نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يومًا.

          6594- (حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ) الطَّيالسي، قال: (حَدَّثَنَا شُعْبَةُ) أي: ابن الحجَّاج، قال: (أَنْبَأَنِي) بالإفراد، من الإنباء (سُلَيْمَانُ الأَعْمَشُ) الكوفي (قَالَ: سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ وَهْبٍ) أبو سليمان الهَمْداني الكوفي الجهني، من قضاعة، خرج إلى النَّبي صلعم فقُبِضَ النَّبيُّ صلعم وهو في الطَّريق (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) هو: ابنُ مسعودٍ ☺، أنَّه (قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلعم ، وَهْوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ) أي: الصَّادق في نفسهِ، والمصدوق من جهة غيره. قال الطِّيبي: يحتمل أن تكون الجملة حاليَّة، ويحتمل أن تكون اعتراضيَّة وهو أولى؛ ليعمَّ الأحوال كلَّها، وأنَّ ذلك من دأبهِ وعادتهِ، والصَّادق معناه: المُخبِر بالقول الحقِّ، ويُطلق على الفعل يقال: صدق القتال وهو صادقٌ فيه، والمصدوقُ معناه: الَّذي يُصْدَقُ له في القول، يقال: صدقتُه الحديثَ: إذا أخبرتُهُ إخباراً جازماً، أو معناه: الَّذي صدقَهُ الله وعدَهُ.
          وقال الكرماني: لمَّا كان مضمون الخبر أمراً مخالفاً لما عليه الأطبَّاء أشار بذلك إلى بُطلان ما ادَّعوه، ويحتمل أنَّه قال ذلك تلذُّذاً به وتبرُّكاً وافتخاراً. قال الأطبَّاء: إنَّما يتصوَّر الجنين فيما بين ثلاثين يوماً إلى أربعين، والمفهوم من الحديث أنَّ خلقه إنَّما يكون بعد أربعة أشهر. انتهى.
          وقال الحافظُ العسقلاني: ويؤيِّده: وقوعُ هذا اللَّفظ بعينه في حديثٍ آخر ليس فيه إشارةٌ إلى بطلان شيءٍ يخالف ما ذكر، وهو ما أخرجه أبو داود من حديث المغيرة بن شعبة ☺ سمعتُ الصَّادق المصدوق يقول: ((لا تنزعُ الرَّحمة إلَّا من شقي)).
          ومضى في «علامات النُّبوَّة» من حديث أبي هريرة ☺: / سمعتُ الصَّادق المصدوق يقول: ((هلاك أمَّتي على يدي أُغَيلمة من قريش)) [خ¦7058].
          (قَالَ: إِنَّ أَحَدَكُمْ) قال أبو البقاء في «إعراب المسند»: لا يجوز في «إنَّ» إلا الفتح؛ لأنَّه مفعول «حدَّثنا» فلو كسر لكان منقطعاً عن قوله «حدَّثنا». وجزم النَّووي في «شرح مسلم» بأنَّه بالكسر على الحكاية، وجوَّز الفتح، وحجَّة أبي البقاء: أنَّ الكسر على خلاف الظَّاهر، ولا يجوز العدول عنه إلَّا لمانعٍ، ولو جاز من غير أن يثبتَ به النَّقل لجازَ في مثل قوله تعالى: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ} [المؤمنون:35]، وقد اتَّفق القرَّاء على أنَّها بالفتح.
          وتعقَّبه الخُوَبِّي: بأنَّ الرواية جاءت بالفتح والكسر (1) فلا معنى للرَّدِّ، قال: ولو لم تجيء به الرِّواية لما امتنع جوازاً على طريق الرِّواية بالمعنى.
          وأجاب عن الآية: بأنَّ الوعد مضمون الجملة، وليس بخصوص لفظها فلذلك اتَّفقوا على الفتح، وأمَّا هنا فالتَّحديث يجوز أن يكون بلفظه ومعناه، كذا قال الحافظ العسقلاني، وهذا بناءٌ على حذف «قال»، وعلى تقدير حذفها في الرواية فهي مقدَّرة، إذ لا يتم المعنى بدونها. قال العيني: ولفظة «قال» موجودة في كثيرٍ من النُّسخ هكذا: <حدَّثنا رسول الله صلعم وهو الصَّادق المصدوق قال: إن أحدكم>.
          (يُجْمَعُ) بضم أوله على البناء للمفعول (فِي بَطْنِ أُمِّهِ) وفي رواية أبي ذرٍّ عن الكُشميهني: <إن خلق أحدكم يجمعُ في بطن أمِّه> وكذا هو في رواية آدم في «التَّوحيد» [خ¦7454]، وكذا هو في رواية الأكثرين عن الأعمش، وفي رواية أبي الأحوص عنه: ((إنَّ أحدكُم يجمعُ خلقه في بطنِ أمِّه...))، وفي رواية ابن ماجه: ((إنَّه يجمعُ خلق أحدكُم في بطن أمِّه...)). والمراد بالجمع: ضمُّ بعضه إلى بعضٍ بعد الانتشار، والخلق بمعنى: المخلوق، من قَبِيل قولهم: هذا ضرب الأمير؛ أي: مضروبه، أو على حذف مضاف؛ أي: ما يقوم به خلق أحدكُم، أو أطلق مبالغة كقوله:
وَإِنَّمَا هِيَ إِقْبَالٌ وَإِدْبَارٌ
          وقال ابنُ الأثير في «النهاية»: يجوز أن يريدَ بالجمع: مكث النُّطفة / في الرَّحم؛ أي: تَمْكثُ النُّطفة أربعين يوماً تتخمَّر فيها حتَّى تتهيَّأ للتَّصوير، ثمَّ تُخلَّق بعد ذلك. وقال القرطبي: المراد أنَّ المنيَّ يقعُ في الرَّحم حين انزعاجهِ بالقوَّة الشَّهوانيَّة الدَّافعة مبثوثاً متفرِّقاً، فيجمعه الله ╡ في محلِّ الولادة من الرَّحم.
