غاية المرام في رجال البخاري إلى سيد الأنام

عائشة بنت أبي بكر الصديق

          1543 # عائشة بنت أبي بكر الصِّدِّيق، الصِّدِّيقة بنت الصِّدِّيق، البريَّة المبرَّأة، أمُّ المؤمنين، حِبُّ النَّبيِّ صلعم وبنت حِبِّه، أمُّ عبد الله، القرشيَّة، التَّيميَّة، المكِّيَّة، ثمَّ المدنيَّة، أمُّها أمُّ رُومان بنت عامر، واسم أمِّ رومان زينب الفِرَاسيَّة، قاله الكرمانيُّ في باب تزويج عائشة بالنَّبيِّ صلعم(1) . [أسلمت، فهي صحابيَّة، وماتت في حياة النَّبيِّ، سنة ستٍّ من الهجرة، ودخل النَّبيُّ قبرها، واستغفر لها. قاله ابن الأثير(2) ] .
          تزوَّجها صلعم بكراً وهي بنت ستِّ سنين، ودخل بها وهي بنت تسع سنين، وأقامت معه تسع سنين، ومات عنها صلعم وهي بنت ثماني عشرة سنة، ولم يتزوَّج بكراً سواها، ولم تلد له، وقيل: ولد لها سِقْط، وسمِّي عبد الله، ولهذا كنِّيت بأمِّ عبد الله. والأصحُّ أنَّها كنِّيت [أمَّ] عبد الله بابن أختها أسماء عبد الله بن الزُّبير، مع أنَّ المرجَّح أنَّ التَّكنية ليس من شرطها أن يكون للمكنَّى ولد بذلك الاسم، بدليل قوله صلعم: «يا أبا عمير، ما فعل النغير»؟ وهو كنية لابن أبي طلحة، طفل صغير، ومات صغيراً.
          وتزوَّجها في شوَّال، قبل الهجرة بنحو سنة ونصف، وكانت تقول: دع ما تقول العوامُّ بكراهة التَّزوُّج بين العيدين، فإنَّه صلعم تزوَّجني في شوَّال، وبنى بي في شوَّال، [فأيُّ امرأة أخطر عنده منِّي صلعم ؟
          قال الكلاباذيُّ(3) : وبنى بها بعد منصرفه من بدر، في شوَّال]
سنة اثنتين من الهجرة. واختلفوا أنَّها أوَّل امرأة تزوَّجها بعد خديجة أَمْ سودة؟ وجمع بعضهم / بأنَّ عائشة أوَّل من تزوَّجها، وسودة أوَّل من دخل بها بعد خديجة.
          والأحاديث الواردة في فضلها كثيرة، واختلفوا في أنَّها أفضل (أم خديجة؟ مع اتِّفاقهم أنَّها أفضل أمَّهات المؤمنين، وأيضاً اختلفوا أنَّها أفضل أم) فاطمة؟ على أنَّهما تنازعا إلى رسول الله صلعم في الأفضليَّة، فقال: «يا فاطمة تبعثين يوم القيامة مع بعلك، وتبعث عائشة مع بعلها». أو كما قال صلعم، وهذه منقبة عظيمة دالَّة على أنَّها أفضل؛ لأنَّ مقام سيِّد الخلق أعلى وأجلُّ من مقام عليٍّ، وفضل كلِّ أحد على حسب مقامه من الله تعالى.
          وهي من المكثرين من الأحاديث، روت ألف حديث ومئتي حديث، وعشرة(4) أحاديث، للبخاريِّ منها مئتان وثمانية وعشرون حديثاً.
          روى عنها: ابنا أختها أسماء، عبد الله، وعروة ابنا الزُّبير، ومسروق، والأسود، والقاسم بن محمَّد ابن أختها، وأبو سلمة بن عبد الرَّحمن، ومجاهد، وعبيد الله بن عبد الله، وابن أبي مليكة، وسليمان بن يسار، وعكرمة، وعَمْرة(5) بنت عبد الرَّحمن، وصفيَّة بنت شيبة.
          نقل عنها البخاريُّ بالواسطة في مواضع، أوَّلها: في باب كيف كان بدء الوحي [خ¦2] ، من أوَّل الصَّحيح.
          وممَّا اجتمع لها من الفضائل أنَّها زوج رسول الله صلعم، وبنت خليفته، وتوفِّي في بيتها، ورأسه في صدرها، وجمع الله بين ريقه وريقها، ودفن في بيتها، وكان ينزل عليه الوحي وهو في فراشها بخلاف غيرها، ونزلت براءتها من السَّماء، وخلقت طيِّبة، ووعدت مغفرة، ورزقاً كريماً، ولم يتزوَّج بكراً سواها، وكانت أعلم النَّاس بالقرآن، وبالحديث، وبالشِّعر. قاله عروة.
          قال أبو موسى الأشعريُّ: ما أشكل على الصَّحابة شيء فسألناها عنه إلَّا وجدنا عندها منه علماً.
          قال القاسم (بن) محمَّد: استقلَّت عائشة بالفتوى زمن أبي بكر وعمر وعثمان فمن بعدهم.
          وكان صلعم قد عرض عليه صورتها في سَرَقة حرير في المنام [ثلاث ليال] لمَّا توفِّيت خديجة مراراً، فقال: «إن يكن من عند الله يمضه».
          قالت عائشة: لمَّا توفيت خديجة قالت خولة بنت حكيم، امرأة عثمان بن مظعون بمكَّة: أي رسول الله، ألا تتزوَّج؟ قال: «بكراً أم ثيِّباً»؟ قالت: إن شئت بكراً، وإن شئت ثيِّباً. قال: «فمن البكر»؟ قالت: ابنة أحبِّ خلق الله إليك، أبي بكر. قال: «ومن الثَّيِّب»؟ قلت: سودة بنت زمعة، آمنت بك، واتَّبعتك. قال: «فاذهبي فاذكريهما عليَّ» فجاءت فدخلت بيت أبي بكر، فوجدت أمَّ رُومان، فقالت: أي أمَّ رومان، ما أدخل الله عليكم من الخير والبركة؟ قالت: وما ذاك؟ قالت: أرسلني رسول الله صلعم أخطب عليه عائشة. قالت: وددت، فانتظري أبا بكر، فإنَّه آت. فجاء، فقالت / كما قالت لها، فقال: وهل تصلح له؟ إنَّما هي بنت أخيه. فرجعت إليه، وذكرت له ذلك، قال: «فارجعي إليه، وقولي له: أنت أخي في الإسلام، وابنتك تصلح لي». فأتت أبا بكر، وأعلمته، فقال: ادعي لي رسول الله صلعم. فأتاه فأنكحه إيَّاها. وقصَّة سودة مرَّت في ترجمتها.
          قال أنس بن مالك: قال صلعم: «فضل عائشة على النِّساء كفضل الثَّريد على سائر الطَّعام».
          قال عروة: وكان النَّاس يتحرَّون بهداياهم يوم عائشة، فاجتمعت صواحبها إلى أمِّ سلمة، فقلن: يا أمَّ سلمة، إنَّ النَّاس يتحرَّون بهداياهم يوم عائشة، وإنَّا نريد من الخير كما تريد عائشة، فمري رسول الله صلعم أن يأمر النَّاس أن يأتوه بهداياهم حيثما كان. فذكرت أمُّ سلمة ذلك، فأعرض عنها، فلمَّا عاد إليها ثانياً، ذكرت له، فأعرض عنها، فلمَّا كان الثَّالثة ذكرت له، فقال: «يا أمَّ سلمة، لا تؤذيني في عائشة، فإنَّه والله ما نزل الوحي [عليَّ] وأنا في فراش امرأة منكنَّ سواها».
          وقال صلعم يوماً لعائشة: «يا عائش، هذا جبريل يقرئك السَّلام». قالت: فقلت: وعليه السَّلام ورحمة الله وبركاته، ترى ما لا أرى.
          عن عمرو بن العاص أنَّ رسول الله صلعم استعمله على جيش ذات السَّلاسل، فأتيته، فقلت: يا رسول الله، أيُّ النَّاس أحبُّ إليك؟ قال: «عائشة». قلت: من الرِّجال؟ قال: «أبوها».
          قالت عائشة: إنَّ جبريل أتى النَّبيَّ صلعم بصورتي في خرقة حرير خضراء، وقال: «هذه زوجتك في الدُّنيا والآخرة».
          قال عمرو بن غالب: إنَّ رجلاً نال من عائشة عند عمَّار بن ياسر، فقال: اغرب مقبوحاً، أتؤذي حبيبة رسول الله صلعم ؟!
          وكان مسروق إذا روى عنها يقول: حدَّثتني الصِّدِّيقة بنت الصِّدِّيق، البريَّة المبرَّأة.
          وكان أكابر الصَّحابة يسألونها عن الفرائض، قال عطاء بن أبي رباح: كانت عائشة من أفقه النَّاس، وأحسن النَّاس رأياً في العامَّة. وقال عروة: ما رأيت أحداً أعلم بفقه، ولا بطبٍّ، ولا بشعر من عائشة.
