إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: لو يعطى الناس بدعواهم لذهب دماء قوم وأموالهم

          4552- وبه قال: (حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ نَصْرٍ) الجهضميُّ قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ دَاوُدَ) بن عامر الخُرَيبيُّ؛ نسبة إلى خُرَيبة _بالخاء المعجمة والموحَّدة مصغَّرًا_ محلَّةٌ بالبصرة كان سكنها(1)، وهو كوفيُّ الأصل (عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز (عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ) عبد الله: (أَنَّ امْرَأَتَيْنِ) لم يَعرف الحافظُ ابن حجر اسمَهما (كَانَتَا تَخْرِزَانِ) بفتح الفوقيَّة وسكون المعجَمة، وبعد الرَّاء المكسورة زايٌ معجمةٌ(2) من: خَرَز الخُفَّ ونحوه يَخْرُِزُه♣، بضمِّ الرَّاء وكسرها (فِي بَيْتٍ أَوْ فِي الحُجْرَةِ) بضمِّ الحاء المهملة وسكون الجيم وبالراء: الموضع المنفرد من الدَّار، وفي الفرع فقط: ”أو في الحِجْر“ بكسر الحاء وسكون الجيم وإسقاط الهاء، والشكُّ من الرَّاوي، وأفاد الحافظ ابن حجرٍ: أنَّ هذه رواية الأَصيليِّ وحده، وأنَّ رواية الأكثرين: ”في بيتٍ، وفي الحُجْرة“ بواو العطف، وصوَّبها وقال: إنَّ سبب الخطأ في رواية الأَصيليِّ أنَّ في السِّياق حذفًا بيَّنه ابن السَّكن في روايته؛ حيث جاء فيها: ”في بيتٍ، وفي الحُجْرة حُدَّاثٌ“ بضمِّ الحاء المهملة وتشديد الدَّال وآخره مثلَّثةٌ، أي: ناسٌ يتحدَّثون، قال: فالواو عاطفةٌ، لكنَّ المبتدأ محذوفٌ، ثمَّ قال: وحاصلُه أنَّ المرأتين كانتا في البيت، وكان في الحجرة المجاوِرة للبيت ناسٌ يتحدَّثون، فسقط المبتدأ من الرِّواية، فصار مُشكِلًا، فَعَدَل الرَّاوي عن الواو إلى «أو» التي للتَّرديد؛ فرارًا من استحالة كون المرأتين في البيت وفي الحجرة معًا. انتهى. وتعقَّبه العينيُّ: بأنَّ كون «أو» للشَّكِّ مشهورٌ في كلام العرب، وليس فيه مانعٌ هنا، وبأنَّ كون الواو للعطف غير مسلَّمٍ لفساد المعنى، وبأنَّه لا دلالة هنا على حذف المبتدأ، وكون الحجرة كانت مجاورةً للبيت فيه نظرٌ؛ إذ يجوز أن تكون داخلةً فيه، وحينئذٍ فلا استحالة في أن تكون المرأتان فيهما معًا. انتهى. فليتأمَّل ما في الكلامين مع ما في رواية ابن السَّكن من الزِّيادة(3) المشار إليها (فَخَرَجَتْ إِحْدَاهُمَا) / أي: إحدى المرأتين من البيت أو الحجرة، وفي(4) «المصابيح»: وللأَصيليِّ: ”فجُرِحَت“ بجيمٍ مضمومةٍ فراءٍ مكسورةٍ فحاءٍ مهملةٍ، مبنيًّا للمفعول (وَقَدْ أُنْفِذَ) بضمِّ الهمزة وسكون النُّون وبعد الفاء المكسورة ذالٌ مُعجَمةٌ، والواو للحال، و«قد»: للتَّحقيق‼ (بِإِشْفًى) بكسر الهمزة وسكون الشِّين المعجَمة وبالفاء المنوَّنة، ولأبي ذرٍّ: ”بإشْفَى“ بترك التَّنوين مقصورًا: آلة الخرز للإسكاف (فِي كَفِّهَا، فَادَّعَتْ عَلَى الأُخْرَى) أنَّها أنفذت الإشفى في كفِّها (فَرُفِعَ) _بضمِّ الرَّاء مبنيًّا للمفعول_ أمرُها(5) (إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ) ╠ (فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ رَسُولُ اللهِ(6) صلعم : لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ) أي: بمجرد إخبارهم عن لزوم حقٍّ لهم على آخرين عند حاكمٍ (لَذَهَبَ دِمَاءُ قَوْمٍ وَأَمْوَالُهُمْ) ولا يتمكَّن المدَّعى عليه من صون دمه وماله، ووجه الملازمة في هذا القياس الشَّرطيِّ: أنَّ الدَّعوى بمجرَّدها إذا قُبِلت فلا فرقَ فيها بين الدِّماء والأموال وغيرهما، وبطلان اللَّازم ظاهرٌ؛ لأنَّه ظلمٌ، ثمَّ(7) قال ابن عبَّاسٍ: (ذَكِّرُوهَا بِاللهِ) أي: خوِّفوا المرأة الأخرى المدَّعى عليها من اليمين الفاجرة وما فيها من الاستخفاف (وَاقْرَؤُوْا عَلَيْهَا) قوله تعالى: ({إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ}...[آل عمران:77]) الآية، والموعود عليه _حرمانُ الثَّواب، ووقوع العقاب من خمسة أوجُهٍ، وعدم الخلاق في الآخرة؛ وهو النَّصيب في الخير_ مشروطٌ بعدم التَّوبة بالإجماع، وعندنا: بعدم العفو أيضًا؛ لقوله تعالى: { إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء}(8)[النساء:48] وعدم الكلام عبارةٌ عن شدَّة السُّخط _نعوذ بالله منه_ فلا يُشكِل(9) بقوله: {لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ}(10)[الحجر:92] وقيل: لا يكلِّمهم كلامًا يُسِرُّهم، ولعلَّه أَولَى؛ لأنَّه تخصيصٌ، وهو خيرٌ من المجاز، وعدمُ النَّظر مجازٌ عن عدم المبالاة، والإهانة للغضب، يقال: فلان غيرُ منظورٍ لفلان، أي: غير ملتفتٍ إليه، ومعنى عدم التزكية: عدم التَّطهير من دَنَس المعاصي والآثام، أو عدم الثَّناء عليهم، والعذاب الأليم: المؤلم، ومن الجملة الاسميَّة يُستفاد دوامُه، قاله بعض المحقِّقين من المفسِّرين (فَذَكَّرُوهَا) بفتح الكاف جملةٌ ماضيةٌ، ولأبي ذرٍّ: ”فذكَّرها“ بالإفراد (فَاعْتَرَفَتْ) بأنَّها أنفذت الإشفى في كفِّ صاحبتها (فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ صلعم : اليَمِينُ عَلَى المُدَّعَى عَلَيْهِ) أي: إذا لم تكن بيِّنةٌ لدفع(11) ما ادُّعي به عليه، وعند البيهقيِّ بإسنادٍ جيِّدٍ: «لو يُعطى النَّاس بدعواهم؛ لادَّعى قومٌ دماء قومٍ وأموالهم، ولكنَّ البيِّنة على المدَّعي، واليمين على من أنكر»، نعم قد تُجعل اليمين في جانب المدَّعي في مواضع تُستَثنى لدليلٍ كالقسامة، كما وقع التَّصريح باستثنائها في حديث عمرو بن شعيبٍ(12) عن أبيه عن جدِّه عند الدَّارقطنيِّ والبيهقيِّ.
          وهذا الحديث قد مضى في «الرَّهن» و«الشَّركة» مختصَرًا [خ¦2514] [خ¦2515] وقد أخرجه بقيَّة الجماعة.


[1] في (د): «يسكنها».
[2] «معجمةٌ»: ليس في (د).
[3] في (د): «الرِّواية».
[4] في (د): «قال في».
[5] في (د): «أمرهما».
[6] في (ص): «النَّبيُّ».
[7] «ثمَّ»: ليس في (ص).
[8] { لِمَن يَشَاء}: مثبتٌ من (د).
[9] زيد في (د): «عليه».
[10] في (ج) و(ل): «ولنسألنَّهم».
[11] في (د): «لرفع».
[12] في (م): «سعد» وفي سائر النُّسخ: «سعيد»، وهو محرَّفٌ عن المثبت.