          (أَرْبَعِينَ يَوْماً) زاد في رواية آدم: ((أو أربعين ليلة)) [خ¦7454] بالشَّكِّ، وكذا لأكثر الرُّواة عن شعبة بالشَّكِّ. وفي رواية يحيى القطَّان ووكيع وجرير وعيسى بن يونس: ((أربعين يوماً)) بغير شكٍّ، وفي رواية سلمة بن كُهيل: ((أربعين ليلة)) بغير شكٍّ، ويجمع بأنَّ المراد يوم بليلته أو ليلة بيومها. ووقع عند أبي عَوانة من رواية وهب بن جرير عن شعبة: مثل رواية آدم، لكن زاد: ((نطفة)) بين قوله: ((أحدكُم)) وبين قوله: ((أربعين)) فبيَّن أنَّ الَّذي يجمعُ هو النُّطفة.
          والمراد بالنُّطفة: المنيُّ، وأصله: الماء الصَّافي القليل.
          والأصل في ذلك أنَّ ماء الرَّجل إذا لاقَى ماء المرأة بالجماع، وأرادَ الله تعالى أن يخلقَ من ذلك جنيناً هيَّأ أسباب ذلك؛ لأنَّ في رحمِ المرأة قوَّتين قوَّة انبساطٍ عند ورودِ منيِّ الرَّجل حتَّى ينتشرَ في جسد المرأة، وقوَّة انقباضٍ بحيث لا يسيلُ من فرجها مع كونه منكوساً، ومع كون المنيِّ ثقيلاً بطبعه، وفي منيِّ الرَّجل قوَّة الفعل، وفي مني المرأة قوَّة الانفعال، فعند الامتزاج يصير منيُّ الرَّجل كالأنفحة للَّبن، وقيل: في كلٍّ منهما قوَّةُ فعلٍ وانفعال، لكنَّ الأُولى في الرَّجل أكثر وبالعكس.
          وزعم كثير من أهل التَّشريح: أنَّ مني الرجل لا أثر له في الولد إلَّا في عقده، وأنَّه إنما يتكون من دم الحيض، وأحاديث الباب تبطل ذلك، وما ذُكِر أوَّلاً أقرب إلى موافقة الحديث.
          وأخرج ابن أبي حاتم في «تفسيره» من رواية الأعمش عن خيثمة بن عبد الرحمن عن ابن مسعودٍ ☺: إنَّ النَّطفة إذا وقعت في الرَّحم، فأراد الله أن يخلقَ منها بشراً طارتْ في جسد المرأة تحتَّ كلِّ ظفرٍ وشعر، ثمَّ تمكث أربعين، ثمَّ تنزل دماً / في الرحم. قال الخطَّابي بعد ما نقله عنه: فذلك جمعها.
          وقد رجَّح الطِّيبي هذا التَّفسير فقال: الصَّحابي أعلم بتفسير ما سمع وأحقُّ بتأويله، وأولى بقبول ما يتحدَّث به وأكثر احتياطاً في ذلك من غيره، فليس لمن بعدَه أن يتعقَّب كلامه. انتهى.
          وفيه: أنَّ ابتداءَ جمعه من ابتداءِ الأربعين، وعند أبي عَوَانة: ((ثنتان وأربعون)). وعند مسلم من رواية عَمرو بن الحارث عن أبي الزُّبير عن أبي الطُّفيل: ((ثلاث وأربعون)). وفي رواية ربيعة بن كُلثوم عن أبي الطُّفيل: ((أربعون أو خمس وأربعون)). وعند الفريابي من طريق محمد بن مسلم الطَّائفي عن عَمرو بن الحارث: ((خمسة وأربعون ليلة)) فجزم بذلك.
          فحاصل الاختلافِ أنَّ حديث ابنِ مسعود ☺ لم يختلف في ذكر الأربعين إلَّا أنَّ بعضَهم زاد: ثنتين، وبعضهم: ثلاثاً، وبعضهم: خمساً، ثمَّ منهم من جزم، ومنهم من تردَّد.
          وقد جمع القاضي عياض بينها: بأنَّه ليس في رواية ابن مسعود أنَّ ذلك يقعُ عند انتهاء الأربعين الأولى، وابتداء (2) الأربعين الثَّانية، بل أطلق الأربعين، واحتمل أن يريدَ أنَّ ذلك يقعُ في أوائل الأربعين الثَّانية، ويحتمل أن يقعَ الاختلاف في الزِّيادة على أنَّه بحسب اختلاف الأجنَّة.
          نعم لا يدفع ذلك الزِّيادة التي في حديث مالك بن الحُويرث، ولفظه: ((إذا أرادَ الله خلقَ عبدٍ فجامعَ الرَّجل المرأة طارَ ماؤه في كلِّ عرقٍ وعضو منها، فإذا كان يوم السَّابع جمعَه الله)) إلَّا أنَّه حديثٌ معضل على شرط التِّرمذي والنَّسائي. وقد قيل: إنَّ اختلافَ الألفاظ؛ لكونه في البطنِ، بل لكونهِ في الرَّحم حقيقةً، والرَّحم في ظلمةِ البطن، فإنَّ المشيمةَ في الرَّحم، والرَّحم في البطنِ، والله تعالى أعلم.
          (ثُمَّ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ) الزَّمان، وهو الأربعون، وفي رواية آدم: ((ثمَّ يكون علقة)). وفي رواية مسلم: ((ثمَّ يكون في ذلك علقة)) و«يكون» هنا بمعنى: يصير، ومعناه: أنَّه يكون بتلك الصِّفة مدَّة الأربعين، ثمَّ ينقلبُ إلى الصِّفة التي تليها.