          ولو لم يكن لعائشة من الفضائل إلَّا قصَّة الإفك لكفى بها فضلاً، وعلَّو مَحَلٍّ، فإنَّها نزل(6) فيها من القرآن ما يتلى إلى يوم القيامة.
          قال القاسم بن محمَّد: اشتكت عائشة، فجاء ابن عبَّاس، فقال: يا أمَّ المؤمنين، تقدمين على فرط صدق، على رسول الله صلعم، وعلى أبي بكر.
          قال (في أخلاق) عمر بن الخطَّاب ☺: أدِّبوا الخيل، وانتضلوا، وانتعلوا، وإيَّاكم و [أخلاق] الأعاجم، وأن تجلسوا على مائدة يشرب عليها الخمر، ولا يحلُّ لمؤمن ولا مؤمنة يدخل الحمَّام إلَّا بمئزر إلَّا من سقم، فإنَّ عائشة حدَّثتني أنَّ رسول الله صلعم قال _وهو على فراشي_: «أيُّما امرأة مؤمنة وضعت / خمارها على غير بيتها هتكت بينها وبين ربها».
          قلت: وقد مضى أنَّها تكنَّى أمَّ عبد الله بابن أختها. قالت عائشة: لمَّا ولد عبد الله بن الزُّبير أتيت به النَّبيَّ صلعم، فتفل في فيه، وكان أوَّل شيء دخل جوفه، وقال: «هو عبد الله، وأنت أمُّ عبد الله». فما زلت أكنَّى بها، وما ولدت قطُّ.
          وقال أبو معاوية: قالت عائشة: أتيت النَّبيَّ صلعم، فقلت: يا رسول الله، كنَّيت نساءك، فكنِّني، فقال: «تَكَنَّي بابن أختك، أنت أمُّ عبد الله».
          وكانت تسمَّى موفَّقة.
          عن ابن عبَّاس قال: قال صلعم: «من كان له فرطان من أمَّتي أدخله الله الجنَّة». قالت عائشة: فمن كان [له فرط من أمتك؟ قال(7) : «ومن كان له فرط من أمَّتي، يا موفَّقة». قالت: فمن لم يكن(8) ] له فرط من أمَّتك؟ قال: «فأنا فرط لأمَّتي، لم يصابوا بمثلي».
          وقال: «يا عائشة، أريتك في المنام ثلاث ليال، جاءني بك [الملك] في سرقة [من] حرير، فيقول: هذه امرأتك. فأكشفها، فإذا هي أنت، فأقول: إن يكن من عند الله يمضه».
          وقد مرَّ أنَّه كان بعد موت خديجة، وقال: «أتاني جبريل، وقال: إنَّ الله زوَّجك بابنة أبي بكر، ومعه صورة عائشة».
          قال في السِّمط الثَّمين: إنَّ المطعم بن عديٍّ كان قد ذكر عائشة على ابنه، فلمَّا خطبها صلعم واعتذر أنَّه أخوه، فذكَّرته أمُّ رومان أمر المطعم بن عديٍّ، قالت أمُّ رومان: والله ما أخلف أبو بكر وعداً قطُّ. قالت: فأتى أبو بكر المطعم، فقال: ما تقول في أمر هذه الجارية؟ فأقبل على زوجته، فقال: ما تقولين؟ فأقبلت على أبي بكر، وقالت: لعلَّنا إن أنكحنا(9) هذا الصَّبيَّ منك تُصْبه(10) إليك، وتدخله في دينك الذي أنت عليه. فأقبل أبو بكر عليه، وقال: ما تقول أنت؟ فقال: إنَّها لتقول ما تسمع. فقام أبو بكر، ليس في نفسه من الوعد شيء، ثمَّ ملَّكها من رسول الله صلعم، وأصدقها أربعمئة درهم. قالت عائشة: فلبثت سنتين، فلمَّا نزلنا المدينة نزلنا بالسُّنْح، في دار الحارث بن الخزرج. قالت: فإنِّي لأرجح بين عذقين، وأنا ابنة تسع، فجاءت أمِّي، فأنزلتني، ثمَّ مشت بي حتَّى انتهت بي إلى الباب، وأنا أنهج، فمسحت وجهي بشيء من ماء، وفَرَقَتْ جُميمةً كانت لي، ثمَّ دخلت بي على رسول الله صلعم، وفي البيت رجال ونساء، فقالت: هذه أهلك، فبارك الله لك فيها، وبارك لها فيك. فقام الرِّجال والنِّساء، فخرجوا، وبنى بي رسول الله صلعم، ولا والله ما نحر عليَّ جزور، ولا ذبحت شاة، ولكن جفنة كانت يبعث بها سعد بن عبادة إلى رسول الله صلعم إذا دار بين نسائه، فقد علمت أنَّه بعث بها. وفي رواية: ثمَّ أدخلتني الدَّار، فإذا نسوة من الأنصار في البيت، فقلن: على الخير والبركة، وعلى خير طائر. فأسلمتني إليهنَّ، / فأصلحن من شأني، فلم يرعني إلَّا رسول الله صلعم ضحىً، فأسلمتني إليهنَّ، وأنا يومئذ بنت تسع سنين.
          قالت عائشة: إنَّ رسول الله صلعم ذكر فاطمة، فتكلَّمت أنا، فقال: «أما ترضين أن تكوني زوجتي في الدُّنيا والآخرة؟» [قلت: بلى. قال: «فأنت زوجتي في الدُّنيا والآخرة».]
          قال أبو وائل: لمَّا بعث عليُّ عمَّاراً والحسن(11) إلى الكوفة ليستنفرهم خطب [عمَّار] ، فقال: إنِّي لأعلم أنَّها زوجته في الدُّنيا والآخرة، ولكنَّ الله ابتلاكم لتتَّبعوه أو إيَّاها.
          قالت عائشة: قلت يا رسول الله، من من أزواجك في الجنَّة؟ قال: «أما إنَّك منهنَّ».
          وقالت: قال رسول الله صلعم: «يا عائشة، إنَّه ليهوِّن عليَّ الموت [أني رأيتك](12) زوجتي في الجنَّة». وفي لفظ الحافظ(13) الدِّمشقيِّ: «ما أبالي بالموت منذ علمت أنَّك زوجتي في الجنَّة». وفي لفظ الحافظ السَّلفيِّ: «هوَّن عليَّ منيَّتي(14) أنِّي رأيت عائشة في الجنَّة». [وفي رواية: «لقد رأيت عائشة في الجنَّة،] كأنِّي أنظر إلى بياض كفَّيها، يهوِّن عليَّ بذلك عند موتي».
          قال في السِّمط الثمين: إنَّ فاطمة وعائشة اختصما، فقالت فاطمة: أنا خير منك، وأبي خير من أبيك. فقالت عائشة: أنا خير منك، وبعلي خير من بعلك. فأخبرت بذلك عائشة النَّبيَّ صلعم، فقال: «يا عائشة، أنت تحشرين مع بعلك، وفاطمة تحشر مع بعلها».
          قالت عائشة: كانت عندنا أمُّ سلمة، فجاء النَّبيُّ صلعم عند جنح اللَّيل، فذكرتُ شيئاً صنعه بيده، قالت: وجعل لا يفطن لأمِّ سلمة، فجعلت أومي إليه، حتَّى فطن. قالت أمُّ سلمة: أهكذا الآن، أما كانت واحدة منَّا عندك إلَّا في خلابة كما أرى؟ وسبَّتْ عائشةَ، فجعل ينهاها، فلم تنته، فقال لعائشة: «سبِّيها». فسبَّتْها حتَّى غلبتْها، فانطلقت أمُّ سلمة إلى عليٍّ وفاطمة، فقالت: إنَّ عائشة سبَّتها، وقالت لكم، (وقالت لكم). فقال عليٌّ لفاطمة: اذهبي إليه فقولي له: إنَّ عائشة قالت لنا، وقالت لنا. فأتته، فذكرت ذلك له، فقال [لها] صلعم: «إنَّها حِبَّةُ أبيك وربِّ الكعبة». فرجعت إلى عليٍّ، وذكرت له ذلك، فقال لها: أما كفاك الآن هذا يا أمَّ سلمة(15) ؟
          قال ذكوان _حاجب عائشة وعبدها_: جاء ابن عبَّاس يستأذن على عائشة في مرضها، وعند رأسها ابن أخيها عبد الله بن عبد الرَّحمن، فقلت: هذا ابن عبَّاس يستأذن. فقالت: دعني من ابن عبَّاس. فقال عبد الله: يا أمَّاه، إنَّ ابن عبَّاس من صالحي بَنِيْكِ، يسلِّم عليك، ويودِّعك. فقالت: ائذن له. فأدخلته، فلمَّا جلس، قال: أبشري، فما بينك وبين أن تلقي محمَّداً والأحبة إلَّا أن تخرج الرُّوح من الجسد، كنت أحبَّ نسائه صلعم، ولم يكن يحبُّ إلَّا طيِّباً.
