إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: إن الله قال من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب

          6502- وبه قال: (حَدَّثَنِي) بالإفراد، ولأبي ذرٍّ بالجمع (مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْن كَرَامة) بفتح الكاف وتخفيف الرَّاء، العِجْليُّ _بكسر العين المهملة وسكون الجيم_ الكوفيُّ، وثبت: ”ابن كرامة“ لأبي ذرٍّ، قال: (حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ) بفتح الميم وسكون الخاء المعجمة، القطوانيُّ الكوفيُّ قال: (حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ) أبو أيُّوب التَّميميُّ قال: (حَدَّثَنِي) بالإفراد (شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ) بفتح النون وكسر الميم، القُرشيُّ (عَنْ عَطَاءٍ) هو ابنُ يسارٍ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) ☺ ، أنَّه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم : إِنَّ اللهَ) ╡ (قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا) فعيلًا بمعنى مفعول، وهو مَن يتولَّى الله سبحانه وتعالى أمرَه، قال الله تعالى: {وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ}[الأعراف:196] ولا يَكِلُه إلى نفسه لحظة، بل يتولَّى الحقُّ رعايتَه، أو هو فعيل مُبالغة‼ من الفاعل، وهو الَّذي يتولَّى عبادةَ الله وطاعته(1)، فعباداته تجري على التَّوالي من غير أن يتخلَّلها عصيانٌ، وكِلا الوصفين واجبٌ حتَّى يكون الوليُّ وليًّا بحسب قيامه بحقوقِ الله على الاستقصاءِ والاستبقاء، ودوام حفظ الله إيَّاه في السَّرَّاء والضَّرَّاء، ومن شرط الوليِّ أن يكون محفوظًا كما أنَّ من شرط النَّبيِّ أن يكون معصومًا، فكلُّ مَن كان للشَّرع عليه اعتراضٌ، فهو مغرورٌ مُخادعٌ.
          قال القُشيريُّ: والمراد بكون الوليِّ محفوظًا أن يحفظَه الله تعالى من تماديهِ في الزَّلل والخطأ إنْ وقع فيهما بأن يُلهمَه التَّوبة فيتوبُ منهما، وإلَّا فهما لا يقدحانِ في ولايتهِ. وقوله: «لي» هو في الأصل صفةٌ لقوله: «وليًّا» لكنَّه لمَّا تقدَّم صار حالًا، وفي رواية أحمد: «مَن آذى لي وليًّا» (فَقَدْ آذَنْتُهُ) بمدِّ الهمزة وفتح المعجمة وسكون النون، أي: أعلمتهُ (بِالحَرْبِ) أي: أعملُ به ما يعمله العدوُّ المحاربُ من الإيذاءِ ونحوه، فالمراد لازمه، وفيه تهديدٌ شديدٌ؛ لأنَّ مَن حاربَه أهلكَه. قال الفَاكهانيُّ: وهو من المجاز البليغ؛ لأنَّ مَن كره مَن(2) أحبَّ الله خالفَ الله، ومَن خالف الله عَانده، ومَن عانده أهلكَه، وإذا ثبتَ هذا في جانب المُعاداة ثبت ضدُّهُ في جانبِ الموالاةِ، فمَن والى أولياءَ الله أكرمَه الله، ولأبي ذرٍّ عن الكُشميهنيِّ: ”بحربٍ“ بإسقاط الألف واللام (وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي) ولأبي ذرٍّ عن الكُشميهنيِّ: ”عبد“ بحذف التَّحتية (بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ) بفتح «أحبَّ» صفة لقوله: «بشيءٍ» فهو مفتوحٌ في موضع جرٍّ، وبالرَّفع بتقدير: هو أحبُّ إليَّ (مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ) سواءٌ كان عينًا أو كفايةً، وظاهر قوله: «افترضتُه» الاختصاص بما ابتدأ الله فرضِيته، وهل يدخل ما أوجبه(3) المُكلَّف على نفسهِ(4) (وَمَا يَزَالُ) بلفظ المضارع، ولأبي ذرٍّ عن الحَمُّويي والمُستملي: ”وما زال“ (عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ) مع الفرائض كالصَّلاة والصِّيام (حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ) ولأبي ذرٍّ: ”حتَّى أحببته فكنت“ (سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطُشُ بِهَا) بضم(5) الطاء في «اليونينيَّة»، وبكسرها في غيرها (وَرِجْلَهُ الَّتِي(6) يَمْشِي بِهَا) وزاد عبدُ الواحد بن ميمون عن عروة عن عائشة _عند أحمد والبيهقيِّ في «الزُّهد»_: «وفُؤادَهُ الَّذي يعقلُ به، ولسانَهُ الَّذي يتكلَّمُ به».