          ويحتمل أن يكون المراد هنا يصيرُ شيئاً فشيئاً، فيخالطُ الدَّمُ النُّطفةَ في الأربعين الأولى بعد انعقادها وامتدادها، وتجري في أجزائها شيئاً فشيئاً حتَّى تتكاملَ علقةً في أثناء الأربعين، ثمَّ يخالطُها اللَّحم شيئاً فشيئاً / إلى أن يشتدَّ فيصيرُ مضغةً، ولا تسمَّى علقةً قبل ذلك ما دامتْ نطفة، وكذا ما بعد ذلك في زمان المضغة.
          وأمَّا ما أخرجه أحمدُ من طريق أبي عُبيدة قال: قال عبد الله رفعه: ((إنَّ النُّطفة تكون في الرَّحم أربعين يوماً على حالها لا تُغَيَّر)) ففي سنده ضعفٌ وانقطاعٌ، فإن كان ثابتاً حُمل نفي التَّغيُّر على تمامه؛ أي: لا تنتقلُ إلى وصف العلقة إلَّا بعد تمام الأربعين ولا ينتفى أنَّ المني يستحيلُ في الأربعين الأولى دماً إلى أن يصيرَ علقةً.
          والعلقة: دمٌ غليظٌ جامدٌ تحوَّل من النُّطفة البيضاء إلى العلقةِ الحمراء، وسُمِّي بذلك للرُّطوبة التي فيه وتعلُّقه بما مرَّ به.
          (ثُمَّ يَكُونُ) أي: تصير (مُضْغَةً) بضم الميم وسكون المعجمة؛ أي: قطعة لحمٍ قدرَ ما يُمضَغُ سُمِّيت بذلك لذلك (مِثْلَ ذَلِكَ) الزَّمان، وهو الأربعون (ثُمَّ) أي: في الطَّور الرَّابع (يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكاً) وفي رواية الكُشميهني: <ثمَّ يُبعَثُ إليه ملكٌ>، وفي رواية آدم كالكُشميهني لكن قال: ((الملك)). ومثله لمسلم بلفظ: ((ثمَّ يُرسِلُ الله)) واللام فيه للعهد، والمراد به: جنس الملائكة الموكَّلين بالأرحام، كما ثبت في رواية حذيفة بن أَسِيد من رواية ربيعة بن كلثوم: ((مَلَكاً موكَّلاً بالرَّحم)). ومن رواية عكرمة بن خالد: ((ثمَّ يتسوَّر عليها الملَك الذي يخلِّقها)) وهو بتشديد اللام؛ أي: لتصويره وتخليقهِ، وكتابة ما يتعلَّق به، فينفخ فيه الرُّوح.
          وفي حديث عليٍّ ☺ عند ابن أبي حاتم: ((إذا تمت النُّطفة أربعة أشهرٍ بعثَ الله إليها ملكاً فينفخ فيها الرُّوح)). وإسناد النَّفخ إلى الملَك مجازٌ عقليٌّ؛ لأنَّ ذلك من أفعال الله تعالى كالخلق. قال الكرمانيُّ: إذا ثبت أنَّ المراد بالملَك مَنْ جُعل إليه أمر تلك الرَّحم فكيف يُبعثُ أو يُرسل.
          وأجاب: بأنَّ المراد: [أن الذي فتح] يُبعث بالكلمات غير الملَك الموكَّل بالرَّحم، ثمَّ قال: ويحتمل أن يكون المراد بالبعث أنَّه يُؤمر بذلك، وبه جزم القاضي عياض وغيره. وقد وقع في رواية يحيى بن زكريا بن أبي زائدة / عن الأعمش: ((إذا استقرَّت النُّطفة في الرَّحم أخذها الملك بكفِّه، فقال: أي ربِّ أذكرٌ أو أنثى))، وفيه: ((فيقال: انطلقْ إلى أمِّ الكتاب فإنَّك تجد قصَّة هذه النُّطفة، فينطلقُ فيجد ذلك)) فينبغي أن يفسَّر الإرسال المذكور بذلك.
          واختلف في أوَّل ما يتشكَّل من أعضاءِ الجنين، فقيل: قلبه؛ لأنَّه الأساس وهو معدنُ الحركة الغريزيَّة. وقيل: الدِّماغ؛ لأنَّه مجمعُ الحواسِّ، ومنه ينبعثُ إلى القلب: وقيل: الكبد؛ لأنَّ فيه النُّمو والاغتذاء الَّذي هو قوامُ البدن.
          ورجَّحه بعضُهم بأنَّه مقتضى النِّظام الطَّبيعي؛ لأنَّ النُّمو هو المطلوب أولاً، ولا حاجةَ له حينئذٍ إلى حسٍّ ولا حركة إراديَّة؛ لأنَّه جسدٌ بمنزلة النَّبات، وإنَّما تكون له قوَّةُ الحسِّ والإرادة عند تعلُّق الشَّهوة، فيقدَّم الكبد، ثمَّ القلب، ثمَّ الدِّماغ، والله تعالى أعلم.
          (فَيُؤْمَرُ) على البناء للمفعول (بِأَرْبَعٍ) كذا في رواية الكُشميهني، وفي رواية الحمويي والمستملي: <بأربعة> والمعدود إذا أُبْهِم جاز تذكيرهُ وتأنيثه، والمعنى: أنَّه يؤمر بكتب أربعة أشياء من أحوال الجنين، وفي رواية آدم: ((فيؤمرُ بأربع كلماتٍ)) [خ¦7454] وكذا للأكثر، والمراد بالكلمات: القضايا المقدَّرة، وكلُّ قضيَّةٍ تسمَّى كلمة.
          (بِرِزْقِهِ) بدل من «أربع» وما بعده عطفٌ عليه داخل في حكمه، والمراد بكتب الرِّزق: تقديره قليلاً أو كثيراً، أو صفته حلالاً أو حراماً، وكلُّ ما ساقه إليه تعالى، فيتناولُ العلمَ وغيره (وَأَجَلِهِ) طويلاً أو قصيراً (وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ) وكلٌّ من اللَّفظين مرفوعٌ مصحَّح عليه في الفرع كأصله خبر مبتدأ محذوف، وكذا قال الحافظ العسقلاني.