          قالت عائشة: أمرني رسول الله صلعم أن أسترقي من العين. وعنها أنَّ / سودة لمَّا كبرت جعلت يومها لي، فقالت: يا رسول الله، جعلت يومي منك لعائشة، فكان يقسم لعائشة يومين، وكان صلعم إذا صلى العصر دخل على نسائه واحدة واحدة، وكان يختم بي، وكان إذا دخل عليَّ وضع ركبته على فخذي، ويديه على عاتقي، ثمَّ أكبَّ فانحنى عليَّ.
          قالت عائشة(16) : أرسلت أزواج النَّبيُّ صلعم فاطمة إليه، فاستأذنت عليه، وهو مضطجع معي في مُرْطِي، فأذن لها، فقالت: يا رسول الله، إنَّ أزواجك أرسلنني إليك، يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة. قالت: وأنا ساكتة، فقال لها: «أي بنيَّة، ألست تحبِّين ما أحبُّ»؟ فقالت: بلى. فقال: «أحبِّي هذه». فلما سمعت ذلك، قامت وأخبرت أزواجه بذلك، فقلن: ما نراك أغنيتِ عنَّا من شيء، فارجعي إليه، وقولي له: إنَّ نساءك ينشدنك العدل في ابنة أبي قحافة. قالت فاطمة: والله لا أكلِّمه فيها أبداً. فاستأذنت زينب بنت جحش على رسول الله صلعم _وهو مع عائشة في مُرْطها على الحالة التي كان عليها حين رأت فاطمة_ فأذن لها، فقالت: يا رسول الله، إنَّ أزواجك أرسلنني، إليك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة. قالت عائشة: ووقعت فيَّ، واستطالت، وأنا أرقب رسول الله صلعم، وأرقب(17) طرفه، هل يأذن(18) لي فيها، فلم تبرح زينب، حتَّى عرفت أنَّ رسول الله صلعم لا يكره أن أنتصر، فلمَّا وقعتُ بها لم (أنشبها) حتَّى أثخنتها، فقال صلعم: «إنَّها لابنة أبي بكر».
          وعن عائشة(19) قالت: ما علمت حتَّى دخلت عليَّ زينب بغير إذن، وهي غضبى، وعندي رسول الله صلعم، ثمَّ قالت: إنَّ حسبك إذا قَلَبَتْ(20) لك ابنة أبي بكر (ذُريعيها). ثمَّ أقبلت، فأعرضت عنها. حتَّى قال صلعم: «دونك فانتصري». فأقبلت عليها حتَّى رأيتها قد يبس ريقها في فمها، ما تردُّ شيئاً، فرأيته يتهلَّل وجهه (الشَّريف).
          قال في السِّمط الثمين: وسبب هذا أنَّ نساء النَّبيِّ صلعم كن حزبين، فحزب كان فيه عائشة، وحفصة، وصفيَّة، وسودة، والحزب الآخر سائر نسائه، وكان المسلمون قد علموا حبَّه لعائشة، فإذا كانت عند أحدهم هديَّة أخرها، حتَّى إذا كان يوم عائشة بعث به إليه في بيتها، فغرن من ذلك.
          وروى في السِّمط الثَّمين _نقلاً عن أبي محمَّد وابن السَّمَّاك_ أنَّ عائشة قالت: لم ينزل عليه القرآن منذ دخل عليَّ إلَّا في بيتي.
          قالت عائشة: لمَّا رأيت من النَّبيَّ صلعم طيب نفس قلت: يا رسول الله، ادع الله لي. فقال: «اللهم اغفر لعائشة ما تقدَّم من ذنبها وما تأخَّر، وما أسرَّت وما أعلنت». فضحكت عائشة حتَّى سقط رأسها في حجرها من الضَّحك، فقال لها: «أيسرُّك دعائي»؟ قالت: وما لي لا يسرُّني دعاؤك؟ / فقال: «إنَّها لدعائي لأمَّتي في كلِّ صلاة» أخرجه أبو حاتم(21) . وقال غيره: قالت عائشة: بأبي أنت وأمِّي يا رسول الله، ادع الله أن يغفر لي ما تقدَّم من ذنبي وما تأخَّر. قالت: فرفع يديه حتَّى رأيت بياض إبطيه، وقال: «اللهم اغفر لعائشة بنت أبي بكر مغفرة ظاهرة وباطنة، لا تغادر ذنباً، ولا تكتسب بعدها خطيئة ولا إثماً. [فقال:] أفرحت يا عائشة»؟ قالت: إي والذي بعثك بالحقِّ نبيًّا. فقال: «أما والذي بعثني بالحقِّ، ما خصصتك بها من بين أمَّتي، وإنَّها لدعائي لأمَّتي في اللَّيل والنَّهار، فيمن مضى منهم، ومن بقي(22) إلى يوم القيامة، وأنا أدعو لهم، والملائكة يؤمِّنون على دعائي».
          قلت: فيا سعادة هذه الأمَّة! وما أرى منقبة لهذه الأمَّة أعظم من دعاء نبيِّها(23) لهم وتأمين الملائكة، ولا أرجى لهم من هذا، ومع هذا، فليس هذا بأوَّل بركة في آل أبي بكر، رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، وحشرنا في زمرتهم.
          وقالت عائشة: إن كان صلعم يظلُّ صائماً، فيقبِّل أين شاء من وجهي، حتَّى يفطر.
          وأيضاً سئلت عائشة: أكان (رسول الله) صلعم يقبِّل وهو صائم؟ فضحكت، ثمَّ قالت: كان يقبِّل بعض نسائه وهو صائم. (كأنَّها) تعني نفسها، وفي رواية أنَّها قالت: كان يقبِّلني وهو صائم، وأيُّكم يملك إربه كما كان يملك إربه؟
          مسألة:
          أجمعوا على أنَّه صلعم قطُّ ما أتى محرَّماً، [بل] ولا مكروهاً، كيف وقد قال تعالى: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [الأحزاب:21] والحسنة يؤجر عليها، فلا تكون مكروهة، فضلاً عن الحرام، على أنَّا مأمورون بالائتساء، كما في هذه الآية(24) ، وبالاتِّباع، كما قال الله ╡: { إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ } [آل عمران:31] فإن قلت: صرَّح فقهاء الشَّافعيَّة بكراهة التَّقبيل للصَّائم، فكيف قبَّل صلعم وهو صائم؟ قلت: اختلف العلماء في أنَّ التَّقبيل للصَّائم هل هو مباح أم لا؟ فذهب الإمام أحمد إلى الإباحة مطلقاً بهذه الأحاديث، وبما(25) روي أنَّه سئل صلعم أيقبِّل الصَّائم؟ فقال: «سل هذه». وأشار إلى أمِّ سلمة، فأخبرت السَّائل أنَّه صلعم يفعل، فقال: يا رسول الله، إنَّ الله غفر لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر. فقال: «أما والله إنِّي لأتقاكم (لله)، وأخشاكم لله». وعن الإمام مالك روايتان(26) ، رواية ابن وهب: الإباحة مطلقاً، كمذهب الإمام أحمد، وفي رواية: إن كان شيخاً فهو مباح، وإلَّا فلا؛ لما روي موقوفاً على ابن عبَّاس أنَّه أرخص فيه للشَّيخ، وكره للشَّابِّ، وروى أبو داود أنَّ رجلاً سأل النَّبيَّ صلعم عن مباشرة للصَّائم، فرخَّص له، وأتاه آخر، فنهاه، فإذا الذي رخَّص له شيخ، والذي نهاه شابٌّ. وروى البيهقيُّ عن عائشة / أنَّ النَّبيَّ صلعم رخَّص في القبلة للشَّيخ وهو صائم، ونهى عنها الشَّابِّ، وقال: «الشَّيخ يملك إربه، والشَّابُّ يفسد صومه». وأمَّا الشَّافعيُّ، فمذهبه إن كان يخاف من التَّقبيل الوقوع في الوقاع أو إنزال المني، فذلك مكروه، وإلَّا فلا، واستدلَّ بأنَّه يجوز أن يستنبط من الدَّليل معنى يكون علَّة، والمعنى هو خوف الإفساد؛ بدليل أنَّه قال: «الشَّيخ يملك إربه، والشَّابُّ يفسد صومه». فعلمنا أنَّ الحكم دائر مع غلبة الشَّهوة وضعفها، ويدلُّ لذلك أيضاً ما روى جابر عن عمر، ☺، أنَّه قال: قبَّلت وأنا صائم، فأتيت النَّبيَّ صلعم، فقلت: قبَّلت وأنا صائم، قال: «أرأيت لو تمضمضت وأنت صائم»؟ فدلَّ على أنَّ مقدِّمة الفطر(27) ليس مفطِّراً، فكما أنَّ المضمضة مقدِّمة للشُّرب، وليس بمفطر، فكذلك القبلة مقدِّمة للجماع، وليس بمفطر، نعم، هل هذه الكراهة كراهة تحريم أو تنزيه(28) ؟ فصحح النَّوويُّ الأوَّل، وعدَّها صاحب المهذَّب والتَّهذيب من الصَّغائر، وعليه جماعة، وقال غيرهم: إنَّها للكراهة. والأحسن ما عليه بعض المتأخِّرين من التَّفصيل؛ أنَّه إن كان الصَّوم واجباً فهو حرام، وإلَّا فلا، فكيف والصَّائم المتطوِّع أمير نفسه؟ إن شاء صام، وإن شاء أفطر، وكيف يجوز الإفطار ويحرم مقدِّمته؟
          نكتة:
          عن عبد الله بن عمر قال: رأيت رسول الله صلعم في المنام، فرأيته ينظر إليَّ، فقلت: يا رسول الله، ما شأني؟ فالتفت إليَّ، وقال: ألست المقبِّل وأنت صائم؟ فوالذي نفسي بيده لا أقبِّل امرأة وأنا صائم ما بقيت.
