى كسر النَّفس وإلقامها الحجر، ولا يملأ جوف ابن آدم إلَّا التُّراب.
          وقال الخطابيُّ: أشكل الأمر في شدِّ الحجر على البطنِ من الجوع على قومٍ حتَّى توهَّموا أنَّه تصحيفٌ، وزعموا أنَّه الحُجَز _بضم أوله وفتح الجيم بعدها زاي_ جمع الحُجزة الَّتي يشدُّ بها الوسط، قال: ومن أقام بالحجاز وعرف عادة أهله عرف أنَّ الحجر واحدُ الحجارة، وذلك أنَّ المجاعة تعتريهم كثيراً، فإن أخوى البطن لم يكن معه الانتصاب، فيعمد حينئذٍ إلى صفائح رقاقٍ في طول الكفِّ أو أكبر فيربطها على بطنهِ، ويشدُّ بعصابةٍ فوقها فتعدلُ قامته بعض الاعتدال، والاعتماد بالكبدِ على الأرض ممَّا يقارب ذلك. قال الحافظ العسقلانيُّ: وممَّن أنكرَ ربط الحجر ابن حبَّان في «صحيحه».
          (وَلَقَدْ قَعَدْتُ يَوْماً عَلَى طَرِيقِهِمُ) أي: طريق النَّبي صلعم وأصحابه ممَّن كان طريق منازلهم إلى المسجد متَّحدةٌ (الَّذِي يَخْرُجُونَ مِنْهُ) من منازلهم إلى المسجد (فَمَرَّ أَبُو بَكْرٍ) ☺ (فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ) ╡ (مَا سَأَلْتُهُ) عنها (إِلاَّ لِيُشْبِعَنِي) بالمعجمة والموحدة من الإشباع من الجوعِ، وفي رواية أبي ذرٍّ عن الكُشميهني: <إلَّا ليسْتَتْبِعَنِي> بسين مهملة ساكنة ففوقية مفتوحة فأخرى ساكنة فموحدة مكسورة فعين مهملة مفتوحة فنون مكسورة، من الاستتباع؛ أي: يطلب منِّي أن أتبَعه.
          (فَمَرَّ) بي (وَلَمْ يَفْعَلْ) أي: الإشباع أو الاستتباع (ثُمَّ مَرَّ) بي (عُمَرُ) ☺ (فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ) ╡ كأنَّه استمرَّ هنا بعد ذهاب أبي بكرٍ ☺ حتَّى مرَّ به عمر ☺ (مَا سَأَلْتُهُ) عنها (إِلاَّ لِيُشْبِعَنِي) من الإشباع، أو ليستتبعني من الاستتباع، كما مرَّ عن الكُشميهني (فَمَرَّ فَلَمْ) بالفاء، وفي رواية أبي ذرٍّ: <ولم> (يَفْعَلْ) وزاد في رواية أبي حازمٍ: ((فدخل داره وفتحها عليَّ)) [خ¦5375] أي: قرأ الَّذي استفهمته عنه، ولعلَّ العذر لكلٍّ من أبي بكرٍ وعمر ☻ ، حمل سؤال أبي هريرة ☺ على ظاهرهِ، / أو فَهِما ما أراد ولم يكن عندهما إذ ذاكَ ما يُطعمانه. لكن وقع في رواية أبي حازم من الزِّيادة: أنَّ عمر ☺ تأسَّف على عدمِ إدخاله أبا هريرة داره، ولفظه: ((فلقيتُ عمر فذكرت له، وقلت له: تولَّى الله ذلك من كان أحقَّ به منك يا عمر))، وفيه: ((قال عمر: والله لأن أكون أدخلتك أحبُّ إليَّ من أن يكون لي حمر النَّعم)) [خ¦5375] فإنَّ فيه إشعاراً بأنَّه كان عنده ما يطعمه؛ إذ ذاك فيرجَّح الاحتمال الأوَّل، ولم يعرِّج على ما رمزه أبو هريرة من كنايته إذ ذاك عن طلب ما يأكل.
