غاية المرام في رجال البخاري إلى سيد الأنام

جويرية بنت الحارث

          1526 # جُويريةُ بنتُ الحارِثِ بن أبي ضِرَار بن حَبيب _ينتسب إلى [مزيقيا] عمرو، وهو أبو خزاعة كلِّها_ الخزاعيَّة، المصطلقيَّة، أمُّ المؤمنين، سباها رسول الله صلعم يوم المُريسيع، سنة خمس، أو سنة ستٍّ، وكانت تحت ابن عمٍّ لها، اسمه مُسَافِع بن صَفْوان المُصْطَلقِيُّ، فوقعت في سهم ثابت بن قيس، أو ابن عمٍّ له، لمَّا قسم رسول الله صلعم سبايا بني المصطلق، فكاتبته على نفسها، وكانت امرأة حلوة مُلاحة، لا يراها أحد إلَّا أخذت بنفسه، فأتت رسول الله صلعم تستعينه في كتابتها، قالت عائشة: فوالله ما هو إلَّا أن رأيته(1) ا فكرهتها، وقلت: يرى منها ما قد رأيت. فلمَّا دخلت على رسول الله صلعم قالت: يا رسول الله أنا [جويرية](2) بنت الحارث سيِّد قومه، وقد أصابني من البلاء ما لم يَخْفَ عليك، وقد كاتبت على نفسي، فأعنِّي على كتابتي. فقال صلعم: «أو خير من ذلك»؟ قالت: وما هو؟ قال: «أؤدِّي عنك كتابتك وأتزوَّج بك». قالت: نعم. ففعل (رسول الله) صلعم، فبلغ النَّاس أنَّه تزوَّجها، فقالوا: أصهار رسول الله صلعم. فأرسلوا ما كان بأيديهم من الأسرى، ولقد أعتق بسببها مئة أهل بيت من بني المصطلق، فما أعلم امرأة أعظم بركة على قومها من جويرية.
          قال الواقديُّ: ويقال: إنَّ رسول الله صلعم جعل صداقها كلَّ أسير من قومها. ويقال: جعل صداقها عتق أربعين من قومها.
          وقال الطَّبريُّ _في السِّمْط الثَّمين(3)_: إنَّه صلعم اشتراها من ثابت، وأعتقها وتزوَّجها، وأصدقها أربعمئة درهم.
          قال ابن هشام(4) : ويقال: انصرف(5) رسول الله صلعم من بني المصطلق ومعه جويرية، فلمَّا كان بذات الجيش(6) دفع جويرية إلى رجل من الأنصار، وأمره بالاحتفاظ بها، وقدم صلعم المدينة، فأقبل أبوها الحارث بن ضرار بفداء(7) ابنته، فلمَّا كان بالعقيق نظر إلى الإبل التي جاء بها للفداء، فرغب في بعيرين منها، فغيَّبهما في شعب من شعاب العقيق، ثمَّ أتى إلى النَّبيِّ صلعم، فقال: يا محمَّد، أصبتم ابنتي، وهذا فداؤها. فقال صلعم: «فأين البعيران اللذان غيَّبتهما بالعقيق، في شعب كذا وكذا»؟ قال الحارث: أشهد أن لا إله إلَّا الله وأنَّك رسول الله، فوالله ما اطَّلع على ذلك أحد إلَّا الله. فأسلم الحارث، وأسلم معه ابنان له، وناس من قومه، وأرسل / إلى البعيرين، فجاء بهما، فدفع الإبل إلى النَّبيِّ صلعم، ودفعت إليه ابنته جويرية(8) ، فأسلمت وحسن إسلامها، فخطبها صلعم إلى أبيها، فزوَّجه إيَّاها(9) ، وأصدقها أربعمئة. قال: وكانت قبله عند ابن عمٍّ لها يقال له: عبد الله. وقال قتادة: تحت صفوان ابن أبي الشُّفْر(10) الخُزاعيِّ. قال ابن شهاب: سباها رسول الله صلعم يوم المريسيع، فحجبها، وقسم لها.
          قال ابن الأثير(11) : لمَّا تزوَّجها حجبها، وقسم لها، وكان اسمها برَّة، فسمَّاها جويرية، كره أن يقال: خرج من عند برَّة.
          قال الطَّبريُّ: ومثل ذلك في ميمونة، وزينب بنت جحش، وزينب بنت (أبي) سلمة، وكان اسم كلِّ واحدة منهنَّ برَّة، فحوَّله صلعم إلى هذه الأسماء.