          تتمَّة:
          عن أيُّوب السَّختياني قال: كنت مع ابن سيرين، فجاءه رجل، فقال: رأيت في المنام كأنِّي آكل الخبيص، وأنا في الصَّلاة. فقال: الخبيص حُلْوٌ، لَيِّن، وأكله في الصَّلاة لا ينبغي، لعلَّك تقبِّل وأنت صائم؟ فقال: نعم. قال: فلا تفعل.
          قال النُّعمان بن بشير: جاء أبو بكر يستأذن على النَّبيِّ صلعم، فسمع عائشة __ وهي رافعة صوتها على النَّبيِّ صلعم فأذن له، فدخل __ فقال: يا بنت أمِّ رومان، أترفعين صوتك على رسول الله صلعم؟ وتناولها، فحال صلعم بينها وبينه، فلمَّا خرج أبو بكر _╩_ جعل صلعم يرضيها، ويقول: «ألا ترين أنِّي دخلت بينك وبين الرَّجل». ثمَّ جاء أبو بكر __ فاستأذن عليه، فوجده يضاحكها، فقال: أشركاني في سِلْمكما كما أشركتماني في حربكما.
          قالت عائشة: كان بيني وبينه صلعم، فقال: «من ترضين أن يحكم بيني وبينك، أترضين بعمر بن الخطَّاب»؟ قلت(29) : لا، عمر فظٌّ غليظ. قال: «أرتضين بأبيك»؟ قلت: نعم. فبعث إليه، فأتى، فقال: «هذه من أمرها كذا، ومن أمرها كذا». فقلت: اتَّق الله، ولا تقل إلَّا حقًّا. فرفع@%ج1ص1221 أبو بكر يده، وكسر أنفي، وقال: أنت _لا أمَّ لك يا ابنة أمِّ رومان_ تقولين الحقَّ، وأبوك ورسول الله صلعم لا يقوله! قالت: فابتدر منخراي، كأنَّهما عَزْلاوان(30) ، فقال صلعم: «يا أبا بكر إنَّا لم نَدْعُك لهذا». وقام أبو بكر إلى جريدة في البيت، وجعل يضربني، فهربت منه، ولزقت بظهر النَّبيِّ صلعم، فقال: «أقسمت عليك يا أبا بكر إلَّا خرجت، فإنَّا لم ندعك لهذا». فلمَّا خرج قمت فتنحَّيت عنه، فقال: «ادني منِّي». فأبيت، فتبسَّم، وقال: «لقد كنت قبل هذا شديدة اللُّزوق بظهري».
          قالت عائشة: خرجت مع رسول الله صلعم في حجَّة الوداع، وخرج معه نساؤه، وكان متاعي فيه خفَّة، وكان عليَّ جمل ناج، وكان متاع صفيَّة بنت حيي فيه ثقل، وكان عليَّ جمل ثقيل بطيء، فقال: «حوُّلوا متاع عائشة على جمل صفيَّة، وحوُّلوا متاع صفيَّة على جمل عائشة؛ حتَّى يمضي الرَّكب». قالت عائشة: فلمَّا رأيت ذلك، قلت: يا لعباد الله، غلبتنا هذه اليهوديَّة على رسول الله صلعم. فقال: «يا أمَّ عبد الله، يعني عائشة وهذا كنيتها: إنَّ متاعك فيه خفَّة، ومتاع صفيَّة فيه ثقل، فأبطأ بالرَّكب؛ فلذا بدَّلنا». فقلت: ألست تزعم أنَّك رسول الله؟ فتبسَّم، وقال: «أوفي شكٍّ أنت يا أمَّ عبد الله»؟ قلت: فهلَّا عدلت. فسمعني أبو بكر، وكان فيه حدَّة، فأقبل عليَّ، ولطم وجهي، فقال: «مهلاً يا أبا بكر». فقال: يا رسول الله، أما سمعت ما قالت؟ قال: «إنَّ الغيرى لا تبصر أسفل الوادي من أعلاه».
          وقالت: قال رسول الله صلعم: «إنِّي لأعلم إذا كنت عنِّي راضية، وإذا كنت عليَّ غضبى». قالت: فقلت: من أين تعرف ذلك يا رسول الله؟ قال: «إذا كنت عنِّي راضية، فإنَّك تقولين: لا وربِّ محمَّد. وإذا كنت علي غضبى، قلت: لا وربِّ إبراهيم». قلت: أجل، ما أهجر إلَّا اسمك.
          قال جابر: أقبلنا مهلِّين بالحجِّ، وأقبلت عائشة مهلَّة بعمرة، حتَّى إذا كنا بِسَرِف عركت(31) عائشة، فدخل صلعم، فوجدها تبكي، فقال: «ما يبكيك»؟ قالت: حضت. قال: «هذا شيء كتبه اللهَ تعالى على بنات آدم، فاغتسلي، ثمَّ أهلِّي بالحجِّ». ففعلت، ووقفت المواقف كلَّها.
          قالت عائشة(32) : كان صلعم إذا خرج أقرع بين نسائه، فطارت القرعة على عائشة وحفصة، فخرجنا معه جميعاً، وكان صلعم إذا كان باللَّيل سار مع عائشة، فيتحدَّث معها، قالت حفصة لعائشة: ألا تركبين اللَّيلة على بعيري، وأركب بعيرك، فتنظرين وأنظر؟ قالت: بلى. فركبت عائشة على بعير حفصة، وحفصة على بعير عائشة، فأتى صلعم بعير عائشة، وعليه حفصة، فسلَّم وسار، حتَّى / نزلوا، فافتقدته عائشة، فغارت، فلمَّا نزلوا جعلت رجلها(33) بين الإذخر، وتقول: يا ربِّ سلِّط عليَّ عقرباً أو حيَّة تلدغني، وهذا رسولِكَ ولا [أستطيع أن] أقول له شيئاً.
          قالت عائشة: أعطاني (رسول الله) صلعم ناقة سوداء، كأنَّها فحمة، صعبة، لم تخطم. قالت: فمسحها، ودعا لها بالبركة، وقال: «اركبي وارفقي بها؛ فإنَّه لم يجعل الرِّفق في شيء إلَّا وزانه، ولم ينزع من شيء إلَّا وشانه». وفي رواية، قال: «عليك بالرِّفق؛ فإنَّ الله رفيق يحبُّ الرِّفق، ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف».
          ومن حشمة عائشة ولطافتها أنَّها افتخرت ببكارتها على سائر أمَّهات المؤمنين من غير تصريح، حيث قالت: يا رسول الله، أرأيت لو نزلتَ وادياً فيه شجر، قد أكل النَّاس منها، ووجدت شجرة لم يؤكل منها، في أيِّها كنت ترتع(34) ؟ قال: «في التي لم يرتع فيها». يعني أنَّه لم يتزوَّج بكراً سواها، وكان صلعم يحبُّ رضاها.
          قالت عائشة: كنت ألعب بالبنات عنده صلعم، وكان لي صواحب يلعبن معي، وكان إذا دخل يتقمَّعن، فيرسلهنَّ إليَّ، فيلعبن معي.
          قالت عائشة: أتيت رسول الله صلعم بحَريرة طبختها له، فقلت لسودة _وهو بيني وبينها_: كلِّي فأبت، فقلت: كلي وإلَّا لطَّخت وجهك. فأبت، فلطَّخت وجهها بالحريرة، فضحك النَّبيُّ صلعم، ووضع فخذه لها، وقال: «الطخي وجه عائشة». فلطَّخت وجهي، فضحك صلعم أيضاً. قاله المحبُّ الطَّبريُّ في السِّمط الثَّمين.