          وقد استنكرَ بعضُ المشايخ ثبوت هذا عن أبي هريرة ☺؛ لاستبعادهِ مواجهةَ أبي هريرة لعمر ☺ بذلك وهو استبعادٌ مستبعدٌ.
          (ثُمَّ مَرَّ بِي أَبُو الْقَاسِمِ صلعم ، فَتَبَسَّمَ حِينَ رَآنِي، وَعَرَفَ مَا فِي نَفْسِي) من الجوع والاحتياج إلى ما يسدُّ الرَّمق (وَمَا فِي وَجْهِي) من التَّغير كأنَّه عرف من تغير وجهه ما في نفسه من احتياجه إلى ما يسدُّ رمقه، ووقع في رواية علي بن مسهرٍ وروح: ((ما في وجهي أو نفسي)) بالشَّكِّ، واستدلَّ أبو هريرة ☺ بتبسُّمه صلعم على أنَّه عرف ما به؛ لأنَّ التَّبسم تارةً يكون للتَّعجب، وتارةً يكون لإيناس من تبسَّم إليه، وحال أبي هريرة ☺ لم تكن معجبةً فيرجَّح الحمل على الإيناس.
          (ثُمَّ قَالَ) صلعم لي: (يَا أَبَا هِرٍّ) كذا في رواية أبي ذرٍّ، وفي رواية غيره: <أبا هرٍّ> بإسقاط حرف النداء، ووقع في رواية علي بن مسهرٍ: ((فقال: أبا هرٍّ))، فأمَّا النَّصب فواضحٌ، وأمَّا الرفع فهو على لغة من لا يعرب لفظ الكنية أو هو للاستفهام؛ أي: أنت أبو هريرةَ؟
          وأمَّا قوله: «هرٍّ» فهو بتشديد الراء، وهو إمَّا ردُّ الاسم المؤنَّث إلى المذكَّر، والمصغَّر إلى المكبَّر فإنَّ كنيته في الأصل: «أبو هريرة» تصغير: هرَّة مؤنثاً، وأبو هرٍّ مذكر مكبر، وذكر بعضُهم أنَّه يجوز فيه تخفيف الراء مطلقاً فعلى هذا فيسكَّن. ووقع في رواية يونس بن بُكيرٍ: ((فقال أبو هريرة)) وتوجيههاً ما ذُكر قبل.
          (قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ) كذا بحذف حرف النِّداء، ووقع في رواية عليِّ بن مسهرٍ: ((فقلت: لبَّيك يا رسول الله وسعديك)) (قَالَ: الْحَقْ) بهمزة وصل وفتح / المهملة؛ أي: اتَّبع (وَمَضَى) صلعم (فَاتَّبَعْتُهُ) كذا في رواية أبي ذرٍّ، وفي رواية غيره: <فتبعته>، زاد في رواية عليِّ بن مسهر: ((فلحقتهُ)) (فَدَخَلَ) داره، زاد علي بن مسهر عند الإسماعيليِّ وابن حبَّان في «صحيحه»: ((إلى أهله)) (فَاسْتَأْذَنَ) بهمزة وصل وفتح النون، بلفظ الماضي في الفرعِ وغيره.
          وقال الحافظ العسقلانيُّ: «فأستأذِنُ» بهمزة بعد الفاء والنون مضمومة فعل المتكلِّم، وعبَّر عنه بذلك مبالغةً في التَّحقيق. وقال العينيُّ: على صيغة المتكلم من المضارع، ووقع في رواية علي بن مسهرٍ ويونس وغيرهما: ((فاستأذنتُ)).
          (فَأَذِنَ لِي، فَدَخَلَ) كذا الرِّواية بتكرار «دخل»، وقال الكِرمانيُّ: الثَّاني تكرارٌ للأول، أو «دخل» الأوَّل بمعنى: أراد الدُّخول، والاستئذان يكون لنفسه صلعم .
