نجاح القاري لصحيح البخاري

باب: {قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا}

          ░15▒ (باب) يُذكر فيه قوله تعالى: ({قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا}) أي: قضى لنا وهو أحد معانيه، وبه جزم الطَّبري في «تفسيره». قال الرَّاغب: ويعبَّر بالكتابة عن القضاء الممضيِّ كقوله تعالى: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال:68] ؛ أي: ما قدَّره، ومنه: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54] وقوله: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة:51] يعني: ما قدَّره وقضاه؛ أي: من خيرٍ أو شرٍّ كما قَدَّر في الأزل، وكتب في اللَّوح المحفوظ، و{لنا} مفيدة معنى الاختصاص كأنَّه قيل: لن يصيبنا إلَّا ما اختصَّنا الله بإثباتهِ وإيجابه.
          وقال / الرَّاغب: وعبَّر بقوله: {لنا}، ولم يعبِّر بقوله: علينا، تنبيهاً على أنَّ الَّذي يصيبنا نعدُّه نعمةً لا نقمة. ويؤيِّده: الآية التي تليها حيث قال تعالى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة:52]، وقد تقدَّم في تفسيره [خ¦56/11-4385]: أنَّ المراد الفتح أو الشَّهادة، وكلٌّ منهما نعمة.
          وأشار بهذه الآية: إلى أنَّ الله تعالى أعلم عباده أنَّ ما يصيبهم في الدُّنيا من الشَّدائد والمحن والضِّيق والخصب والجدب أنَّ ذلك كلُّه فعلٌ لله تعالى يفعلُ من ذلك ما يشاءُ لعباده، ويبتليهِم بالخير والشَّرِّ، وذلك كلُّهُ مكتوبٌ في اللَّوح المحفوظ.
          قال ابن بطَّال: وقد قيل: إنَّ هذه الآية وردتْ فيما أصاب العبادَ من أفعال الله التي اختصَّ بها دون خلقهِ، ولم يقدرهم على كسبها دون ما أصابوه مكتسبين له مختارين. قال الحافظ العسقلاني: والصَّواب التَّعميم وأنَّ ما يصيبهم باكتسابهم واختيارهم هو مقدورٌ لله تعالى وعن إرادته وقع، والله تعالى أعلم.
          (قَالَ مُجَاهِدٌ) هو: ابنُ جبر في تفسير قوله تعالى: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصافات:162] ({بِفَاتِنِينَ}) أي: ما أنتم عليه (بِمُضِلِّينَ إِلاَّ مَنْ كَتَبَ اللَّهُ) عليه في السَّابقة (أَنَّهُ يَصْلَى الْجَحِيمَ) أي: يدخل النَّار، وهذا التَّعليق وصله عبد بن حُميد بمعناه من طريق إسرائيل عن منصور في هذه الآية قال: ((لا تفتنون إلَّا من كُتب عليه الضَّلالة)). وأخرجه الطَّبري من تفسير ابن عبَّاس ☻ من رواية عليِّ بن أبي طلحة عنه بلفظ: ((لا تضلون أنتم ولا أضلُّ منكم إلَّا من قضيتُ عليه أنَّه صالِ الجحيم)).
          ومن طريق حُميد: سألت الحسن فقال: ما أنتم عليه بمضلِّين إلَّا من قضيت عليه أنَّه صال الجحيم، ومن طريق عمر بن عبد العزيز قال في تفسير هذه الآية: إنَّكم والآلهة التي تعبدونها لستُم بالذي تُفتنون عليها إلَّا من قضيتُ أنَّه سيصلى الجحيم.
          وقال مجاهد أيضاً في تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِي} ({قَدَّرَ فَهَدَى}) أي: (قَدَّرَ الشَّقَاءَ وَالسَّعَادَةَ، وَهَدَى الأَنْعَامَ لِمَرَاتِعِهَا) وصله الفريابي عن ورقاء عن ابنِ أبي نَجيح عن مجاهد في قوله تعالى: {قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى:3] قدَّر للإنسان الشَّقوة والسَّعادة، وهدى الأنعام لمراتعها، وتفسير مجاهدٍ هذا للمعنى لا للفظ، وهو كقوله ╡: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طـه:50]. وقيل: قدَّر أقواتهم وأرزاقهم وهداهُم لمعاشهم إن كانوا أناساً، / ولمراعيهم إن كانوا وحشاً.
          وعن ابن عبَّاس ☻ والسُّدِّي ومقاتل والكلبي في قوله: {فَهَدَى} قال: عرَّف خلقه كيف يأتي الذَّكرُ الأنثى، كما قال في طه: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طـه:50] أي: الذَّكر للأنثى. وقال عطاء: جعل لكلِّ دابَّةٍ ما يصلحها وهداها إليه. وقيل: {قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى:3] قدَّر لكلِّ حيوانٍ ما يصلحُه، فهداه إليه وعرَّفه وجه الانتفاع به، يقال: إنَّ الأفعى إذا أتت عليها ألف سنةٍ عميت، وقد ألهمها الله تعالى أنَّ مسح العينين بورق الرَّازيانج الغضُّ يردُّ إليها بصرها فربَّما كانت في بريَّةٍ بينها وبين الرِّيف مسيرة أيَّامٍ، فتطوى تلك المسافة على طولها وعماها حتَّى تهجمَ في بعض البساتين على الرَّازيانج لا تخطئها فتحكُّ بها عينيها، فترجعُ باصرةً بإذن الله تعالى، وهدايات الإنسان إلى مصالحه من أغذيتهِ وأدويتهِ وأمور دُنياه ودينه وإلهامات البهائم والطُّيور وهوامِ الأرض ثابتةٌ واسعةٌ فسبحان ربِّي الأعلى وبحمدهِ.
          قال الرَّاغب: هداية الله ╡ للخلقِ أربعة أضرب:
          الأولى: إنعامه لكلِّ أحدٍ بحسب احتماله، وإليها أشار بقوله تعالى: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طـه:50].
          والثَّانية: الدُّعاء على ألسنةِ الأنبياء، وإليها أشار بقوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [الأنبياء:73].
          والثالثة: التَّوفيق الَّذي يختصُّ به من اهتدى، وإليها أشار بقوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11]، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} [محمد:17].
          والرابعة: الهداية في الآخرة إلى الجنَّة، وإليها أشار بقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43]. قال: وهذه الهدايات الأربع مرتَّبةٌ فإن من لا تحصل له الأولى لا تحصل له الثَّانية، ومن لا تحصل له الثَّانية لا تحصل له الثَّالثة، ومن لا تحصل له الثَّالثة لا تحصل له الرَّابعة، ولا تحصل الرَّابعة إلَّا لمن حصلت له الثَّلاثة، ولا تحصل الثَّلاثة إلَّا لمن حصلت له الثِّنتان قبلها، وقد تحصلُ الأولى دون الثَّانية والثانية دون الثَّالثة والإنسان لا يهدي أحداً إلَّا بالدُّعاء، وتعريف الطُّرق دون بقيَّة الأنواع المذكورة، وإلى ذلك أشار بقوله جلَّ ذكره: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52] وإلى بقيَّة الهدايات أشار بقوله: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56]. /