          وتعقَّبه العينيُّ: بأنَّه ليس كذلك؛ لأنَّه معطوفٌ على ما قبله الَّذي هو بدل عن «أربع»، فيكون مجروراً؛ لأنَّ تقدير قوله: ((فيؤمر بأربع أربع كلمات)) كلمة تتعلَّق برزقه، وكلمة تتعلَّق بأجله، وكلمة تتعلَّق بسعادته أو شقاوته، وكان ظاهر السِّياق أن يقال: ويكتب سعادته أو شقاوته، فعدلَ عن ذلك حكايةً لصورة ما يكتبه؛ لأنَّ الكلام مسبوقٌ إليهما، والتَّفصيل واردٌ عليهما، / ذكره الطِّيبي.
          وكذا وقع في هذه الرِّواية، ونقصَ منها ذِكْرُ العمل، وبه تتمُّ الأربع، وثبت قوله: ((وعمله)) في رواية آدم [خ¦7454]، وقيل: هو كونه ذكراً أو أنثى، كما صرَّح به في الحديث الَّذي بعده [خ¦6595]، ولعلَّه لم يذكره؛ لأنَّه يلزمُ من المذكور، واختصرهُ اعتماداً على شهرته. وفي رواية أبي الأحوص عن الأعمش: ((فيؤمرُ بأربع كلمات: كتب رزقه... إلى آخره))، وضبط «بكتب» بوجهين: أحدهما: بموحدة مكسورة وكاف مفتوحة ومثناة ساكنة ثم موحدة على البدل. والآخر: بتحتانية مفتوحة بصيغة الفعل المضارع، وهو أوجه؛ لأنَّه وقع في رواية آدم: ((فيؤذن له بأربع كلماتٍ فيكتب)) [خ¦7454]، وكذا في رواية أبي داودٍ وغيره. ووقع في غير هذه الرِّواية أيضاً زيادة على الأربع، ففي رواية عبد الله بن ربيعة عن ابن مسعودٍ ☺: ((فيقول: اكتبْ رزقه وأثره وخَلْقه وأجله وشقيٌّ أو سعيدٌ)). وفي رواية خصيف عن أبي الزُّبير عن جابرٍ من الزِّيادة: ((فيقول: أي ربِّ مصيبته، فيقول: كذا وكذا)). وفي حديث أبي الدَّرداء ☺ عند أحمد والفريابي: ((فرغ الله إلى كلِّ عبدٍ من خمس عمله وأجله ورزقه وأثره ومضجعه)).
          وأمَّا صفة الكتابة فظاهر الحديث أنَّها الكتابة المعهودة في صحيفتهِ، ووقع ذلك صريحاً في روايةٍ لمسلم في حديث حذيفة بن أَسِيد: ((ثمَّ تُطوى الصَّحيفة فلا يُزاد فيها ولا يُنقص)). وفي رواية الفريابي: ((ثمَّ تُطوى تلك الصَّحيفة إلى يوم القيامة)). ووقع في حديث أبي ذرٍّ ☺: ((فيقضِي الله ما هو قاضٍ، فيكتبُ ما هو لاقٍ بين عينيه)) وتلا أبو ذرٍّ ☺ خمس آياتٍ من فاتحة سورة التَّغابن. ونحوه في حديث ابن عمر ☻ في «صحيح ابن حبَّان» دون تلاوة الآيات، وزاد: ((حتَّى النُّكتة ينكتُها)). وأخرجه أبو داود في «كتاب القدر» المنفرد. ثمَّ إنَّ حديث ابن مسعود ☺ بجميع طرقه يدلُّ على أنَّ الجنين يتقلَّب في مائة وعشرين يوماً في ثلاثة أطوار في كلِّ طورٍ منها أربعين، ثمَّ بعد جملتها ينفخُ فيه الرُّوح. / وقد ذكر الله تعالى هذه الأحوال الثَّلاث من غير تقييدٍ بعدَّةٍ في عدة سورة منها في الحج، ودلَّت الآية المذكورة في الحجِّ على أنَّ التَّخليق يكون للمُضغة وبيَّن الحديث أنَّ ذلك يكون فيها إذا تكاملتْ الأربعين، وهي المدَّة التي إذا انتهتْ سمِّيت مضغةً، وذكر النُّطفة ثمَّ العلقة ثمَّ المضغة في سورةٍ أخرى، وزاد في سورة {قَدْ أَفْلَحَ} [المؤمنون:1] بعد المضغة: {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً} [المؤمنون:14] الآية، فيؤخذ منها ومن حديث الباب تصيير المضغة عظماً بعد الرُّوح. ووقع في آخر رواية أبي عبيدة بعد ذكر المضغة، ثمَّ تكون عظاماً أربعين ليلة، ثمَّ يكسو الله العظام لحماً. وقد رتَّب الأطوار في الآية بالفاء؛ لأنَّ المراد أنَّه لا يتخلَّل بين الطُّورين طورٌ آخر. وفي الحديث وكذا في آية الحج رتَّبها بـ«ثمَّ» إشارة إلى أنَّ المدَّة التي تتخلَّل بين الطُّورين يتكامل فيها الطُّور.
          وإنَّما أتى بـ«ثمَّ» بين النُّطفة والعلقة؛ لأنَّ النُّطفة قد لا تتكون إنساناً، وأتى بـ«ثمَّ» في آخر آيةٍ {قَدْ أَفْلَحَ} عند قوله: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آَخَرَ} [المؤمنون:1-14] ليدلَّ على ما يتجدَّد له بعد الخروج من بطن أمِّه.