          قال ابن إسحاق: تزوَّج صلعم جويرية بعد زينب بنت جحش، ومات صلعم ولم يصب منها ولداً.
          قالت جويرية: مرَّ عليَّ صلعم وأنا في مسجدي أسبِّح، وذلك غدوة، ثمَّ رجع قريباً من نصف النَّهار وأنا أسبِّح، فقال: «ما زلت على حالك»؟ قلت: نعم. قال: «ألا أعلِّمك كلمات تقولينها، لو عدلن بهنَّ لوزن بهنَّ، يعني جميع ما سبَّحت به: سبحان الله عدد خلقه ثلاثاً، سبحان الله رضا نفسه ثلاثاً، سبحان الله زنة عرشه ثلاثاً، سبحان الله مداد كلماته ثلاثاً».
          قال ابن سيِّد النَّاس اليعمريُّ(12) : كاتَبَ ثابت جويرية على تسع أواقٍ، فأدَّى صلعم عنها كتابتها وتزوَّجها.
          توفِّيت بالمدينة، في شهر ربيع الأوَّل، سنة ستٍّ وخمسين، وصلَّى عليها مروان بن الحكم، وهو أمير المدينة(13) ، وقد بلغت سبعين سنة؛ لأنَّه تزوَّجها بنت عشرين، وقيل(14) : توفِّيت سنة خمسين، عن خمس وستِّين سنة.
          روت عن رسول الله صلعم سبعة أحاديث.
          روى عنها أبو أيُّوب يحيى بن مالك.
          نقل عنها البخاريُّ بالواسطة، في كتاب الصَّوم [خ¦1986] .
          تكملة: في بيان غزوة المريسيع، وتسمَّى غزوة بني المصطلق، وكانت(15) في شعبان، يوم الإثنين، لليلتين خلتا منه، سنة خمس، أو أربع، أو ستٍّ.
          قال اليعمريُّ: بلغ النَّبيَّ صلعم أنَّ بني المصطلق تجمَّعوا [له] ، وقائدهم الحارث بن أبي ضرار، فخرج إليهم، حتَّى لقيهم على ماء يقال له: المريسيع. من ناحية قديد إلى السَّاحل، فتزاحف النَّاس واقتتلوا، فهزم الله بني المصطلق، وقتل من قتل منهم، ونفَّل، صلعم أبناءهم، ونساءهم، وأموالهم، فأفاء عليه، وكان بُريدة بن الحَصيب الأَسْلَميُّ يعلم ذلك، فأتاهم، ولقي الحارث وكلَّمه ورجع، فأخبر صلعم خبرهم، فندب النَّاس إليهم، فأسرعوا للخروج، وقادوا الخيل، وهي ثلاثون فرساً، في المهاجرين منها عشرة، واستخلف على المدينة زيد بن حارثة، أو أبا ذرٍّ الغفاريَّ، ويقال: نُميلة بن عبد الله. ومعه صلعم [فرسان] لِزَازٌ / والظَّرِبُ، وبلغ الحارث ومن معه مسير رسول الله إليهم، وأنَّه قتل عينه(16) الذي كان وجَّهه ليأتيه بخبر رسول الله صلعم، فسيء بذلك، وخافوا خوفاً شديداً، وتفرَّق عنهم من كان عندهم من العرب، وانتهى صلعم إلى المريسيع، وضرب قبَّته، ومعه عائشة، وأمُّ سلمة، فتهيَّؤوا للقتال، ودفع راية المهاجرين إلى أبي بكر، وراية الأنصار إلى سعد بن عبادة، فتراموا بالنَّبل ساعة، ثمَّ حمل الصَّحابة حمل رجل واحد، فما أفلت من بني المصطلق إنسان، وقتل عشرة منهم، وأسر الباقي، وسبى النِّساء والذُّرِّيَّة، وأمر بالرِّجال فكتِّفوا، واستعمل عليهم بريدة بن الحصيب، وأمر بالغنائم فجمعت، واستعمل عليها شُقْرانَ مولاه، وكانت الإبل ألفي بعير، والشَّاء(17) خمسة آلاف، والسَّبي مئتي بنت، ومدَّة الغيبة ثمانية وعشرين يوماً، وقدم لمستهلِّ رمضان، وقال نافع: أغار(18) رسول الله صلعم على بني المصطلق، وهم غارُّون، وأنعامهم تسقي، فقتل مقاتلتهم، وسبى نساءهم.
          قال ابن إسحاق: وقد أصيب من المسلمين هشام بن صُبَابة، أصابه رجل من الأنصار من رهط عبادة بن الصَّامت، وهو يرى أنَّه من العدوِّ، فقتله خطأ.