          وقالت(35) : دخل صلعم بيتي وعندي جاريتان (من الأنصار)، تغنيَّان بغناء بُعَاثَ، فاضطجع على الفراش، وحوَّل وجهه، فدخل أبو بكر، فانتهرني، وقال: مزمار الشَّيطان عند رسول الله صلعم ؟! فأقبل عليه صلعم وقال: «دعهما». فلمَّا غَفَلَ غمزتُهما فخرجتا، وكان يوم عيد، يلعب السُّودانُ بالدَّرَقِ والحِرَاب، فإمَّا سألتُ رسول الله، وإمَّا قال: «تشتهين أن تنظري»؟ فقلت: نعم. فأقامني وراءه(36) ، خدِّي على خدِّه، وهو يقول: «دونكم يا بني أَرْفِدَةَ(37) ». حتَّى إذا مَلِلْتُ، قال: «حسبكِ؟» قلت: نعم. قال: «فاذهبي». وفي رواية(38) أنَّه كان يسترني بردائه؛ لكي أنظر إلى لعبهم، ثمَّ يقوم من أجلي، حتَّى أكون أنا التي أنصرف، فاقدُروا قَدْرَ الجاريةِ الحديثةِ السِّنِّ، الحَريصةِ على اللَّهو.
          ومن فضائلها أنه صلعم بدأ بها حين نزلت عليه آية التَّخيير، فبادرت إلى اختيار الله ورسوله.
          قال جابر(39) : أقبل أبو بكر يستأذن على رسول الله صلعم، والنَّاس ببابه جلوس، فلم يؤذن له، ثمَّ أقبل عمر، فاستأذن، فلم يؤذن له، ثمَّ أذن لهما، فدخلا، وهو جالس، وحوله نساؤه، وهو ساكت، فقال عمر: / لأكلِّمنَّه، لعلَّه يضحك. فقال: يا رسول الله، لو رأيت ابنة زيد، امرأة عمر، سألتني النَّفقة آنفاً، فوجأت عنقها. فضحك صلعم حتَّى بدا ناجذه، وقال: «هنَّ حولي _كما ترى_ يا عمر يسألنني النَّفقة». فقام أبو بكر إلى عائشة ليضربها، وقام عمر إلى حفصة ليضربها، وكلاهما يقولان: تسألان رسول الله صلعم ما ليس عنده. فنهاهما عن ذلك، فقلن: والله لا نسأله بعد هذا المجلس ما ليس عنده. وأنزل الله تعالى آية التَّخيير، فبدأ بعائشة، وقال: «إنِّي أذكر لك أمراً، ما أحبُّ أن تعجلي فيه حتَّى تأتي أبويك». قالت: ما هو؟ فتلا عليها: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا } الآية [الأحزاب:28] فقالت: أفيك أستأمر(40) أبوي؟ بل أختار الله ورسوله، وأسألك أن لا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترت، فقال: «إنَّ الله لم يبعثني متعنِّتاً، ولكن بعثني معلِّماً مبشِّراً(41) ، لا تسألني امرأة منهنَّ شيئاً إلَّا أخبرتها». وفي رواية لمَّا قالت (له) ذلك فرح رسول الله صلعم وضحك، ثمَّ استقرأ الحُجَر، وقال: «إنَّ عائشة قالت كذا وكذا» فكلُّهنَّ قالت مثل ذلك.
          عن عروة أنَّ رسول الله صلعم كان يدور على نسائه في مرضه، ويقول: «أين أنا غداً، أين أنا غداً»؟ حرصاً على بيت عائشة، وقالت: فلمَّا كان يومي سكن، ثمَّ أذن له أزواجه أن يكون حيث شاء، فكان في بيت عائشة حتَّى مات عندها، [قالت:] فمات في اليوم الذي كان يدور عليَّ، فقبضه الله، وإنَّ رأسه لبين سَحْري ونَحْري، وخالط ريقه ريقي.
          قالت عائشة(42) : رجع صلعم من البقيع، وأنا أجد صداعاً في رأسي، فقلت: وارأساه. فقال: «بل أنا _والله يا عائشة_ وارأساه». ثمَّ قال: «وما ضَرَّك لو متِّ قبلي، فقمت عليك، وكفنتك، وصلَّيت عليك، ودفنتك»؟ فقلت: والله لكأنِّي بك، لو قد فعلت كذلك، لقد رجعت إلى بيتي فعرَّست(43) فيه ببعض نسائك، فتبسَّم، وتتام به وجعه، وهو يدور على نسائه، حتَّى استقر به وهو في بيت ميمونة، فدعى نساءه فاستأذنهنَّ أن يُمرَّض في بيتي، فأذنَّ له.
          قال الإمام أحمد(44) بن حنبل: كان للنَّبيِّ صلعم جار طيِّبَ المرق، فصنع له، ثمَّ جاء يدعوه، فقال: «وهذه يعني»؟ عائشة، فقال: لا. فقال رسول الله صلعم: «لا». ثمَّ عاد يدعوه، فقال: «وهذه»؟ قال: لا. فقال: «لا». ثمَّ عاد يدعوه، فقال: «وهذه». فقال: نعم. في الثَّالثة، فقاما يتدافعان، حتَّى أتيا منزله(45) .
          وكانت ترجِّل رسول الله صلعم وهو معتكف، وهي حائض، يدني إليها رأسه، وقالت: طيِّبته لإحرامه حين أحرم ولحِلِّه قبل أن يُفيض بأطيب ما وجدت.
          وقالت: كنت أغتسل أنا ورسول الله صلعم / من إناء واحد بيني وبينه، فيبادرني حتَّى أقول: دع لي، دع لي. ونحن جُنُبان.
          قالت: وكان يصلِّي على الفراش الذي ينام عليه، وأنا بينه وبين القبلة معترضة، فإذا سجد غمزني، فجمعت رِجْلَيَّ، وكان ينام معي في لحاف واحد، وأنا حائض، وعليَّ ثوب.
          قالت: وسابقني صلعم فسبقته، فلبثنا حتَّى إذا أرهقني اللَّحم، فسبقني(46) ، فقال: «هذه بتلك». وجعل يضحك.
          قالت: ودخل، فرأى كِسْرَةً ملقاة، فأخذها ومسحها، ثمَّ قال: «يا عائشة، أحسني جوار نعم الله، فإنَّها قلَّما نفرت عن أهل بيت فكادت ترجع إليهم». ذكره الطَّبريُّ.
          قال: أنس دخل رسول الله صلعم على عائشة وهي موعكة، فقال: «ما لي أراك هكذا»؟ قالت: بأبي أنت وأمِّي، الحمَّى. وسَبَّتْها، فقال: «لا تسبِّيها فإنَّها مأمورة، فإن شئت علَّمتك كلمات إذا قلتيهن(47) أذهبها الله تعالى عنك». قالت: نعم يا رسول الله. قال: «فقولي: اللهم ارحم جلدي الرَّقيق، وعظمي الدَّقيق(48) ، من شدَّة الحريق، يا أمَّ مِلْدَم، إن كنت آمنت بالله العظيم، فلا تصدِّعي عليَّ الرَّأس، ولا تغيِّري الفم، ولا تأكلي اللَّحم، ولا تشربي الدَّم، وتحولِّي عنِّي إلى من اتَّخذ مع الله إلهاً آخر». قالت: فقلتها، فذهبت عنِّي. قال السَّرخسيُّ(49) .
          قالت عائشة: دخلت عليَّ امرأة من الأنصار، فرأت فراش رسول الله صلعم [عباءة](50) مثنيَّة، فانطلقت، وبعثت بفراشٍ حشوه الصُّوف، فدخل صلعم فقال: «ما هذا يا عائشة»؟ فأخبرته، فقال: «ردِّيه». قالت: فلم أردُّه، وأعجبني أن يكون في بيتي؟ حتَّى قال ثلاث مرات، ثمَّ قال: «ردِّيه يا عائشة، فوالله لو شئت لأجرى الله معي جبال الذَّهب والفضَّة».
          قال المحبُّ الطَّبريُّ: أرشد صلعم عائشة إلى أنَّ الحِجْر من البيت، تكثيرًا(51) لحيازة ثواب الصَّلاة بالصَّلاة(52) فيه بما روت عائشة: كنت أحبُّ أن أدخل البيت فأصلِّي فيه، فأخذ صلعم بيدي، وأدخلني الحِجْر، وقال: «صلِّي في الحِجْر إذا أردت دخول البيت، فإنَّما هو قطعة من البيت، ولكنَّ قومك استقصروا حين بنو الكعبة، فأخرجوه من البيت». وفي الصَّحيحين(53) أن ستَّة أذرع من الحِجْر من البيت، وفي رواية سبعة أذرع.