          وفي حديث أنسٍ: «ومَن أحببتُه كنتُ له سمعًا وبصرًا ويدًا ومؤيِّدًا»، هو مجازٌ وكنايةٌ عن نصرة العبد وتأييدِه وإعانته حتَّى كأنَّه سبحانه يُنزِّل نفسه من عبده منزلةَ الآلات الَّتي يستعين بها، ولذا(7) وقع في رواية: «فبي يسمعُ، وبي يبصرُ، وبي يبطشُ، وبي يمشي» قاله الطُّوفيُّ(8)، أو أنَّ(9) سمعَه بمعنى مسموعهِ؛ لأنَّ المصدر قد جاء بمعنى المفعول مِثل: فلان أَمَلِي، بمعنى مأمولي، والمعنى: أنَّه لا يسمع إلَّا ذِكري، ولا يلتذُّ إلَّا بتلاوةِ كتابي، ولا يأنسُ إلَّا بمُناجاتي، ولا ينظرُ إلَّا في عجائبِ مَلكوتي، ولا يمدُّ يدَه إلَّا فيما فيهِ رضاي / ورِجلُه كذلك، قاله‼ الفاكهانيُّ. وقال الاتِّحاديَّة: إنَّه على حقيقتهِ، وإنَّ الحقَّ عينُ العبد مُحتجِّين بمجيءِ جبريل في صورةِ دِحيةً، وللشيخ قطب الدِّين القسطلانيِّ كتاب بديع في الرَّدِّ على أصحاب هذه المقالةِ أثابه الله. وعن أبي عثمان الحيريِّ أحد أئمَّة الصُّوفيَّة ممَّا أسندَه عنه البيهقيُّ في «الزُّهد» قال: معنى الحديث: كنتُ أسرع إلى قضاءِ حوائجهِ من سمعهِ في الاستماع، وعينهِ في النَّظر، ويده في اللَّمس، ورِجله في المشي (وَإِنْ سَأَلَنِي) زاد عبدُ الواحد: «عبدي» (لأُعْطِيَنَّهُ) ما سأل (وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي) بالنون بعد الذَّال المعجمة في الفرع كأصلهِ وبالموحدة في غيرهما (لأُعِيذَنَّهُ) أي: ممَّا يخافُ.
          وفي حديث أبي أُمامة عند الطَّبرانيِّ والبيهقيِّ في «الزُّهد»: «وإذا استنصرَني نصرتُه».
          وفي حديث حُذيفة عند الطَّبرانيِّ: «ويكون من أوليائِي وأصفيائِي، ويكون جاري مع النَّبيين والصِّدِّيقين والشُّهداء في الجنَّة» (وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ) أي: ما رددت رُسلي في شيءٍ أنا فاعلُه كترديدِي إيَّاهم في نفس المؤمن، كما في قصَّة موسى ◙ وما كان من لَطمه عين ملَكِ الموت وتردُّده إليه مرَّةً بعد أُخرى، وأضافَ تعالى ذلك لنفسه؛ لأنَّ تردُّدَهم عن أمرهِ (يَكْرَهُ المَوْتَ) لِمَا فيه من الألمِ العظيم (وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ) بفتح الميم والمهملة بعدها همزة ففوقية(10). وقال الجنيدُ: الكراهة هنا لِمَا يَلقى المؤمنُ من الموت وصعوبتهِ، وليس المعنى أنِّي أكره له الموت؛ لأنَّ الموتَ يُورده إلى رحمة الله تعالى ومغفرتهِ(11). وقال غيره: لمَّا كانت مُفارقة الرُّوح الجسدَ(12) لا تحصلُ له(13) إلَّا بألمٍ عظيمٍ جدًّا، والله تعالى يكرهُ أذى المؤمن أطلقَ على ذلك الكراهة، ويحتملُ أن تكون المساءةُ بالنِّسبة إلى طولِ الحياة؛ لأنَّها تؤدِّي إلى أرذلِ العمر، وتنكيسِ الخَلْق والرَّدِّ إلى أسفل سافلين، وفي ذلك دَلالةٌ على شرفِ الأولياء ورفعةِ منزلَتهم حتَّى لو تأتَّى أنَّه تعالى(14) لا يُذيقهم الموت الَّذي حتَّمه على عباده لفَعَلٍ، ولهذا المعنى ورد لفظ التَّردُّد، كما أنَّ العبد إذا كان له أمرٌ لابدَّ له أن يفعلَه بحبيبهِ لكنَّه يؤلمهُ فإن(15) نظرَ إلى أَلمه انكفَّ عن الفعل، وإن نظرَ إلى أنَّه لا بدَّ له منه لمنفعتهِ(16) أَقدم عليه، فيُعبّر عن هذه الحالة في قلبه بالتَّردُّد، فخاطب الله الخَلق بذلك على حسبِ ما يعرفون(17)، ودلَّهم به على شرفِ الوليِّ عندهُ ورفعة درجتهِ.