          وأمَّا الإتيان بـ«ثمَّ» في أول القصَّة بين السُّلالة والنُّطفة فللإشارة إلى ما تخلَّل بين خلق آدم وخلق ولده. وقد ثبت في رواية آدم عن شعبة في «التوحيد»: ((ثمَّ ينفخ فيه الرُّوح)) [خ¦7454]، وسقط في هذه الرِّواية. ووقع في رواية مسلم من طريق أبي معاوية وغيره: ((ثمَّ يرسلُ إليه الملَك، فينفخ فيه الرُّوح ويؤمر بأربع كلمات)). وظاهره: أنَّ النَّفخ قبل الكتابة.
          ويجمع بأنَّ رواية آدم صريحةٌ في تأخير النَّفخ للتَّعبير بقوله: «ثم»، والرِّواية الأخرى محتملةٌ فتُرَدُّ إلى الصَّريحة؛ لأنَّ الواو لا تدلُّ على التَّرتيب، فيجوز أن تكون معطوفة على الجملة التي تليها، وأن تكون معطوفةً على جملة الكلام المتقدِّم؛ أي: يجمع خلقه في هذه الأطوار ويُؤمر الملَك بالكَتْبِ، وتوسَّط قوله: «ينفخ فيه الرُّوح» بين الجمل، فيكون من ترتيب الخبر على الخبر لا من ترتيبِ الأفعال المُخبَر بها.
          ونقل ابنُ الزَّملكاني / عن ابن الحاجب في الجواب عن ذلك: أنَّ العرب إذا عبَّرت عن أمرٍ بعده أمورٌ متعدِّدة، ولبعضها تعلُّقٌ بالأوَّل حَسُن تقديمه لفظاً على البقيَّة، وإن كان بعضُها مقدَّماً عليه وجوداً، وحَسُن هنا لأنَّ القصد ترتيب الخلق الَّذي سيق الكلامُ لأجله.
          وقال القاضي عياض: اختلف ألفاظ هذا الحديث في مواضع، ولم يختلف أنَّ نفخ الرُّوح فيه بعد مئة وعشرين يوماً، وذلك تمام أربعة أشهر وبعد دخوله في الخامس، وهذا موجودٌ بالمشاهدة بحركة الجنين في الجوف. وقيل: إنَّه الحكمةَ في عِدَّة المرأة من الوفاة بأربعة أشهر وعشر، وهو الدُّخول في الخامس. وما أشار إليه من عدَّة الوفاةِ جاء صريحاً عن سعيد بن المسيَّب، فأخرج الطَّبري عنه: أنَّه سُئل عن عدَّة الوفاة فقيل له: ما بال العشر بعد الأربعة أشهر؟ فقال: ينفخُ فيها الرُّوح، فيكون معنى قوله: ((ثمَّ يرسلُ إليه الملَك)) أي: لتصويرهِ وتخليقه وكتابة ما يتعلَّق به، فينفخُ فيه الرُّوح إثر ذلك كما دلَّت عليه رواية البخاري وغيره.
          ووقع في حديث عليٍّ ☺ عند ابنِ أبي حاتم: إذا تمَّت النُّطفة أربعة أشهر بعثَ الله إليها ملَكاً، فينفخ فيها الرُّوح فذلك قوله ╡: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آَخَرَ} [المؤمنون:14] وسنده منقطعٌ. وهذا لا يُنافي التَّقييد بالعشر الزَّائدة، ومعنى إسناد النَّفخ إلى الملَك أنَّه يفعلُه بأمر الله تعالى، والنَّفخ في الأصل إخراج ريحٍ من جوف النَّافخ لتدخلَ في المنفوخ فيه، والمراد بإسناده إلى الله تعالى أنَّ يقول له: كنْ فيكون.
          وجمع بعضهم بأنَّ الكتابة تقعُ مرَّتين والكتابة الأولى في السماء، والثانية في بطنِ المرأة، ويحتمل أن يكون إحداهما في صحيفة، والأخرى على جبين المولود، وقيل: يختلفُ باختلاف الأجنَّة فبعضها كذا وبعضها كذا، والأول أَولى، والله تعالى أعلم.
          (فَوَاللَّهِ إِنَّ أَحَدَكُمْ _أَوِ: الرَّجُلَ_) بالشَّكِّ من الرَّاوي. ووقع في رواية آدم: / ((فإنَّ أحدكم)) [خ¦7454] بغير شكٍّ، وقدَّم ذكر الجنَّة على النَّار، وكذا وقع للأكثر، وكذا هو عند مسلمٍ وأبي داود والترمذي وابن ماجه. وفي رواية حفص: ((فإنَّ الرَّجل)) وأخَّر ذكر النَّار كآدم، وعكس أبو الأحوص، ولفظه: ((فإنَّ الرَّجل منكم)). وفي رواية ابن ماجه: ((فوالذي نفسي بيده)) وفي رواية مسلم والتِّرمذي: ((فوالذي لا إله غيره إنَّ أحدكُم ليعمل))، لكن وقع عند أبي عَوَانة وأبي نُعيم في «مستخرجيهما» من طريق يحيى القطَّان عن الأعمش، قال: ((فوالذي لا إله غيره)). وهذه محتملةٌ لأنْ يكون القائل النَّبيُّ صلعم فيكون الخبر كلُّه مرفوعاً، ويحتمل أن يكون بعض رواته، ووقع في رواية زيد بن وهب ما يقتضي أنَّه مدرجٌ في الخبر من كلام ابن مسعود ☺، لكنَّ الإدراج لا يثبت بالاحتمال، وأكثر الرِّوايات تقتضي الرفع إلَّا رواية وهب بن جرير فبعيدةٌ من الإدراج؛ فأخرج أحمد والنسائي من طريق سلمة بن كُهيل عن زيد بن وهب عن ابن مسعودٍ ☺ نحو حديث الباب وقال بعد قوله: ((واكتبه شقيًّا أو سعيداً))، ثمَّ قال: ((والَّذي نفس عبد الله بيده إنَّ الرَّجل ليعمل... إلى آخره)).