          وقال الحافظ العسقلانيُّ: وهو إمَّا تكرار لهذه اللَّفظة لوجود الفَصْل أو التفات، ووقع في رواية علي بن مسهرٍ: ((فدخلتُ)) وهي واضحةٌ.
          (فَوَجَدَ) صلعم في منزله (لَبَناً فِي قَدَحٍ) وفي رواية علي بن مسهرٍ: ((فإذا هو بلبن في قدحٍ))، وفي رواية يونس: ((فوجد قدحاً من اللَّبن)) (فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ هَذَا اللَّبَنُ؟) زاد روح: ((لكم))، وفي رواية ابن مسهرٍ: ((فقال لأهله: من أين لكم هذا)) (قَالُوا: أَهْدَاهُ لَكَ فُلاَنٌ أَوْ فُلاَنَةُ) كذا بالشَّكِّ من الرَّاوي، وفي رواية روحٍ: ((أهداه لنا فلانٌ أو آل فلانٍ))، وفي رواية يونس: ((قيل: أهداه لنا فلانٌ))، وفي رواية أبي ذرٍّ عن الكُشميهني: <أهدته فلانةٌ> بالتأنيث. قال الحافظ العسقلانيُّ: لم أقف على اسم مَن أهداه.
          (قَالَ) أي: ثمَّ قال صلعم : (أَبَا هِرٍّ) بإسقاط أداة النِّداء (قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ) وفي رواية أبي ذرٍّ: <رسولَ الله> بإسقاط: «يا» (قَالَ: اِلْحَقْ) بكسر الهمزة وفتح الحاء المهملة، أمرٌ من اللُّحوق (إِلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ) عَدَّى ((اِلحَقْ)) بكلمة ((إلى)) كأنَّه ضمَّنها معنى: انطلقْ، ووقع في رواية روح بلفظ: ((انطلق)) (فَادْعُهُمْ لِي، قَالَ) سقط لفظ: ((قال)) في رواية روحٍ، ولا بدَّ منه لأنَّه كلام أبي هريرة قال شارحاً لحال أهل الصُّفة: وللسَّبب في استدعائهم وأنَّه صلعم كان يخصُّهم بما يأتيه / من الصَّدقة ويشركهم فيما يأتيه من الهديَّة.
          (وَأَهْلُ الصُّفَّةِ أَضْيَافُ الإِسْلاَمِ، لاَ يَأْوُونَ على أَهْلٍ)، في رواية روح والأكثر: ((إلى أهلٍ)) (وَلاَ مَالٍ، وَلاَ عَلَى أَحَدٍ) تعميمٌ بعد تخصيصٍ، فيشملُ الأقارب والأصدقاء وغيرهم، وقد وقع في رواية يونس بن بُكيرٍ عن أبي هريرة ☺ بلفظ: ((قال: وكان أهل الصُّفة أضياف الإسلام لا يأوون على أهلٍ ولا مالٍ والله الَّذي لا إله إلَّا هو...إلى آخره)). وقد وقع في حديث طلحة بن عَمرو عند أحمد وابن حبَّان والحاكم: ((كان الرَّجل إذا قدمَ على النَّبيِّ صلعم وكان له بالمدينة عريفٌ يدلُّ عليه، فإذا لم يكن له عريفٌ تُرِك مع أصحاب الصُّفة)). وفي مرسل يزيد بن عبد الله بن قسطٍ عند ابن سعدٍ: ((كان أهل الصُّفة ناساً فقراءَ لا منازل لهم، فكانوا ينامون في المسجد لا مأوى لهم غيره)). وله من طريق نُعيم المُجْمر عن أبي هريرة ☺: ((كنت من أهل الصُّفة، وكنَّا إذا أمسينَا حضرنا رسول الله صلعم فيأمر كلَّ رجلٍ منَّا فينصرف برجلٍ أو أكثر، فيبقى من بقيَ عشرة أو أقلَّ أو أكثر، فيُؤتى النَّبيُّ صلعم بعشائهِ، فنتعشى معه، فإذا فرغنا ناموا في المسجد)).
