غاية المرام في رجال البخاري إلى سيد الأنام

بريرة بنت صفوان

          1525 # بَريرةُ بنتُ صَفْوانَ _قال(1) النَّوويُّ: وهي بفتح الموحَّدة، وكسر الرَّاء الأولى_ مولاة عائشة الصِّدِّيقة، كانت لبعض بني هلال، أو كانت لأبي أحمد(2) [ابن] جحش، أو لأناس من الأنصار.
          قال الكرمانيُّ(3) _في باب ذكر البيع والشِّراء(4) على المنبر في المسجد_: إنَّ بريرة كانت مولاة لعتبة بن أبي لهب. فكاتبوها، ثمَّ باعوها من عائشة، فأعتقتها. قالت عائشة: أردت أن أشتري بريرة، فأبى أهلها إلَّا أن يكون لهم الولاء، فقال صلعم: «اشترطي لهم الولاء، فإنَّ الولاء لمن أعتق».
          قلت: حديث بريرة تكرَّر في البخاريِّ بضعة وعشرين مرَّة، ولهذا اخترت ذكر بريرة في كتابي، وإن لم يكن البخاريُّ روى عنها في صحيحه، لكن كثر ذكرها فيه، وكان اسم زوجها مُغيثاً، فعتقت بريرة، وزوجها في الرِّقِّ على الأصحِّ، فخيَّرها رسول الله صلعم، فاختارت الفراق، وكان يمشي في طرق المدينة وراءها و [هو] يبكي، قال ابن عبَّاس: إنَّ مغيثاً زوج بريرة كان عبداً، كأنِّي أنظر إليه يطوف خلفها يبكي، ودموعه تسيل على لحيته، فقال النَّبيُّ صلعم: «ألا تعجبون من حبِّ مُغيثٍ بَريرةَ، ومن بغض بَريرةَ مغيثاً»؟ فاستشفع إليها(5) رسول الله صلعم، وقال: «لو راجعته»؟ فقالت: يا رسول الله، أتأمرني؟ قال: «إنَّما أتشفَّع(6) ». قالت: لا حاجة لي فيه، ولا أريده. قيل: إنَّ بريرة كانت قبطيَّة بيضاء، وكان مغيث أسود. وجعل رسول الله صلعم عدَّتها حين فارقها زوجُها عدَّة المطلَّقة، قال عبد الملك بن مروان: كنت أجالس بريرة بالمدينة، فكانت تقول لي: إنِّي أرى فيك خصالاً، وإنَّك لخليق أن تلي هذا الأمر، فإن ولِّيته فاحذر الدِّماء، فإنِّي سمعت رسول الله صلعم يقول: «إنَّ الرَّجل ليدفع عن باب الجنَّة بعد أن ينظر إليها بملء محجمة من دم يريقه من مسلم بغير حقٍّ».
          وعاشت بريرة إلى زمن يزيد بن معاوية.
          تنبيه:
          استشكل العلماء قوله لعائشة: «اشترطي لهم الولاء، فإنَّ الولاء لمن أعتق». وجه الإشكال أنَّ هذا تدليس وخداع، وكيف يشترط لشخص ما لا يصحُّ له؟ وحاشاه صلعم أن يدلِّس على مسلم(7) ، فأجاب الشَّافعيُّ ☺ أنَّ اللَّام هنا بمعنى على؛ لقوله تعالى: { وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } [الإسراء:7] أي اشترطي عليهم. وقال: إنَّما قال صلعم لعائشة ما قال؛ لأنَّه قد أعلمهم أنَّه لا يجوز هذا الشَّرط، فما كانوا يقبلون، فغضب صلعم، وقال: «اشترطي لهم الولاء، فإنَّما الولاء لمن أعتق». يعني الولاء لمن أعتق، ولا ينتقل منه إلى غيره، شرطت لهم أو لم تشترطي، فإنَّ الشَّرط الفاسد لا يعتدُّ به، ولهذا أكَّد كلامه بإنَّما، وبالجملة الاسميَّة، وحاصله: لا تبالي بالشَّرط، فإنَّه شرط باطل مردود، والحكمة في إذنه فيه، / ثمَّ إبطاله _مع أنَّه صلعم لا يأذن في باطل، ولا يأمر بالفحشاء_ أن يكون أبلغ في قطع إذنهم(8) في ذلك، كما أذن لهم في الإحرام في حجَّة الوداع، ثمَّ أمرهم بفسخه، وجعله عمرة؛ ليكون أبلغ في زجرهم عمَّا اعتاده من منع العمرة في أشهر الحجِّ، وقد يحتمل المفسدة اليسيرة ليحصل مصلحة عامَّة(9) . قاله الكرمانيُّ(10) .