          وكذا وقع مفصَّلاً في رواية جماعة عن الأعمش منهم المسعودي وزائدة وزهير بن معاوية وآخرون، وقد روى أبو عُبيدة عن عبد الله بن مسعود أصلَ الحديث بدون هذه الزِّيادة، وكذا اقتصر حبيب بن حسَّان عن زيد بن وهب، وكذا وقع في معظم الأحاديث الواردة عن الصَّحابة كأنسٍ في ثاني حديثي الباب [خ¦6595] وحذيفة بن أَسِيد وابن عمر ♥ ، وكذا اقتصر عبد الرحمن بن حميد الرواسي عن الأعمش على هذا القدر.
          نعم، وقعت هذه الزِّيادة مرفوعةٌ في حديث سهل بن سعد الآتي بعد أبواب [خ¦6607]، وفي حديث أبي هريرة عند مسلم، وفي حديث عَمرو بن العاص في البزَّار، وأكثمُ بن الجون في الطَّبراني (3)، فتقوى أنَّ الجميع مرفوع، / وبذلك جزم المحبُّ الطَّبري، وحينئذٍ فتُحمل رواية سلمة بن كُهيل عن زيد بن وهب على أنَّ عبد الله بن مسعود ☺ لتحقُّق الخبر في نفسه أقسمَ عليه، ويكون الإدراجُ في القَسَم لا في المُقسَم عليه، ويؤيِّد الرفع أيضاً: أنَّه ممَّا لا مجال للرَّأي فيه فيكون له حكم الرفع.
          وقد اشتملت هذه الجملة على أنواع من التَّأكيد منها التَّأكيد بالقَسَم، وَوَصْفِ المُقسَم به وبأن وباللام، والأصل في التَّأكيد أن يكون لمخاطبة المنكر أو المستبعد، أو المتوهَّم أنَّ فيه شيئاً من ذلك، وهنا لمَّا كان الحكم مستبعداً وهو دخولُ من عمل الطَّاعة غالب عُمره النَّار وبالعكسِ حَسُنَ المبالغة في تأكيد الخبر بذلك.
          (يَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ) من المعاصي، والباء في «بعمل» زائدة للتَّأكيد؛ أي: يعمل عمل أهل النَّار، أو ضمَّن [«يعمل»] معنى «يتلبس» (حَتَّى مَا يَكُونُ) نصب «بحتى»، و«ما» نافية غير مانعة لها من العمل، كذا قال الطَّيبي. وجوَّز بعضهم أن تكون «حتَّى» ابتدائية، و«تكونُ» على هذا بالرفع، وهو الذي في اليونينية.
          (بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا غَيْرُ بَاعٍ أَوْ ذِرَاعٍ) برفع «غيرُ» هكذا رواية الكُشميهني، وفي رواية غيره: <غير ذراعٍ أو باعٍ>. وفي رواية الأحوص: ((إلَّا ذراع)) بغير شكٍّ. وقد علَّقها المصنِّف لآدم في آخر هذا الحديث. والتَّعبير بالذِّراع تمثيلٌ بقرب حاله من الموت، فيُحالُ بينه وبين المكان بمقدارِ ذراع أو باع من المسافة، وضابط ذلك الغرغرة الَّتي جُعِلت علامة لعدم قبول التَّوبة.
          (فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ) وفي رواية أبي الأحوص: ((كتابه)) وفي الفاء في قوله: «فيسبق» إشارةً إلى تعقُّب ذلك بلا مهملة، وضَمَّن «يسبقُ» معنى: يغلب، قاله الطِّيبي. أي: يغلب عليه الكتاب. وقوله: ((عليه)) في موضع نصب على الحال؛ أي: يسبق المكتوب واقعاً عليه سبقاً بلا مهلة، والمراد بسبق الكتاب: سبق ما تضمَّنه، على حذف مضاف، أو المراد بالكتاب ما قُدِّر عليه.
          (فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ / فَيَدْخُلُهَا) والمعنى: أنَّه يتعارض عمله في اقتضاء الشَّقاوة، والمكتوب في اقتضاء السَّعادة فيتحقَّق مقتضى المكتوب، فعبَّر عن ذلك بالسَّبق؛ لأنَّ السَّابق يحصلُ مراده دون المسبوق (وَإِنَّ الرَّجُلَ) ولم يقل إنَّ أحدكم أو الرَّجل، على الشَّكِّ كما سبق (لَيَعْمَلُ) بلام التأكيد (بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ) من الطَّاعات (حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا غَيْرُ ذِرَاعٍ أَوْ ذِرَاعَيْنِ) وفي رواية أبي ذرٍّ: <أو باع> بدل: «ذراعين»، والباع: قدر مدِّ اليدين (فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ) أي: القضاء الأزلي (فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا، وَقَالَ آدَمُ) هو: ابنُ أبي إياس: (إِلاَّ ذِرَاعٌ) فلم يشكَّ، كذا في رواية أبي ذرٍّ وأبي الوقت، وفي رواية المستملي والحمويي: <إلا باع> بدل: ((ذراع))، وقد ذكر في هذا الحديث أهلَ الخير صِرْفاً إلى الموت، وأهلَ الشَّرِّ صِرْفاً إلى الموت، ولم يذكر الَّذين خلَّطوا وماتوا على الإسلام؛ لأنَّه لم يقصد تعميمَ أحوال المكلَّفين، وإنَّما سيق؛ لبيان أنَّ الاعتبار بالخاتمة، ختم الله أعمالنا بالصَّالحات بمنِّه وكرمه.