          وتقدَّم في «علامات النُّبوة» حديث عبد الرَّحمن بن أبي بكرٍ ☻ ، وأنَّ أصحاب الصُّفة كانوا ناساً فقراء، وأنَّ النَّبيَّ صلعم قال: ((مَن كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالثٍ...)) الحديث [خ¦3581]. ولأبي نُعيمٍ في «الحلية» من مرسل محمد بن سيرين: ((كان رسول الله صلعم إذا صلَّى قسم ناساً من أهل الصُّفة بين ناسٍ من أصحابه، فيذهب الرَّجل مع الرَّجل من الأنصار والرَّجلين والثَّلاثة حتَّى بقيتُ في أربعةٍ ورسول الله صلعم خامسنا، فقال: انطلقوا بنا، فقال: يا عائشة عشينا...)). الحديث.
          (إِذَا أَتَتْهُ) صلعم (صَدَقَةٌ بَعَثَ بِهَا إِلَيْهِمْ) يخصُّهم بها / (وَلَمْ يَتَنَاوَلْ مِنْهَا شَيْئاً) أي: لنفسه، وفي رواية روحٍ: ((ولم يُصِبْ منها شيئاً))، وزاد: ((ولم يشركهم فيها)) (وَإِذَا أَتَتْهُ هَدِيَّةٌ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ) ليحضروا عنده (وَأَصَابَ مِنْهَا وَأَشْرَكَهُمْ فِيهَا) وفي رواية عليِّ بن مسهرٍ: ((وشرَّكهم)) بالتشديد، وقال: ((فيها أو منها)) بالشَّكِّ. ووقع عند يونس: ((الصَّدقة والهديَّة)) بالتعريف فيهما، وقد تقدَّم في «الزَّكاة» [خ¦2585] وغيرها أنَّه صلعم كان يقبل الهديَّة ولا يقبل الصَّدقة.
          وقد تقدَّم من حديث أبي هريرة ☺ مختصراً من رواية محمد بن زيَّاد عنه [خ¦2576]: ((كان النَّبيُّ صلعم إذا أُتِيَ بطعامٍ سأل عنه، فإن قيل صدقةً قال لأصحابه: كلوا ولم يأكل، وإن قيل هديَّة ضربَ بيده فأكل معهم))، ولأحمد وابن حبَّان من هذا الوجه: ((إذا أُتِيَ بطعامٍ من غير أهله)). ويجمع بين هذا وبين ما وقع في حديث الباب بأنَّ ذلك كان قبل أن تُبنى الصُّفَّة، وكان يقسم الصَّدقة فيمن يستحقُّها ويأكل من الهديَّة مع من حضر من أصحابه.
          وقد أخرج أبو نُعيم في «الحلية» من مرسل الحسنِ، قال: «بُنِيت صُفَّة في المسجدِ لضعفاء المسلمين»، ويحتمل أن يكون ذلك باختلاف حالين فيُحمل حديث الباب على ما إذا لم يحضره أحدٌ فإنَّه يرسل ببعض الهديَّة إلى أهل الصُّفة أو يدعوهم إليه، كما في قصة الباب وإن حضره أحدٌ شركه في الهديَّة، وإن كان هناك فضل أرسل به إلى أهل الصُّفة أو دعاهم. ووقع في حديث طَلحة بن عَمرو الَّذي ذكر آنفاً: ((وكنت فيمن نزل الصُّفة فوافقت رجلاً، وكان يجري علينا من رسول الله صلعم كلَّ يومٍ مد من تمرٍ بين كلِّ رجلين)). وفي رواية أحمد: ((نزلت في الصُّفة مع رجلٍ وكان بيني وبينه كل يوم مد من تمرٍ))، وهو محمولٌ أيضاً على اختلاف الأحوال، وكان أوَّلاً أرسل إلى أهل الصُّفة بما حضره أو يدعوهم، / أو يفرِّقهم على من حضر إن لم يحضره ما يكفيهم، فلمَّا فتحت فدك وغيرها صار يجري عليهم من التَّمر في كلِّ يومٍ ما ذكر.