          وقال بعضهم: هذا أمر وعيد، كقوله تعالى: { اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ } وقوله تعالى: { وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ } [التوبة:105] يعني ظاهره أمر، ومقصوده النَّهي، ولصعوبة ظاهر الحديث أنكر بعضهم _كيحيى بن أكثم القاضي أحد أعلام الدُّنيا_ هذا الحديث بجملته، فاستدلَّ على ما زعم بسقوط هذه اللَّفظة في كثير من الرِّوايات، لكنَّ الصَّحيح أنَّ الحديث صحيح، وذكره البخاريُّ في صحيحه بضعة وعشرين مرَّة، نعم في الحديث إشكال آخر، وهو أنَّه صلعم صحَّح الشِّراء(11) مع شرط الولاء، وجمهور العلماء أنَّ هذا الشَّرط يفسد العقد، ومنهم من قال بصحَّة العقد، كالغزاليِّ في وجيزه(12) ، فأجاب الكرمانيُّ(13) تبعاً لغيره أنَّه من خصائص عائشة، وهي قضيَّة عين، لا عموم لها.
          قال الرَّافعيُّ في الكبير(14) : في حديث بريرة إشكال، أفسدنا العقد أو صحَّحناه، وأفسدنا الشَّرط أو صحَّحناه؛ أمَّا إذا أفسدنا العقد أو الشَّرط فلإذنه في الشِّراء، واشتراط الولاء، وأمَّا إذا صحَّحناه فلخطبته بعد ذلك، وإنكاره على هذا الشَّرط؛ حيث قال: «ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله، كلُّ شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مئة شرط، (شرط) الله أوثق، وقضاء الله أحقُّ، والولاء لمن أعتق». قال: وكيف يجوز أن يأذن في الشَّيء، ثمَّ ينكر عليه ويبطله؟ قال: (إلَّا) أنَّ الصَّائرين إلى الإفساد لم يثبتوا الإذن في شرط الولاء، وقالوا: إنَّ هشاماً تفرَّد به، ولم يتابعه سائر الرُّواة عليه، فيحمل على وهم وقع له؛ لأنَّ النَّبيَّ صلعم لا يأذن فيما لا يجوز، وبتقدير الوهم، فقد تكلَّموا عليه من وجوه، لا نطوِّل بذكرها. هذا كلام الرَّافعيِّ، ⌂.
          قلت: وفيه إشكال آخر، وهو أنَّ بريرة كانت مكاتبة(15) ، وبيع المكاتب لا يجوز عندنا، خلافاً للإمام أحمد محتجًّا بهذا الحديث، وقال بعضهم: يجوز بيع المكاتب للعتق(16) ، لا للاستخدام، فإنَّ العتق لا ينافي مقتضى الكتابة، بدليل جواز إعتاق المكاتب(17) . والجواب أنَّها عجزت عن نفسها، ففسخ مواليها الكتابة، ثمَّ بيعت.
          تتمَّة:
          استشكل السُّبكيُّ(18) حديث تخيير مغيث، فقال: وأنا أعجب من قول ابن عبَّاس هذا (مع) ما جاء في قصَّة الإفك من قول عليِّ بن أبي طالب: سل الجارية تصدقك. وقوله صلعم: «أي بريرة». كذا في البخاريِّ وغيره في جميع طرق حديث الإفك، قال: واحتمال كون بريرة هذه بريرة أخرى بعيد، وقصَّة الإفك قبل الفتح بزمان طويل، وابن عبَّاس / إنَّما قدم المدينة بعد الفتح، وأبوه العبَّاس قبيل الفتح في فداء الأسارى. قال: فلعلَّ بريرة كانت تخدم عائشة قبل شرائها، أو أنَّها اشترتها، وتأخَّر عتقها إلى بعد الفتح، أو دام حزن زوجها عليها هذه المدَّة الطَّويلة، وأجمع أهل النَّقل على أنَّ النَّبيَّ صلعم خيَّرها، وأنَّها اختارت نفسها. قال البخاريُّ: رواية من روى أنَّ زوجها كان عبداً أصحُّ من رواية من روى أنَّه كان حرًّا.


[1] في (ن): (قاله).
[2] واسمه عبد الله، وهو أخ لزينب بنت جحش زوج رسول الله صلعم وما بين حاصرتين مستدرك من أسد الغابة:7/37.
[3] شرح البخاري:4/115.
[4] في (ن): (والشري).
[5] في غير (ن): (لها).
[6] في غير (ن): (أشفع).
[7] في (ن): (يدلس مسلما).
[8] في (ن): (قطع عادتهم).
[9] في (ن): (عظيمة).
[10] شرح البخاري:4/185.
[11] في (ن): (الشرى) وكذلك كل ما بعده.
[12] ينظر فتح العزيز شرح الوجيز للرافعي:8/147، ط دار الفكر.
[13] شرح البخاري:11/106، في باب بيع المكاتب.
[14] الشرح الكبير للرافعي:8/203.
[15] في (ن): (مكاتب).
[16] في غير (ن): (لعتق).
[17] في غير (ن): (المكاتبة).
[18] ذكر الاستشكال ابن حجر في الفتح:9/409 _والمصنف ينقل عنه_ في باب الشفاعة.