          قالت عائشة(54) : لمَّا كانت ليلتي انقلب رسول الله صلعم فوضع نعليه عند رجليه، ووضع رداءه، وبسط طرف إزاره على فراشه، فلم يلبث إلَّا قدر ما ظنَّ أنِّي قد نمت، ثمَّ انتعل(55) رويداً، وأخذ رداءه رويداً، وفتح الباب، فخرج، وأجافه رويداً، فجعلت درعي في رأسي، ثمَّ تقنَّعت بإزاري، فانطلقت في أثره حتَّى أتى البقيع، فرفع يده ثلاث مرات، فأطال القيام، ثمَّ انحرف فانحرفت، فأسرع فأسرعت، فهرول فهرولت، فأحضر فأحضرت، فسبقته فدخلت، فليس إلَّا أن اضطجعت دخل، فقال: «ما لك يا عائشة»؟ قلت: لا شيء. /
           قال: «لتخبريني أو يخبرني اللَّطيف الخبير». فقلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، وأخبرته الخبر، قال: «أنت السَّواد الذي رأيت أمامي»؟ قلت: نعم. قالت(56) : فَلَهَزَني في صدري لَهْزَةً أوجعتني، ثمَّ قال: «أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله»؟ قلت: مهما يكتمِ النَّاس يعلمْه الله. (قال): «فإنَّ جبريل أتاني حين رأيت، ولم يكن يدخل عليك، وقد وضعتِ ثيابك، فناداني فأخفى(57) منك، فأجبته فأخفيت منك، وظننت أنَّك قد رقدت، وكرهت أن أوقظك، وخشيت أن تستوحشي، فأمرني أن آتي أهل البقيع وأستغفر لهم». قلت: كيف أقول، يا رسول الله؟ قال: «قولي: السَّلام على أهل الدِّيار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منَّا والمستأخرين، وإنا إنَّ شاء الله بكم لاحقون».
          قال أبو موسى: قال صلعم: «كَمَل من الرِّجال كثير، ولم يكمُل من النِّساء إلَّا مريمُ بنت عمران، وآسيةُ امرأة فرعون، وفضل عائشة على النِّساء كفضل الثَّريد على سائر الطَّعام».
          قال الطَّبريُّ: شهدت(58) أمَّ سلمة وصفيَّة أنَّ النَّبيَّ صلعم فضَّل عائشة عليهنَّ؛ بما روي عن الشَّعبيِّ، قال: أرسل زياد بن سميَّة مع عمرو بن الحارث بهدايا وأموال إلى أمَّهات المؤمنين، فأرسل إلى أمِّ سلمة وصفيَّة يعتذر إليهما بفضل(59) عائشة، فقالتا(60) : لئن فضَّلها لقد كان من هو أشدُّ علينا تفضيلاً منه يفضِّلها.
          قالت عائشة(61) : إنَّ رسول الله صلعم لمَّا فرغ من الأحزاب دخل المغتسل، فجاء جبريل، فقال: قد وضعت السِّلاح، وما وضعنا أسلحتنا بعد. فقالت عائشة: كأنِّي أنظر إلى جبريل من خلل الباب، قد عصب رأسَه الغبارُ. وفي رواية رأيت النَّبيَّ صلعم واضعاً يده على معرفة فرس دحية الكلبيِّ، وأنت تكلِّمه. قال: «أو رأيتيه»؟ قلت: نعم. قال: «ذاك جبريل، وهو يقرئك السَّلام». قالت: وعليه السَّلام، جزاه الله من صاحب ودخيل خيراً، فنعم الصَّاحب، ونعم الدَّخيل. وفي رواية(62) : وثب صلعم وثبة شديدة، فنظرت، فإذا رجل معه واقف على برذون، وعليه عمامة بيضاء سدل(63) طرفها بين كتفيه، ورسول الله صلعم واضع يده على مَعْرَفَةِ برذونه، فقلت: يا رسول الله، لقد راعتني وثْبَتُك، من هذا؟ فقال: «أرأيتيه». قلت: نعم. قال: «ومن رأيت»؟ قلت: دحية. قال: «ذلك جبريل».
          وعنها(64) بينا صلعم يصلِّي قائماً إذ رأيت رجلاً عليه كذا وكذا، لا أدري من هو؟ فأخبرت النَّبيَّ صلعم فلبس ثيابه وخرج إليه، فإذا هو جبريل، ◙، فقال: إنَّا لا ندخل بيتاً فيه كلب، ولا بول، ولا تماثيل. /
           فدخل صلعم ورمى به، فدخل [عليه] جبريل. خرَّجه ابن شاهين، وقد مضى أنَّ جبريل أقرأ السَّلام على عائشة.
          وقد صحَّ قول أُسيد بن حُضير ☺ في قصَّة التَّيمُّم: ما هذا بأوَّل بركتكم يا آل أبي بكر، والله ما نزل بكِ أمر قطُّ إلَّا جعل الله لك منه مخرجاً، وجعل للمسلمين فيه بركة، فجزاك الله خيراً، وكان هذا القول بمحضر [من] الصَّحابة، في حياة النَّبيِّ صلعم وعلمه، فأقرَّه، فهذا من أعظم مناقبها، وقد ذكرنا أنها من أكثرهم فقهاً وشعراً وطبًّا، وكان مسروق من أروى النَّاس للشِّعر، فسئل عن ذلك، فقال: ما روايتي في رواية عائشة؟ ما كان ينزل بها شيء إلَّا أنشدت شعراً(65) .
          وعنه أنَّه كان يقول لعائشة: يا أُمَّتاه، لا أعجب من فقهك، أقول: زوجة رسول الله، وابنة أبي بكر، ولا أعجب من علمك بالشِّعر وأيَّام النَّاس. أقول: ابنة أبي بكر، وكان أعلم النَّاس، ولكن أعجب من علمك بالطِّبِّ، كيف هو، ومن أين هو؟ قال: فضربت على منكبي، وقالت: أي عُرَيَّةُ، إنَّ رسول الله صلعم كان يسقم عند آخر عمره، فكانت وفود العرب تقدم عليه من كلِّ وجه، فتنعت له الأنعات، وكنت أعالجه، فمن ثَمَّ.
          قال الزُّهريُّ: لو جمع علم عائشة، وعلم جميع أمَّهات المؤمنين، وجميع النِّساء كان علم عائشة أكثر، وقد أنكرت على ابن عمر مسألة، فسكت، وهي: ما روى عروة بن الزُّبير(66) ، قال: كنت أنا وابن عمر مستندين إلى حجرة عائشة، وأنا أسمع صوتها بالسِّواك تَسنَنَّ. قال: فقلت: يا أبا عبد الرَّحمن، اعتمر رسول الله صلعم في رجب؟ قال: نعم. فقلت لعائشة: أي أمَّتاه، ألا تسمعين(67) ما يقول أبو عبد الرَّحمن؟ فقالت: يغفر الله له، ما اعتمر في رجبٍ قطُّ، وما اعتمر من عمرة إلَّا وأنا معه. وابن عمر يسمع ما قالت.
          وكانت من أزهد النَّاس وأكرمهم وأسخاهم، قال أيمن المكِّيُّ: دخلت على عائشة، وعليها درع قِطْريٌّ، ثمنه خمسة دراهم، فقالت: ارفع بصرك إلى جاريتي، أنظر إليها، فإنَّها تُزْهَى أن تلبسه في البيت. وقد كان لي منهنَّ درع على عهد رسول الله صلعم، فما كانت امرأة تزفُّ إلى زوجها بالمدينة إلَّا استعارته.
          قالت أمُّ ذَرَّةَ _وكانت تغشَى عائشة_: بعث (إليها) ابن الزُّبير بمال في غرارتين، قالت: أراه ثمانين ومئة ألف، فدعت بطبق، وهي يومئذ صائمة، فجلست تقسمه بين النَّاس، فأمست وما عندها من ذلك درهم، فلمَّا أمست قالت: يا جارية، هلمي فُطوري. فجاءتها بخبز وزيت، فقالت أمُّ ذَرَّة: أما استطعت أن تشتري ممَّا قسمت لنا بدرهم لحماً نفطر عليه؟ قالت: لا تعنِّفيني، لو كنت ذكَّرتيني(68) لفعلت. /
          قال عطاء بعث معاوية إلى عائشة بطبق من ذهب، فيه جوهر، قوِّم بمئة ألف، فقسمته بين أزواجه صلعم.
          قال عروة: رأيت عائشة تقسم سبعين ألفاً، وهي ترقع درعها، وكانت لا تمسك شيئاً، فما جاءها من رزق الله تصدَّقت به.
          وقال: ساقت عائشة بدنتين هدياً فضلَّتا، فأرسل إليها ابن الزُّبير بدنتين مكانهما، فوجدت البدنتين الأولتين، فنحرت الجميع، وقالت: هكذا السُّنَّة في البُدْن.
          وكانت من أورع النَّاس، فليس ذلك بديعاً منها، فإنَّها ابنة أبي بكر سيِّد الورعين ☻. قالت: جاء عمِّي من الرَّضاعة يستأذن عليَّ، فأبيت أن آذن له [حتَّى أستأذن رسول الله صلعم، قلت له: إنَّ عمِّي من الرَّضاعة استأذن عليَّ، فأبيت أن آذن له] . فقال: «فليلج عليك عمُّك» قلت: إنَّما أرضعتني المرأة، ولم يرضعني الرَّجل. قال: «إنه عمك، فليلج عليك» وهو أبو القعيس.