          وقد اعتنى بجمع أسماء أهل الصُّفة أبو سعيد بن الأعرابيِّ، وتبعه أبو عبد الرَّحمن السُّلمي فزاد اسماً، وجمع بينهما أبو نُعيم في «الحلية» فسردَ جميع ذلك. ووقع في حديث أبي هريرة الماضي في «علامات النُّبوَّة»: أنَّهم كانوا سبعين [خ¦442]، وليس المراد حصرهم في هذا العدد، وإنَّما هي عدَّة من كان موجوداً حين القصَّة المذكورة، وإلَّا فمجموعهم أضعاف ذلك، كما بيَّن الحافظ العسقلانيُّ من اختلاف أحوالهم، فربَّما اجتمعوا فكثروا، وربَّما تفرَّقوا إمَّا لغزوٍ أو سفرٍ أو استغناء فقلُّوا.
          (فَسَاءَنِي ذَلِكَ) أي: أهمَّني ذلك؛ أي: قوله: «ادعهم لي»، وقد بيَّن ذلك بقوله: (فَقُلْتُ) أي: في نفسي (وَمَا هَذَا اللَّبَنُ) أي: وما قدر هذا اللَّبن (فِي أَهْلِ الصُّفَّةِ؟) والواو عاطفةٌ على محذوفٍ تقديره هذا قليلٌ أو نحوه، ووقع في رواية يونس بحذف الواو. وفي رواية عليِّ بن مسهر: ((فساءني ذلك والله؟)) بزيادة القَسم، وفي روايته أيضاً: ((وأين يقع هذا اللَّبن من أهل الصُّفة وأنا ورسول الله)) وهو بالجرِّ عطفاً على أهل الصُّفة، ويجوز الرَّفع والتَّقدير: وأنا ورسول الله معهم.
          (وَكُنْتُ أَحَقُّ) وفي نسخة: <أرجو> (أَنَا أَنْ أُصِيبَ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ شَرْبَةً أَتَقَوَّى بِهَا) زاد في رواية روحٍ: ((يومي وليلتي)). (فَإِذَا جَاءَ) كذا فيه بالإفراد؛ أي: فإذا جاء مَن أمرني بطلبه، وفي رواية أبي ذرٍّ عن الكُشميهني: <فإذا جاؤوا> بصيغة الجمع (أَمَرَنِي) أي: النَّبيُّ صلعم (فَكُنْتُ أَنَا أُعْطِيهِمْ) قوله: «فكنت»، عطفٌ على جزاء «فإذا»، وهو بمعنى الاستقبال داخلاً تحت القول، وكان أبا هريرة ☺ عرف بالعادة ذلك؛ لأنَّه كان يلازم النَّبي صلعم ويخدمه.
          وقد تقدَّم في «مناقب جعفر» [خ¦3708] من حديث طلحةَ بن عبيد الله، كان أبو هريرةَ مسكيناً لا أهل له ولا مال، وكان يدورُ مع النَّبيِّ صلعم حيث ما دار أخرجه البخاريُّ في «تاريخه». وتقدَّم في «البيوع» وغيره من وجهٍ آخر / عن أبي هريرة ☺ [خ¦2047]: ((وكنتُ امرأً مسكيناً ألزم رسول الله صلعم لشبع بطنِي)). ووقع في رواية يونس ابن بُكيرٍ: ((فسيأمرني أن أديرهُ عليهم فما عسى أن يُصيبني منه، وقد كنت أرجو أن أُصيب منه ما يغنيني عن الجوع ذلكَ اليوم (1))).