          ووقع في حديث أبي هريرة ☺ عند مسلم: ((وإنَّ الرَّجل ليعملُ الزَّمان الطَّويل بعمل أهل النَّار، ثمَّ يختم له بعملِ أهل الجنَّة)) زاد أحمد من وجهٍ آخر عن أبي هريرة ☺: ((سبعين سنة)). وفي حديث أنس ☺ عند أحمد وصحَّحه ابن حبَّان: ((لا عليكم أن لا تعجبوا بعمل أحدٍ حتَّى تنظروا بما يُختَم له، فإنَّ العاملَ يعمل زماناً من عمره بعملٍ صالحٍ لو مات عليه دخل الجنَّة، ثمَّ يتحوَّل فيعملُ عملاً سيئاً...)) الحديث.
          وفي حديث عائشة ♦ عند أحمد مرفوعاً: ((إنَّ الرَّجل ليعمل بعمل أهل الجنَّة وهو مكتوبٌ في الكتاب الأوَّل من أهل النَّار، فإذا كان قبل موته تحوَّل فعمل عمل أهل النَّار فمات فدخلها)) وفيه: أنَّ في تقدير الأعمال ما هو سابقٌ ولاحقٌ، فالسَّابق ما في علم الله تعالى، واللَّاحق ما يُقدَّر على الجنين في بطن أمِّه، كما في هذا الحديث، وهذا هو الَّذي يقبل النَّسخ.
          وأمَّا ما وقع في «صحيح مسلم» من حديث عبد الله بن عَمرو مرفوعاً: ((كتب الله مقادير الخلائق قبلَ أن يخلق السَّموات والأرض بخمسين ألف سنة)) فهو محمولٌ على كتابة ذلك في اللَّوح المحفوظ على وَفْقِ ما في علم الله تعالى.
          وفي الحديث: إنَّ الأعمالَ / حسنها وسيِّئها أماراتٌ وليست بموجبات، وإنَّ مَصير الأمور في العاقبة إلى ما سبقَ به القضاء وجرى به القدر في الابتداء، قاله الخطابي. وفيه: القَسَم على الخبر الصِّدق تأكيداً في نفس السَّامع. وفيه: إشارةٌ إلى علم المبدأ والمعاد، وما يتعلَّق ببدن الإنسان وحاله في الشَّقاء والسَّعادة. وفيه: أنَّ السَّعيد قد يشقى، وأنَّ الشَّقي قد يسعد، لكن بالنِّسبة إلى الأعمال، وأمَّا في علم الله فلا يتغيَّر، وفيه: أنَّ الاعتبار بالخاتمة.
          قال ابن أبي جمرة: هذه الَّتي قطعت أعناق الرِّجال مع ما هم فيه من حُسن الحال؛ لأنَّهم لا يدرون بماذا يختمُ لهم، وفيه: أنَّ عموم مثل قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ} [النحل:97] الآية مخصوصٌ بمن مات على ذلك، وفيه: أنَّ من عمل عمل السَّعادة وخُتِم له بالشَّقاوة فهو في طول عمره عند الله شقيٌّ وبالعكس، وما ورد فيما يخالفه يؤوَّل إلى أن يَؤُؤْلُ إلى هذا. وقد اشتهر الخلاف في هذا بين الأشعريَّة والحنفيَّة. وتمسَّك الأشاعرة بمثل هذا الحديث.
          وتمسَّك الحنفيَّة بقوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد:39]، والحقُّ أنَّ النِّزاع لفظيٌّ وإنَّ الذي سَبَقَ في علم الله لا يتغيَّر ولا يتبدَّل، وأنَّ الَّذي يجري عليه التَّغيير والتَّبديل ما يبدو للنَّاس من عمل العامل كالزِّيادة في العمر والنَّقص، وأمَّا في علم الله تعالى فلا محو فيه ولا إثبات، والعلم عند الله تعالى.
          وفيه: التَّنبيه على صدق البعث بعد الموت؛ لأنَّ من قدِرَ على خلق الشَّخص من ماءٍ مهين، ثمَّ نقله إلى العلقة، ثمَّ إلى المضغة، ثمَّ ينفخُ الرُّوح فيه قادرٌ على نفخ الرُّوح بعد أن تصيرَ تراباً، ويجمع أجزاؤها بعد أن يفرِّقها، ولقد كان قادراً على أن يخلقَه في لمحةً، ولكن اقتضت الحكمة أن يحوَّلَ الإنسان في بطن أمَّه حالة بعد حالةٍ وطوراً بعد طور، رفقاً للأمِّ فإنَّه لو خلقه دفعة؛ لشقَّ على الأمِّ؛ لأنَّها لم تكن معتادةً لذلك فكانت المشقَّة تعظُم عليها، / فهيأه في بطنها بالتَّدريج، فجعل أوَّلاً نطفة لتعتاد بها مدَّةً ثمَّ علقةً مدَّة وهلمَّ جراً إلى الولادة.
          ومن تأمَّل أصل خلقهِ من نطفة وتنقله في تلك الأطوار إلى أن يتكاملَ، ويصير إنساناً جميل الصُّورة متحلِّياً بالعقل والشَّهامة، ومتزيناً بالفهمِ والفطانة، ومفضَّلاً بالنُّطق كان حقًّا عليه أن يشكرَ من أنشأه وهيَّأه، ويعبده حقَّ عبادتهِ ويُطيعه ولا يعصيه.
          واستدلَّ به على أنَّ السِّقط بعد أربعة أشهرٍ يُصلَّى عليه؛ لأنَّه وقت نفخ الرُّوح فيه، وهو منقولٌ عن القديم للشَّافعي والمشهور عن أحمد وإسحاق. وعن أحمد: إذا بلغَ أربعة أشهر وعشراً ففي تلك العشر ينفخُ فيه الرُّوح وهو الجديد. وقد قالوا: إذا بكى واختلج أو تنفَّس، ثمَّ بطل ذلك يصلَّى عليه، وإلَّا فلا، والأصل في ذلك ما أخرجه النَّسائي وصحَّحه ابن حبَّان والحاكم عن جابر ☺ رفعه: ((إذا استهلَّ الصَّبي ورثَ وصُلِّي عليه)). وقد ضعَّفه النَّووي في «شرح المهذَّب» والصَّواب: أنَّه صحيح الإسناد لكن المرجوح عند الحفَّاظ وقفه. قالوا: وإذا بلغ مائة وعشرين يوماً غُسِّل وكفِّن ودُفن بغير صلاةٍ، وما قبل ذلك لا يُشرَع له غُسْل ولا غيره.