          قال ابن هشام: وكان شعار المسلمين [يومئذ] : يا منصور، أمت أمت. وقتل عليٌّ ☺ منهم رجلين، مالكاً وابنه. قال: وبعد ذلك بأزيد من عامين بعث إليهم [الوليد بن] عقبة مصدِّقاً، فخرجوا للقائه بالعُدَّة، فتوهَّم أنَّهم خرجوا للقتال، ففرَّ راجعاً، وأخبر رسول الله صلعم [بما ظنَّه، فهمَّ صلعم ] بقتالهم، فأنزل الله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا } الآية [الحجرات:6]
          قال محيي السُّنَّة(19) : وكان بين الوليد بن عقبة وبينهم عداوة في الجاهليَّة، فلمَّا سمع به القوم تلقَّوه تعظيماً لأمر رسول الله صعلم، فحدَّثه الشَّيطان أنَّهم يريدون قتله، فهابهم، فرجع، وقال: إنَّ بني المصطلق منعوا صدقاتهم، وأرادوا قتلي. فغضب صلعم لذلك، وهمَّ أن يغزوهم، فبلغ القوم رجوع عقبة، فأتوا رسول الله صلعم، فقالوا: يا رسول الله، سمعنا برسولك، فخرجنا نتلقَّاه ونكرمه، ونؤدِّي(20) إليه ما قبلنا من حقِّ الله، فبدا له في الرُّجوع، فخشينا أنَّه إنَّما ردَّه من الطَّريق كتاب جاءه منك لغضب غضبته علينا، وإنَّا نعوذ بالله من غضب رسول الله صلعم. فاتَّهمهم رسول الله صلعم، وبعث خالد بن الوليد إليهم في عسكر خفية، وأمره أن يخفي عليهم قدومه(21) ، فإن رأى منهم ما يدلُّ على إيمانهم يأخذ منهم زكاة أموالهم. قال: «وإن لم تر ذلك، فاستعمل فيهم ما تستعمل في الكفَّار». ففعل ذلك خالد، ووافاهم، فسمع أذان المغرب والعشاء، فأخذ صدقاتهم، ولم ير منهم إلَّا الَّطاعة والخير، فانصرف بالخبر(22) ، فأنزل الله تعالى الآية، وكانت قصَّة الإفك في هذه الغزوة، / وعلى المريسيع جرت القصَّة التي أنزل الله تعالى في شأنها: { إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ } [المنافقون:1] والله تعالى أعلم وأحكم.


[1] في (ن) تصحيفاً: (رأتها).
[2] ما بين حاصرتين من سيرة ابن هشام:2/294، وجاء في الأصول: (إلا أحدث بنفسه) والمثبت أعلاه هو كذلك في المصادر كلها، ومُلَّاحة بضم الميم وتشديد اللام معناه شديدة الملاحة، وهو من أبنية المبالغة، وقال الزمخشري: بتخفيف اللام، أي ذات ملاحة، وفعال مبالغة في فعيل، وفعَّال بالتشديد أبلغ منه. عمدة القاري شرح صحيح البخاري للعيني، والحديث في المسند، برقم (26365)، وإسناده حسن
[3] ص198.
[4] في السيرة:2/294.
[5] في (ن): (لما انصرف).
[6] هو اسم مكان على حدود حمى المدينة المنورة.
[7] في غير (ن): (يفدي).
[8] في غير (ن): (ودفعت ابنته جويرية إليه).
[9] في (ن): (فتزوجها) وبعدها بياض مقدار كلمة، والظاهر أنه تصحيف والمثبت هو الصواب.
[10] في (ن) تصحيفاً: (ابن أبي السير).
[11] أسد الغابة:7/57. وجاء في طبقات ابن سعد: صفوان ذو الشفر بن مالك، وفي تاج العروس(شفر): وذو الشفر بالضم: ابن أبي سرح بن مالك بن جذيمة، وهو مصطلقي خزاعي.
[12] عيون الأثر:2/387.
[13] في (ن) تصحيفاً: (أمير المؤمنين).
[14] في (ن) تصحيفاً: (وقد).
[15] في (ن): (وكان).
[16] في (ن) تصحيفاً: (عيينة).
[17] في (ن): (والشاة).
[18] في (ن): (غار).
[19] معالم التنزيل:7/339.
[20] في (ن) تصحيفاً: (ونؤدوا).
[21] في (ن) تصحيفاً: (قومه).
[22] في (ن): (بالخير) وكلاهما محتمل.