          (وَمَا عَسَى أَنْ يَبْلُغَنِي مِنْ هَذَا اللَّبَنِ؟) أي: يصل إليَّ بعد أن يكتفوا منه. وقال الكرمانيُّ: «عسى» الظَّاهر أنَّه مقحمٌ؛ أي: قائلاً في نفسي ذلك (وَلَمْ يَكُنْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ بُدٌّ) يشير إلى قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80] (فَأَتَيْتُهُمْ فَدَعَوْتُهُمْ) قال الكرمانيُّ: ظاهره أنَّ الإتيان والدَّعوة وقع بعد الإعطاء وليس كذلك، ثمَّ أجاب بأنَّ معنى قوله: ((فكنت أنا أعطيهم)) هو الاستقبال، كما هو ظاهر من السِّياق وقد أشير إليه آنفاً.
          (فَأَقْبَلُوا، فَاسْتَأْذَنُوا) في الدُّخول (فَأَذِنَ) صلعم (لَهُمْ، وَأَخَذُوا مَجَالِسَهُمْ مِنَ الْبَيْتِ) أي: وجلس كلُّ واحدٍ منهم في المجلس الَّذي يليق به.
          قال الحافظ العسقلانيُّ: ولم أقف على عددهم إذ ذاك، وقد تقدَّم في «أبواب المساجد» في أوائل «كتاب الصَّلاة» من طريق أبي حازمٍ عن أبي هريرة ☺: ((رأيت سبعين من أصحاب الصُّفة)) [خ¦442]. الحديث، ووقع في «عوارف السَّهروردي»: ((أنَّهم كانوا أربعمائةٍ)).
          (قَالَ) صلعم : (يَا أَبَا هِرٍّ) بكسر الهاء وتشديد الراء، وفي رواية عليِّ بن مسهرٍ: ((فقال أبو هريرة)) وقد تقدَّم توجيه ذلك (قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ خُذْ) أي: هذا القدح الَّذي فيه اللَّبن وصرَّح هكذا في رواية يونس (فَأَعْطِهِمْ) بهمزة قطعٍ، قال أبو هريرة: (فَأَخَذْتُ الْقَدَحَ، فَجَعَلْتُ أُعْطِيهِ) بضم الهمزة (الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى) بفتح الواو (ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ الْقَدَحَ، فَأُعْطِيهِ الرَّجُلَ) وفي رواية أبي ذرٍّ عن الكُشميهنيِّ: <ثمَّ أعطيه الرَّجل> أي: الَّذي يليه.
          قال الكَرمانيُّ: هذا فيه أنَّ المعرفة إذا أعيدت معرفةً يكون عين الأوَّل، والتَّحقيق أنَّ ذلك لا يطرد، بل الأصل أن يكون عينه، إلَّا أن يكون هناك قرينةً تدلُّ على أنَّه غيره مثل ما وقع هنا من قوله: ((حتَّى انتهيتُ إلى النَّبيِّ صلعم )). /
          (فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ الْقَدَحَ، حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلعم ) فدلَّ ذلك على أنَّه أعطاهم واحداً بعد واحدٍ إلى أن كان آخرهم النَّبي صلعم ، ووقع في رواية يونس: ((ثمَّ يردُّه فأُناوله الآخر))، وفي رواية علي بن مسهرٍ: ((قال: خُذ فناولهم قال: فجعلت أُناول الإناء رجلاً، فيشرب فإذا رَوِيَ أخذته فناولته الآخر حتَّى رَوِيَ القوم جميعاً))، وعلى هذا فاللَّفظ المذكور من تصرُّف الرُّواة فلا حجَّة فيه لخرم القاعدة، فافهم.
          (وَقَدْ رَوِيَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ) أي: فأعطيته القدح (فَأَخَذَ الْقَدَحَ) زاد روح: ((وقد بقيَت فيه فضلةٌ)) (فَوَضَعَهُ عَلَى يَدِهِ) الكريمة (فَنَظَرَ إِلَيَّ) بتشديد الياء (فَتَبَسَّمَ) وفي رواية عليِّ بن مسهرٍ: ((فرفع رأسه فتبسَّم)) كأنَّه صلعم كان تفرَّس في أبي هريرة ما كان وقع في توهُّمه أن لا يفضل له من اللَّبن شيءٌ كما تقدَّم تقريره فلذلك تبسَّم إليه، وأشار إلى أنَّه لم يفته شيءٌ ممَّا كان يظنُّ من فواته من اللَّبن.