          وفي الحديث أيضاً: الحثُّ القويُّ على القناعة والزَّجر الشَّديد عن الحرص؛ لأنَّ الرِّزق إذا كان قد سبق تقديره لم يُعنى المتعنِّي في طلبه؟ وإنَّما شرعَ الاكتساب؛ لأنَّه من جملة الأسباب التي اقتضتها الحكمة في دار الدُّنيا. وفيه أنَّ الأعمال سبب دخول الجنَّة أو النَّار ولا يعارضه حديث: ((لن يدخلَ أحداً منكم الجنة عمله)) لما تقدَّم من الجمع في «باب القصد والمداومة» على العمل من «كتاب الرِّقاق» [خ¦6464] [خ¦6465].
          وفيه: أنَّ من كُتب شقياً لا يعلم حاله في الدُّنيا، وكذا عكسه، واحتجَّ من أثبت ذلك بما سيأتي قريباً من حديث عليٍّ ☺ [خ¦6605]، أمَّا من كان من أهل السَّعادة فإنَّه ميسَّرٌ لعمل أهل السَّعادة الحديث. والتَّحقيق أن يُقال: إن أريد أنَّه لا يُعلم أصلاً ورأساً / فمردودٌ وإن أُريد أنَّه يعلم بطريق العلامة المثبتة للظَّنِّ الغالب فنعم، ويقوِّي ذلك في حقِّ من اشتهر له لسان صدقٍ بالخير والصَّلاح، ومات على ذلك لقوله في الحديث الصَّحيح الماضي في «الجنائز» [خ¦1367]: ((أنتم شهداءُ الله في الأرض)). وإن أُريد أنَّه يعلم قطعاً لمن شاء الله أن يطلعَه على ذلك فهو من جملة الغيب الَّذي استأثر الله بعلمه، واطلعَ من شاء وارتضى من رسله عليه.
          وفيه: الحثُّ على الاستعاذة بالله من سوء الخاتمة، وقد عمل به جمع جمٌّ من السَّلف وأئمة الخلف، وأمَّا ما قاله عبد الحقِّ في كتاب «العافية» أنَّ سوء الخاتمة لا يقع لمن استقام باطنه وصلح ظاهرُه، وإنَّما يقع لمن في طويته فسادٌ وارتيابٌ، ويكثر وقوعه للمصرِّ على الكبائر، والمجترئُ على الجرائم فيهجمُ عليه الموت بغتةً، فيصطلمُه الشَّيطان عند تلك الصَّدمة، فقد يكون ذلك سبباً لسوءِ الخاتمة. نسأل الله السَّلامة، فإنَّه محمولٌ على الأكثر الأغلب.
          وفيه: أنَّه لم يُجعلِ الجماع على الولد؛ لأنَّ الجماعَ قد يحصلُ ولا يكون الولد حتَّى يشاء الله ذلك. واستدلَّ الدَّاودي بقوله «فيدخل النَّار» على أنَّ الخبر خاصٌّ بالكفَّار، واحتجَّ بأنَّ الإيمان لا يحبطه إلَّا الكفر، وتُعُقِّب بأنَّه ليس في الحديث تعرُّضٌ للإحباط، وحمله على المعنى الأعمِّ أولى فيتناول المؤمن حتَّى يختمَ له بعمل الكافر مثلاً فيرتدُّ فيموت على ذلك نستعيذُ بالله من ذلك، ويتناول المطيع حتَّى يختمَ له بعمل العاصي فيموت على ذلك، ولا يلزم من إطلاق دخول النَّار أنَّه يخلَّد فيها أبداً بل مجرَّد الدُّخول صادقٌ على الطَّائفتين.
          واستدلَّ به على أنَّه لا يجبُ على الله ╡ رعاية الأصلح خلافاً لمن قال به من المعتزلةِ؛ لأنَّ فيه أنَّ بعضَ النَّاس يذهبُ جميع عمرهِ في طاعة الله، ثمَّ يختمُ له بالكفر والعياذ بالله تعالى، فيموت على ذلك فيدخل النَّار، فلو كان يجبُ عليه رعاية الأصلح لم يحبطْ جميع عمله الصَّالح بكلمة الكفر الَّتي مات عليها ولا سيَّما إن طال عمرهُ وقرب موتُه من كفره.
          واستدلَّ به بعض المعتزلة على أنَّ من عمل عمل أهل النَّار / وجبَ أن يدخلها لترتُّب دخولها في الخبر على العمل وترتب الحكم على الشَّيء يشعرُ بِعلِّيته.
          وأُجيب: بأنَّه علامة لا علَّة، والعلامة قد تتخلَّف، سلمنا أنَّه علَّةٌ، لكنَّه في حقِّ الكفَّار، وأمَّا العصاة فخرجوا بدليل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] فمن لم يشرك فهو داخلٌ في المشيئة.
          ومطابقة الحديث للترجمة ظاهرةٌ في معناه. وقد أخرجه البخاري في «التوحيد» أيضاً [خ¦7454]، وأخرجه مسلم في «القدر»، وأخرجه بقية الجماعة.


[1] في هامش الأصل: وفي نسخة جاءت بالكسر فقط.
[2] في الأصل: وانتهاء، وقال في الهامش: في نسخة: وابتداء. وهو ما أثبته.
[3] في الفتح وفي حديث أبي هريرة عند مسلم وفي حديث عائشة عند أحمد وفي حديث ابن عمرو العُرْس بن عميرة في البزار وفي حديث عمرو بن العاص وأكثم بن الجون الطبراني.