          وجاء ابن عبَّاس يستأذن عليها، فقالت: لا حاجة لي فيه. فقال عبد الله بن عبد الرَّحمن بن أبي بكر: ابن عبَّاس من صالحي(69) بنيك، جاء يعودك. فأذنت له، فدخل، فقال: يا أمَّاه، أبشري. فأثنى عليها، فقالت: دعني من ثنائك، فوالله لوددت أنِّي كنت نسياً منسيًّا.
          قالت عائشة(70) : (دخل عليَّ صلعم) بأسير، فلهوت بنسوة عندي حتَّى خرج الأسير، فقال: «مالك»؟ ودعا عليَّ، ثمَّ خرج، وأمر النَّاس بإحضار الأسير، فأحضر، فدخل _وعائشة تقلِّب يديها_ فقال: «ما لك»؟ فقالت: دعوت عليَّ يا رسول الله، وأنا أنتظر متى يكون، فقام ورفع يديه مَدَّاً، ثمَّ قال: «اللهم إنَّما أنا بشر، آسف وأغضب، كما يغضب البشر، فأيُّما مؤمن أو مؤمنة دعوت عليه بدعوة فاجعلها عليه زكاة وطهوراً».
          قال عوف بن مالك(71) : إنَّ عائشة حُدِّثَتْ أنَّ عبد الله بن الزُّبير قال في عطاء أُعْطَتْهُ عائشة: والله لتنتهينَّ عائشة أو لأحجُرنَّ عليها. فقالت: أو قال ذلك؟ قالوا: نعم. قالت: فلله عليَّ نذر أن لا أكلِّم ابن الزُّبير أبداً. فاستشفع ابن الزُّبير إليها حين طالت الهجرة، فقالت: والله، لا أشفِّع فيه أبداً. فلمَّا طال ذلك على ابن الزُّبير، كلَّم المِسْوَرَ بنَ مَخْرَمَةَ، وعبدَ الرَّحمن بنَ الأسَوْدِ بنِ عبدِ يَغُوْثَ، فقال: أنَشْدُكما الله لَمَا أدخلتماني(72) على عائشة، فإنَّها لا يحلُّ لها أن تَنْذُرَ قطيعتي. فاقبلا به مشتملين عليه بأرديتهما، حتَّى استأذنا على عائشة، فقالا: السَّلام عليك ورحمة الله وبركاته، أندخل(73) ؟ فقالت: ادخلوا. قالوا: كلُّنا؟ قالت: نعم. وهي لا تعلم أنَّ معهما ابن الزُّبير، فلمَّا دخلا، دخل ابن الزُّبير الحجاب، فاعتنق عائشة _وهي خالته_ وبكى(74) يناشدها، وطفق المسور وعبد الرَّحمن يناشدانها إلَّا ما كلَّمتيه، فقبلت منه، / ويقولان: إنَّ النَّبيَّ صلعم نهى عمَّا قد علمت من الهجرة، وأنَّه لا يحلُّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث. فلمَّا أكثروا عليها طفقت تذكِّرهما وتبكي، وتقول: إنِّي نذرت، والنَّذر شديد. فلم يزالا بها حتَّى كلمت ابن الزُّبير، وأعتقت في نذرها ذلك أربعين رقبة، وكانت تذكر نذرها بعد ذلك، فتبكي حتَّى تبل دموعُها خمارَها.
          وكانت تسرد الصَّوم، قال القاسم: ما كانت عائشة تفطر إلَّا يوم فطر أو أضحى. وعنه أنَّه كان إذا مرَّ ببيت عائشة سلَّم عليها، قال: فمررت يوماً، فإذا هي قائمة تسبِّح، وتقرأ: { فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ } [الطور:27] وتدعو، وتبكي، وتردِّدها، فقمت حتَّى مللت القيام، فذهبت إلى السُّوق لحاجتي ورجعت، فإذا هي قائمة كما هي، تصلِّي وتبكي.
          وكانت أشدَّ النَّاس حياء، قالت: كنت أدخل البيت الذي دفن فيه رسول الله صلعم وإنِّي واضعة ثوبي، وأقول: إنَّما هو زوجي وأبي. فلمَّا دفن عمر، والله ما دخلت إلَّا مشدودة عليَّ ثيابي، حياء من عمر.
          وقالت: والله ما رأيت العورة من رسول الله صلعم ولا رأى منِّي.
          وكانت تَغِير من أزواجه، قالت: خرج صلعم من عندي ليلة، فغِرْتُ عليه، فجاء، فرأى ما أصنع، فقال: «مالك يا عائشة؟ أَغِرْتِ»؟ قلت: وما لي لا يغار مثلي على مثلك؟ فقال: «وقد جاءك شيطانك». قلت: يا رسول الله، أمعي شيطان؟ قال: «نعم، ومع كل إنسان»، قلت: ومعك يا رسول الله؟ قال: «نعم، ولكنَّ ربِّي أعانني عليه حتى أسلم».
          وقالت: كان صلعم يحبُّ العسل والحلواء. وقد ذكرنا قصَّة نزول سورة التَّحريم. قالت عائشة: كنت أغار على اللائي وهبن أنفسهنَّ له صلعم، وكنت أقول: تهب المرأة نفسها. فلمَّا أنزل الله: { تُرْجِي مَن تَشَاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ } الآية [الأحزاب:51] قلت: ما أرى ربَّك إلَّا يسارع لك في هواك يا رسول الله.
          قالت أمُّ سلمة: إنَّها أتت بطعام في صحفة لها إلى رسول الله صلعم وأصحابه، فجاءت عائشة مؤتزرة بكساء، ومعها فِهْر، فكسرت به الصُّحفة(75) ، فجمع صلعم بين فلقتي الصُّحفة، وقال: «غارت أمُّكم». مرَّتين، ثمَّ أخذ صحفة عائشة، وبعث بها إلى أمِّ سلمة، وأعطى صحفة أمَّ سلمة عائشة، وعن عائشة: ما رأيت صانعة طعام مثل صفيَّة، أهدت إلى النَّبيِّ صلعم إناء فيه طعام، فما ملكت نفسي أن كسرته، فسألت النَّبيَّ صلعم عن كفَّارته، فقال: «إناء كإناء، وطعام كطعام».
          تنبيه:
          اعترض بعض المحقِّقين بأنَّ الصُّحفة متقوَّمة، فكيف عوَّضها بمثلها؟ فالجواب أنَّ الصُّحفتين كانتا لرسول الله صلعم، والإضافة إلى الزَّوجتين للاختصاص، لا للتَّمليك، وكان القصد تطييب خاطر صاحب المكسورة، أو المراد الرِّضا، وإذا / تراضيا فلا اعتراض.
          وكان النَّاس يتهيبون عائشة، حتَّى إنَّ مروان بن الحكم لمَّا كان متولِّياً على الحجاز من جهة معاوية، فخطب يذكر يزيد بن معاوية؛ لكي يبايع له بعد أبيه، فقال له عبد الرَّحمن بن أبي بكر: أتيتم بها هرقليَّة. وأبى من المبايعة، فقال مروان: خذوه. فدخل بيت عائشة، فلم يدخله أحد، ولم يقدروا عليه.
          وكان عندها البركة في طعام بقي عندها بعد وفاته صلعم، قالت عائشة: توفِّي رسول الله صلعم وعندنا شطر من شعير، فأكلنا منه ما شاء الله، ثمَّ قلنا للجارية: كيليه(76) . فكالته فلم يلبث أن فني، ولو كنَّا تركناه لأكلنا منه.
          فائدة:
          قولهم: أمُّ المؤمنين، قال الكرمانيُّ(77) : هو مقتبس من قوله تعالى { وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } [الأحزاب:6] . قال العلماء: أزواج النَّبيِّ صلعم أمَّهات المؤمنين في وجوب الاحترام، وتحريم النِّكاح، لا في جواز الخلوة والنَّظر، وتحريم بناتهن، وهل يقال لإخوتهن: أخوالهم. ولبناتهن: أخواتهم؟ وكذلك سائر القرابة، وهل يقال: إنَّهن أمَّهات المؤمنات؟ فيه خلاف مبني على الخلاف المعروف في أصول الفقه؛ أنَّ النِّساء يدخلن في خطاب الرِّجال. وعن عائشة أنَّها قالت: أنا أمُّ رجالكم، لا أمُّ نسائكم. قال الكرمانيُّ: وهل يقال للنَّبيِّ صلعم: أبو المؤمنين؟ الأصحُّ الجواز، ومعنى قوله تعالى: { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ } [الأحزاب:40] أي لصلبه، انتهى.