          وهذا الحديث في سندهِ خالد بن مخلدٍ القطوانيُّ، قال الذَّهبيُّ في «الميزان»: قال أبو داود: صدوقٌ، وقال أحمد: له مناكير، وقال أبو حاتم: يكتبُ حديثُه ولا يحتجُّ به، وقال ابنُ سعدٍ: منكر الحديثِ مفرطُ التَّشيُّع، وذكره ابن عُدي ثمَّ ساق له عشرة أحاديث استنكرها، وممَّا انفردَ به ما رواه البخاريُّ في «صحيحه» عن ابن(18) كرامةَ عنه. وذكر حديث الباب: «من عادى لي وليًّا...» إلى آخره، ثمَّ قال: فهذا حديثٌ غريبٌ جدًّا لولا هيبة «الجامع الصَّحيح» لعدُّوه في مُنكرات خالد؛ وذلك لِغرابة لفظه، ولأنَّه‼ ممَّا تفرَّد به شريكٌ وليس بالحافظ، ولم يُروَ هذا المتنُ إلَّا بهذا الإسناد، ولا خرَّجه من عدا البخاريِّ، ولا أظنُّه في «مسند أحمد». انتهى.
          وتعقَّبه الحافظُ ابن حجرٍ فقال: إنَّه ليس في «مسند أحمد» جزمًا، وإطلاق أنَّه لم يُروَ إلَّا بهذا الإسناد مردودٌ، و(19)بأنَّ شريكًا شيخَ شيخِ خالد فيه مقال أيضًا، لكن للحديثِ طُرقٌ يدلُّ مجموعها على أنَّ له أصلًا منها عن عائشة أخرجه أحمد في «الزُّهد» وابن أبي الدُّنيا وأبو نُعيم في «الحلية» والبيهقيُّ في «الزُّهد» من طريقِ عبد الواحدِ بن ميمون عن عروةَ عنها. وذكر ابنُ حبَّان وابن عديٍّ أنَّه تفرَّد به. وقد قال البخاريُّ: إنَّه مُنكر الحديث. لكن أخرجه الطَّبرانيُّ من طريق يعقوبَ بن مجاهدٍ، عن عروة، وقال: لم يروه عن عروةَ إلَّا يعقوب وعبد الواحد. ومنها عن أبي أمامة أخرجه الطَّبرانيُّ والبيهقيُّ في «الزُّهد» بسندٍ ضعيفٍ. ومنها عن عليٍّ عند الإسماعيليِّ في مسند عليٍّ. وعن ابن عبَّاسٍ أخرجه الطَّبرانيُّ وسندهُ ضعيفٌ. وعن أنسٍ أخرجه أبو يعلى والبزَّار والطَّبرانيُّ وفي سندهِ ضعف. وعن حذيفة أخرجه الطَّبرانيُّ مختصرًا وسنده حسنٌ غريبٌ. وعن معاذ بن جبلٍ أخرجه ابن ماجه وأبو نُعيم في «الحلية» مختصرًا وسنده ضعيفٌ أيضًا. وعن وهب بن منبِّه مقطوعًا أخرجه أحمد في «الزُّهد» / وأبو نُعيم في «الحلية». انتهى.
          ومناسبةُ الحديث للتَّرجمة تستفادُ من لازم قوله: «من عادى لي وليًّا» لأنَّه يقتضِي الزَّجر عن مُعاداة الأولياء المُستلزم لموالاتهِم، وموالاةُ جميع الأولياء لا تتأتَّى إلَّا بغايةِ التَّواضع؛ إذ منهم الأشعث الأغبر الَّذي لا يُؤبه له، أو أنَّ التَّقرُّب بالنَّوافل لا يكون إلَّا بغاية التَّواضع للهِ والتَّذلُّل له تعالى.


[1] في (د): «وطاعاته».
[2] في (د): «ما».
[3] في (د): «أوجب».
[4] لم يذكر الجواب، وفي الفتح: «وفي دخول ما أوجبه المكلف على نفسه نظر للتقييد بقوله: «افترضت عليه» إلا إن أخذ من جهة المعنى الأعم».
[5] في (ص): «بفتح».
[6] في (د): «الذي».
[7] في (ص): «كذا».
[8] في (ب) و(س): «العوفي».
[9] «أن»: ليست في (د).
[10] في (د): «فوقية».
[11] في (ع) و(ص) و(د): «معرفته».
[12] في (د): «للجسد».
[13] «له»: ليست في (د).
[14] في (د): «أن الله».
[15] في (د): «فإذا».
[16] في (د): «لمعرفته».
[17] في (د): «يعرفونه».
[18] هكذا في (ب) و(س) وهو الصواب، وفي الأصول الخطية: «أبي».
[19] «و»: ليست في (ص).