          (فَقَالَ: أَبَا هِرٍّ) كذا فيه بحذف حرف النِّداء، وفي رواية أبي ذرٍّ عن الحمويي: <يا أبا هريرة> بإثبات أداة النِّداء، وفي رواية علي بن مسهرٍ: ((فقال: أبو هريرة)) أي: فقال النَّبيُّ صلعم : أبو هريرة، وقد تقدَّم وجهه (قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: بَقِيتُ أَنَا وَأَنْتَ) كان ذلك بالنِّسبة إلى من حضر من أهل الصُّفة، فأمَّا من كان في البيت من أهل النَّبي صلعم فلم يتعرَّض لذكرهم، ويحتمل أن لا يكون إذ ذاك في البيت أحدٌ منهم أو كانوا أخذوا كفايتهم، وكان اللَّبن الَّذي في القدح نصيب النَّبيِّ صلعم .
          (قلْتُ: صَدَقْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: اقْعُدْ فَاشْرَبْ، فَقَعَدْتُ فَشَرِبْتُ، فَقَالَ: اشْرَبْ فَشَرِبْتُ، فَمَا زَالَ يَقُولُ) وفي رواية روحٍ: ((فما زال يقول لي)) (اشْرَبْ، حَتَّى قُلْتُ: لاَ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، مَا أَجِدُ لَهُ مَسْلَكاً، قَالَ: فَأَرِنِي) وفي رواية روحٍ: ((فقال: ناولني القَدح)) / (فَأَعْطَيْتُهُ الْقَدَحَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَسَمَّى) أي: حمِد الله على ما مَنَّ به من البركة الَّتي وقعت في اللَّبن المذكور مع قدره حتَّى روي القوم كلُّهم وأفضلوا، وسمَّى الله في ابتداءً الشرب.
          (وَشَرِبَ الْفَضْلَةَ) أي: البقيَّة، وهي رواية علي بن مسهرٍ، وفي رواية روح: ((فشرب من الفضلة)) وفيها إشعارٌ بأنَّه بقي بعد شربه شيءٌ، فإن كانت محفوظة فلعلَّه أعدَّها لمن بقيَ بالبيت من أهله صلعم إن كان.
          وفي الحديث من الفوائد: استحباب الشُّرب عن قعودٍ، وأنَّ خادم القوم إذا دار عليهم بما يشربون يتناولُ الإناء من كلِّ واحدٍ فيدفعه هو إلى الَّذي يليه، ولا يدع الرَّجل يناول رفيقه لما في ذلك من نوعِ امتهان الضَّيف. وفيه معجزةٌ عظيمةٌ، وقد تقدَّم لها نظائر في «علامات النُّبوة» من تكثير الطَّعام والشَّراب ببركتهِ صلعم [خ¦3571] [خ¦3572] [خ¦3573] [خ¦3574] [خ¦3575] [خ¦3576] [خ¦3577] [خ¦3578] [خ¦3579] [خ¦3580] [خ¦3581].
          وفيه: جواز الشِّبع ولو بلغَ أقصى غايته أخذاً من قول أبي هريرة ☺: ما أجدُ له مسلكاً، وتقرير النَّبي صلعم له على ذلك خلافاً لمن قال بتحريمهِ، وإذا كان ذلك في اللَّبن مع رقَّته ونفوذهِ فكيف بما هو من الأغذية الكثيفة، لكن يُحتمل أن يكون ذلك خاصًّا بما وقع في تلك الحالة فلا يقاسُ عليه.
          وقد أورد التِّرمذي عقب حديث أبي هريرة ☺ هذا حديث ابن عمر ☻ رفعه: ((أكثرهم شبعاً في الدُّنيا أطولهم جوعاً يوم القيامة))، وقال: حسنٌ. وفي الباب عن أبي جُحيفة أخرجه الحاكم، وضعَّفه أحمد. وفي الباب أيضاً حديث المقداد بن معدي كرب رفعه: ((ما ملأ ابنُ آدم وعاءً شراً من بطن)) الحديث أخرجه التِّرمذي أيضاً، وقال: حسنٌ صحيحٌ.