          مسألة:
          أمَّا قوله تعالى: { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ } أي لصلبه. قال الزَّمخشري(78) ، وتبعه النَّسفيُّ: إنَّ معنى الآية: لم يكن محمَّد أبا رجل منكم حقيقة، (حتَّى) يثبت بينه وبينه ما يثبت من الأب وولده من حرمة المصاهرة والنِّكاح، فإنَّ الآية نزلت في زيد وزوجته زينب بنت جحش، وكان صلعم قد تبنَّاه، فلمَّا طلَّقها تزوَّجها صلعم، وعيَّرها المنافقون، وقد مرَّت القصَّة في ترجمتها. قال: والمراد: من رجالكم البالغين، حتَّى لا يعترض بالحسن والحسين، فإنَّهما كانا دون البلوغ إذ ذاك، وبدليل قوله: { مِّن رِّجَالِكُمْ }، والرَّجل هو البالغ، على أنَّ المراد لصلبه، فلا يدخلان أيضاً، ولا يعترض بالطَّيِّب، والطَّاهر، والقاسم أولاده صلعم، فإنَّهم كانوا أمواتاً، ولم يبلغ أحد منهم.
          توفِّيت عائشة بالمدينة، وصلَّى عليها أبو هريرة، ودفنت بالبقيع، سنة ثمان وخمسين. قاله(79) الواقديُّ، وقال غيره: سنة سبع وخمسين. وأوصت أن تدفن بالبقيع مع صواحبها.
          قال أبو سعد في شرف النُّبوَّة: إنَّه قيل لعائشة: ندفنك مع رسول الله صلعم. فقالت: إنِّي أحدثت بعده، ادفنوني مع أخواتي. فدفنت بالبقيع. قاله المحبُّ الطَّبريُّ / في السِّمط الثَّمين، وقال أيضاً: عن ابن عبَّاس(80) [قال:] قال رسول الله صلعم: «أيَّتكنَّ صاحبة الجمل الأذنب _أي طويل الذَّنب_ يقتل حولها قتلى كثير، وتنجو بعدما كادت». قال أبو عمر: هذا من أعلام النُّبوَّة، وعاشت ستًّا وستِّين سنة، وكان أبو هريرة إذ ذاك خليفة مروان [بن الحكم] بالمدينة، [في] أيَّام معاوية، فلذا قدِّم في الصَّلاة عليها، ونزل قبرها عبد الله بن الزُّبير، وأخوه عروة، والقاسم بن محمَّد بن أبي بكر، وعبد الله بن عبد الرَّحمن بن أبي بكر.


[1] برقم (3894)، وقول الكرماني في شرح البخاري:15/107، وهو عنده برقم(3646).
[2] أسد الغابة:7/320.
[3] الهداية والإرشاد:2/837.
[4] في (ن): (وعشر).
[5] في (ن) تصحيفاً: (وعميرة).
[6] في (ن): (فإنها نزلت).
[7] سقطت كلمة (قال) من الأصول واستدركت لتمام المعنى.
[8] في غير (ن): (فمن ليس له).
[9] في (ن) تصحيفاً: (نكحنا).
[10] في (ن): (تصيبه).
[11] في (ن): (والحسين).
[12] في غير (ن): (أنك).
[13] هو ابن عساكر، ورواية الحافظ السلفي في سبل الهدى والرشاد للصالحي:11/169، وجاء في حديث تزويج عائشة، ♦، عند البخاري: فوُعِكْتُ فتمرَّق شعري، فَوَفَى جُمَيْمَةً، فأتتني أم رُومان، وإني لفي أُرجوحة... والأخبار السالفة مع ترجمة السيدة عائشة، ♦، في تاريخ دمشق لابن عساكر:3/196.
[14] في غير (ن): (ميتتي).
[15] الحديث في مسند أحمد، برقم (24986)، من مسند عائشة، وإسناده ضعيف، على نكارة في متنه، وقولها: صنعه بيده، أي مدَّ يده إليها.
قولها: لأم سلمة، أي لا يرى أن هذه أم سلمة، بل يرى أنها عائشة، وقولها: إلا في خِلابة، أي خديعة، فإن مَدَّ اليد، ثم الإعراض يشبه الخديعة.
[16] الحديث في صحيح مسلم، برقم (2442).
[17] في غير (ن): (وأراقب).
[18] في (ن): (هل أذن).
[19] الحديث في مسند أحمد، برقم (24620)، وإسناده حسن، وفيه: ذُريعتيها: تصغير ذراع.
[20] في (ن) تصحيفاً: (قبلت).
[21] صحيح ابن حبان، برقم (7111).
[22] في غير (ن): (ومن يبقى).
[23] في (ن): (من دعائه).
[24] في (ن) تصحيفاً: (الأمة).
[25] في (ن): (ومما).
[26] في غير (ن): (روايات).
[27] في غير (ن): (مقدمة المفطر).
[28] في غير (ن): (تنزيه أو تحريم).
[29] في غير (ن): (قالت) وكذلك الموضع بعده.
[30] عَزْلاوان: مفردها عَزْلاء، وهي مَصَبُّ الماء من القِرْبَة، والمعنى أنها نزفت دماً.
[31] في (ن): (فنزلت).
[32] الحديث في صحيح البخاري، برقم (5211)، وما بين حاصرتين منه. وجاء في غير (ن): (عن رسولك)
[33] في غير (ن): (رجليها) وفي (ن) قبلها بياض مقدار كلمة.
[34] في (ن): (ترعى).
[35] الحديث في البخاري، برقم (949)، و(950)، باب الحراب والدرق يوم العيد.
[36] في (ن) تصحيفاً: (ورائي).
[37] في (ن) تصحيفاً: (أرفرة).
[38] في صحيح مسلم، برقم (2101)، باب الرخصة في اللعب.
[39] مسند الإمام أحمد، برقم (14515)، وإسناده صحيح.
[40] في (ن): (تستأمر).
[41] في غير (ن): (ميسراً).
[42] مسند الإمام أحمد، برقم (25908)، وهو حديث حسن.
[43] في غير (ن): (فأعرست).
[44] المسند، برقم (12243)، وإسناده صحيح على شرط مسلم.
[45] في (ن): (منزلها).
[46] في (ن): (سابقني).
[47] في (ن): (إذا قلتهن).
[48] في (ن): (الرقيق).
[49] في غير (ن): (قاله) وجاء في (د): السرخسي، وأظنه (الشعبي).
[50] وما بين حاصرتين سقط من الأوصل واستدرك من تاريخ دمشق لابن عساكر:4/105، والخبر فيه.
[51] في غير (ن): (تكثراً).
[52] في (ن): (فالصلاة).
[53] في البخاري، برقم (1586)، ومسلم، برقم (1333).
[54] الحديث في المسند، برقم (25855).
[55] في (ن): (انتقل).
[56] في (ن): (قال).
[57] في غير (ن): (فأخفاه).
[58] في غير (ن): (شهد).
[59] في (ن): (لفضل).
[60] في غير (ن): (فقالت).
[61] المسند، برقم (26399)، وإسناده صحيح على شرط مسلم.
[62] الطبقات الكبرى لابن سعد:4/250، برقم (5461).
[63] سقطت (سدل) من الأصول واستدركت من الطبقات.
[64] سبل الهدى والرشاد للصالحي:11/176.
[65] كذا جعله من رواية مسروق عن عائشة، والذي في المصادر أنه عن عروة، فلذلك قالت له: (أي عُرَيَّة) بالصغير، والحديث في المسند، برقم (24380)، وإسناده صحيح.
[66] صحيح مسلم، برقم (1255)، باب بيان عدد عُمَر النبي صلعم وزمانهن، وفيه: (وهو معه) بدل (وأنا معه)، وهو الصواب.
[67] في (ن) تصحيفاً: (لا تسمعين).
[68] في غير (ن): (أذكرتيني).
[69] في غير (ن): (من صالح).
[70] الحديث في مسند الإمام أحمد، برقم (24259)، وإسناده صحيح، وجاء في أصولنا: (فلهيت)، والحديث أورده المصنف مختصراً، ولم يذكر بمَ دعا عليها؟ فليراجع.
[71] الحديث في صحيح البخاري، برقم (6073، 6074، 6075).
[72] في (ن): (دخلتماني).
[73] في غير (ن): (ندخل).
[74] في (ن): (وتبكي).
[75] في (ن): (الصحيفة).
[76] في (ن) تصحيفاً: (كليه).
[77] شرح البخاري:1/25، بتصرف.
[78] الكشاف:3/544.
[79] في (ن) تصحيفاً: (قال).
[80] الحديث في المصنف لابن أبي شيبة، برقم (38940)، 15/264، وفيه: الأَدْبَب، وضبطه ابن حجر في الفتح:13/55، فقال: بهمزة مفتوحة، ودال ساكنة، ثم موحدتين، الأولى مفتوحة، ومعناه: الكثير وَبَر الوجه، يقال بعير أدبُّ أزبُّ، فعلى هذا فإن ما ذهب إليه المصنف من أنه (الأذنب) وتفسيره بقوله: طويل الذنب، هو تصحيف. والحديث صحح إسناده ابن حجر والهيثمي، ورد ابن العربي في العواصم من القواصم:1/152، وقال البزار: لا نعلمه يروى عن ابن عباس إلا بهذا الإسناد.