نجاح القاري لصحيح البخاري

باب: المعصوم من عصم الله

          ░8▒ (باب) أي: باب يُذكر فيه قول رسول الله صلعم : (الْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللَّهُ) أي: من عصمَه الله بأن حماهُ من الوقوع في الهلاك أو ما يجرُّ إليه، يقال: عصمَه الله من المكروه: وقاهُ وحفظه واعتصمتُ بالله لجأت إليه، وعصمة الأنبياء: حفظهم من النَّقائص وتحصينهم بالكمالات النَّفيسة والنُّصرة والثَّبات في الأمر وإنزال السَّكينة، والفرق بينهم وبين غيرهم: أنَّ العصمة في حقِّهم بطريق الوجوب، وفي حقِّ غيرهم بطريقِ الجواز.
          (عَاصِمٌ: مَانِعٌ) أشار به إلى تفسير قوله تعالى في قصَّة نوح ◙ وابنه: {قَالَ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [هود:43] أي: لا مانع منه، وبذلك فسَّره عكرمة فيما أخرجه الطَّبري من طريق الحكم بن أبان، عنه.
          وقال الرَّاغب: المعنى بقوله: {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ} أي: لا شيء، وفسَّره بعضهم بمعصوم، ولم يُرِدْ أنَّ العاصم بمعنى معصوم، وإنَّما نبَّه على أنَّهما متلازمان فأيُّهما حصل حصل الآخر.
          (قَالَ مُجَاهِدٌ) هو: ابنُ جبر ({سَدّاً}) بألف بعد الدال المنونة من غير تشديد في الفرع كأصله. وقال الحافظ العسقلاني: {سدًّا} بتشديد الدال بعدها ألف، وصله / ابن أبي حاتم من طريق ورقاء عن ابن أبي نَجيح عن مجاهد في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً} [يس:9] قال: (عَنِ الْحَقِّ، يَتَرَدَّدُونَ فِي الضَّلاَلَة) ووصله عبد بن حميد من طريق شِبْل عن ابن أبي نَجيح عن مجاهد في قوله: {سَدّاً} قال: عن الحقِّ وقد يترددون.
          قال الحافظُ العسقلاني: ورأيته في بعض نسخِ البخاريِّ: <سُدَى> بتخفيف الدال مقصوراً، وعليها شرح الكرماني، فزعم أنَّه وقع هنا: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة:36] ؛ أي: مهملاً متردِّداً في الضَّلالة، ولم أرَ في شيءٍ من نسخ البخاري إلَّا اللَّفظ الَّذي أوردته.
          قال مجاهد: {سَدّاً} إلى آخره، ولم أرَ في شيءٍ من «التفاسير» التي تساق بالأسانيد لمجاهدٍ في قوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} كلاماً ولم أرَ قوله: في الضَّلالة، في شيءٍ من المنقولات عن مجاهدٍ بالسَّند. انتهى.
          وتعقَّبه العينيُّ: بأنَّ هذا كلامٌ ينقض آخره أوله؛ لأنَّه قال أولاً: ورأيته في بعض نسخ البخاري: <سُدَى> بتخفيف الدال.
          ثمَّ قال: ولم أرَ في شيءٍ من نسخ البخاري إلَّا الَّذي أوردته، ومع هذا فإنَّه لم يطلع على جميع النُّسخ، إذ لم يطلع إلَّا على النُّسخ التي في مدينته، وأمَّا النسخ التي في كرمان وبلخ وخراسان؛ فلا.
          ويمكن أن يُجاب عن الاعتراض: بأنَّ الَّذي نفى رؤيته قول الكرماني، وقال: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة:36] ؛ أي: مهملاً متردداً في الضَّلالة، وأمَّا الَّذي ذكر أنَّه رآه في بعض النسخ؛ فهو مجرد لفظ: {سدى} بالتخفيف وبالتحتية آخره فأين التَّناقض؟ فليتأمل.
          ({دَسَّاهَا}: أَغْوَاهَا) أشار بهذا إلى تفسير قوله تعالى: {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:10] بقوله: أغواها، وصله الفريابيُّ عن ورقاء عن ابن أبي نَجيح عن مجاهد في قوله تعالى: {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:10] قال: من أغواها. وأخرج الطَّبري بسندٍ صحيحٍ عن حبيب بن أبي ثابت عن مجاهد وسعيد بن جبير في قوله: {دَسَّاهَا} قال أحدهما: أغواها، وقال الآخر: أضلها. وقال أبو عبيدة: {دسَّاها} أصله: دسسها من التَّدسيس قال:
وَأَنْتَ الَّذِيْ دَسَسْتَ عَمْراً فَأَصْبَحَتْ                     حَلَائِلُهُ مِنْهُ أَرَامِلَ صُيْعاً
          لكنَّ العرب نقلت / الحرف المضعَّف إلى الياء مثل: تظننتُ من الظَّنِّ، فيقولون: تظنَّيت _بتحتانية بدل النون_، والتَّدسية: الإخفاء؛ يعني: أخفاها بالفجور. وقال ابنُ الأعرابي: {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}؛ أي: دسَّ نفسَه في جملة الصَّالحين وليس منهم.
          ومناسبةُ هذا التَّفسير للترجمة تُؤخذ من المراد بفاعل {دساها}. وقال قومٌ: هو الله؛ أي: قد أفلح صاحب النَّفس الَّتي زكَّاها، وخاب صاحب النَّفس التي أغواها. وقال آخرون: هو صاحب النَّفس الَّذي إذا فعل الطَّاعات فقد زكَّاها، وإذا فعل المعاصي فقد أغواها، والأوَّل هو المناسب للتَّرجمة. وقال الكرماني: مناسبة الآيتين بالتَّرجمة بيان أنَّ من لم يعصمْه الله كان سُدًى ومُغوى.