          ويمكن الجمع بأن يحمل الزَّجر على من يتَّخذ الشَّبع عادةً لما يترتَّب على ذلك من الكسل عن العبادة وغيرها، ويحمل الجواز على مَن وقع له ذلك نادراً، ولا سيَّما بعد شدَّة جوعٍ واستبعاد حصول شيءٍ بَعْدَهُ عن قربٍ.
          وفيه: أنَّ كتمان الحاجة / والتَّلويح بها أولى من إظهارها والتَّصريح بها، وفيه: كرم النَّبي صلعم وإيثاره على نفسهِ وأهله وخادمهِ، وفيه: ما كان بعض الصَّحابة عليه في زمن النَّبيِّ صلعم من ضيق الحال، وفضل أبي هريرة ☺ وتعفُّفه عن التَّصريح بالسُّؤال واكتفاؤه بالإشارة إلى ذلك، وتقديمه طاعة النَّبيِّ صلعم على حظِّ نفسه مع شدَّة احتياجه إلى ذلك، وفضل أهل الصُّفة.
          وفيه: أنَّ المدعو إذا وصل إلى دار الدَّاعي لا يدخل بغير استئذان، وقد تقدَّم البحث فيه في «كتاب الاستئذان» مع الكلام على حديث رسول الرَّجل [خ¦6246]، وفيه. جلوس كلِّ أحدٍ في المكان اللَّائق به، وفيه: إشعارٌ بملازمة أبي بكرٍ وعمر ☻ للنَّبيِّ صلعم ، ودعاء الكبير خادمه بالكنية.
          وفيه: ترخيمُ الاسم على ما تقدَّم والعمل بالفَراسة، وجواب المنادى بلبَّيك، واستئذان الخادم على مخدومه إذا دخل على منزلهِ، وسؤال الرَّجل عمَّا يجدهُ في منزله ممَّا لا عهد له به ليترتَّب على ذلك مقتضاه، وقبول النَّبيِّ صلعم الهديَّة وتناوله منها، وإيثارهِ ببعضها الفقراء وامتناعهِ من تناول الصَّدقة ووضعهِ لها فيمن يستحقُّها، وشرب السَّاقي آخراً وشرب صاحب المنزل بعدهُ، والحمد على النِّعم، والتَّسمية عند الشُّرب.
          تتمَّة: وقع لأبي هريرة ☺ قصَّةٌ أُخرى في تكثير الطَّعام مع أهل الصُّفة، فأخرجَ ابن حبَّان من طريق سليم بن حبَّان، عن أبيه عنه قال: ((أتت عليَّ ثلاثة أيَّامٍ لم أطعم، فجئت أريد الصُّفة فجعلت أسقطُ، فجعل الصُّبيان يقولون: جُنَّ أبو هريرة حتَّى انتهيت إلى الصُّفة، فوافقت رسول الله صلعم أتى بقصعةٍ من ثريد فدعا عليها أهل الصُّفة وهم يأكلون منها، فجعلت أتطاول كي يدعوني حتَّى قاموا، وليس في القصعة إلَّا شيء في نواحيها فجمعه رسول الله صلعم فصارت لقمةً فوضعها / على أصابعه، فقال لي: كلْ بسم الله فوالَّذي نفسي بيده ما زلت آكل منها حتَّى شبعت)).
          ومطابقة الحديث للتَّرجمة ظاهرةٌ؛ لأنَّ فيه الإخبار عن عيش النَّبي صلعم وعيش أصحابهِ ♥ .
          وقد مَضى بعض الحديث في «الاستئذان» مختصراً [خ¦6246]، وأخرجه التِّرمذي في «الزُّهد»، والنَّسائي في «الرِّقائق».


[1] في هامش الأصل: في نسخة: عن جوع اليوم.