غاية المرام في رجال البخاري إلى سيد الأنام

فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم

          1549 # فاطمة بنت محمَّد صلعم، سيِّدة نساء العالمين، ما عدا مريم بنت عمران.
          قال عليُّ بن أبي طالب: قال لي صلعم: «يا عليُّ، أتدري لم سمَّيت فاطمة؟ لأنَّ الله ╡ قد فطمها وذرِّيَّتها من النَّار يوم القيامة».
          وأمُّها خديجة، وكانت هي وأمُّ كلثوم أصغر بناته، واختلفوا في أيَّتهنَّ أصغر؟ وقيل: [بل] رقيَّة أصغر. قال ابن الأثير(1) : ولي فيه نظر؛ لأنَّه صلعم زوَّج رقيَّة من ابن أبي لهب، فطلَّقها / قبل الدُّخول بها، أمره أبواه بذلك، ثمَّ تزوَّجها عثمان، وهاجرت معه إلى الحبشة، فما كان ليزوِّج الصُّغرى ويترك الكبرى.
          وكانت فاطمة تكنَّى أمَّ أبيها، وكانت أحبَّ النَّاس إلى رسول الله صلعم، زوَّجها من عليٍّ بعد أحد، وقيل: تزوَّجها عليٌّ بعد أن ابتنى صلعم بعائشة بأربعة أشهر [ونصف، وكان عمرها يومئذ خمس عشرة(2) سنة وخمسة أشهر] ، وانقطع نسله صلعم إلَّا منها، فإَّن الذُّكور من أولاده ماتوا صغاراً، وأمَّا البنات؛ فإنَّ رقيَّة ولدت عبد الله من عثمان، فتوفِّي صغيراً، وأمَّا أمُّ كلثوم، فلم تلد، وأمَّا زينب، فولدت عليًّا، ومات صغيراً، وولَدتْ أُمامةَ، فتزوَّجها عليٌّ، ثمَّ بعده المغيرة بن نوفل، وقال الزُّبير: انقطع عقب زينب.
          وفاطمة هي أمُّ الحسن والحسين ومحسن وزينب، ولدت زينب في حياة النَّبيِّ صلعم، وكانت امرأة عاقلة لبيبة جزلة، زوَّجها عليٌّ من ابن أخيه عبد الله بن جعفر، فولدت له عليًّا، وعوناً الأكبر، وعبَّاساً، ومحمَّداً، وأمَّ كلثوم، وكانت مع أخيها الحسين لمَّا قتل، وحملت إلى الشَّام، وحضرت عند يزيد بن معاوية، وكلامها ليزيد حين طلب الشَّاميُّ أختها فاطمة بنت عليٍّ مشهور في التَّواريخ، وهو يدلُّ على عقل، وقوَّة جنان، قاله ابن الأثير في أسد الغابة، ♦.
          قال ابن إسحاق: حدَّثني من لا أتَّهم أنَّ رسول الله صلعم كان يغار لبناته غيرة شديدة، وكان لا يزوِّج بناته على ضرَّة.
          قال المسور بن مخرمة: سمعت رسول الله صلعم يقول على المنبر: «إنَّ بني هشام بن المغيرة(3) استأذنوني في أن يزوِّجوا ابنتهم عليَّ بن أبي طالب، فلا آذن، ثمَّ لا آذن، [ثمَّ لا آذن] ؛ إلَّا أن يريد ابن أبي طالب يطلِّق ابنتي ويتزوَّج ابنتهم، فاطمة بَضْعة منِّي يَريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها».
          قالت أمُّ سلمة: في بيتي نزلت { إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } [الأحزاب:33] فأرسل صلعم إلى فاطمة وعليٍّ والحسن والحسين، وأجلسهم، وحَوَّى عليهم عباءة، وقال: «اللهم هؤلاء أهل بيتي»، قالت أمُّ سلمة: فقلت: يا رسول الله، أما أنا من أهل البيت؟ قال: «بلى إن شاء الله».
          قال أنس بن مالك: إنَّ رسول الله صلعم كان يمرُّ ببيت فاطمة ستَّة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر، يقول: «الصَّلاة يا أهل بيت محمَّد { إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}»قالت عائشة: أقبلت فاطمة تمشي، كأنَّ مشيتها مشية رسول الله صلعم، فقال: «مرحباً بابنتي». وأجلسها عن يمينه، أو عن شماله، ثمَّ أسرَّ إليها حديثاً فبكت، ثمَّ أسرَّ لها حديثاً فضحكت، فقلت: ما رأيت كاليوم فرحاً أقرب من حزن. فسألتها عمَّا قال؟ فقالت: ما كنت لأفشي سرَّ رسول الله صلعم. / فلمَّا قبض سألتها عنه؟ فأخبرتني أنَّه أسرَّ إليها: «إنَّ جبريل كان يعارضني بالقرآن كلَّ سنة مرَّة، وإنَّه عارضني العام مرَّتين، وما أراه إلَّا قد حضر أجلي، وإنَّك أوَّل أهل بيتي لحوقاً بي، ونعم السَّلف أنا لك». فبكيت، فقال: «ألا ترضين أن تكوني سيِّدة نساء العالمين؟»( فضحكت ).
          وسئلت عائشة: أيُّ النَّاس كان أحبَّ إلى رسول الله صلعم ؟ قالت: فاطمة. قيل: من الرِّجال؟ قالت: زوجها؛ إن كان ما علمت صوَّاماً قوَّاماً(4) .
          قال عليٌّ: سألته صلعم أيُّنا أحبُّ إليك أنا أو فاطمة؟ قال: «فاطمة أحبُّ إليَّ منك، وأنت أعزُّ عليَّ منها».
          قال عليٌّ: قال صلعم لفاطمة: «إنَّ الله يغضب لغضبك، ويرضى لرضاك».
          قال ابن عبَّاس: إنَّ النَّبيَّ صلعم إذا قدم من سفر قبَّل ابنته فاطمة(5) .
          قال عليٌّ: دخل علي رسول الله صلعم وأنا نائم، فاستسقى الحسن أو الحسين، فقام صلعم إلى شاة لنَّا فحلبها، فدرَّت، فجاء الآخر، فنحَّاه، فقالت فاطمة: يا رسول الله، كأنَّه أحبُّهما إليك؟ قال: «لا، ولكنَّه استسقى هذا قبله». ثمَّ قال: «أنا وإيَّاك، [وهذين،] وهذا الرَّاقد في مكان واحد يوم القيامة».
          قال زيد بن أرقم: إنَّ رسول الله صلعم قال لعليٍّ وفاطمة والحسن والحسين(6) : «أنا حرب لمن حاربتم، وسلم لمن سالمتم».
          قال عليٌّ: سمعت رسول الله صلعم يقول: «إذا كان يوم القيامة، نادى مناد من وراء الحجاب: يا أهل الجمع، غضُّوا أبصاركم عن فاطمة بنت محمَّد حتَّى تمرَّ».
          قالت فاطمة: كان صلعم إذا دخل المسجد صلَّى على محمَّد وسلَّم، وقال: «ربِّ اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك». وإذا خرج صلَّى على محمَّد (وسلَّم)، وقال: «ربِّ اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب فضلك».
          وتوفِّيت بعد أبيها بستَّة أشهر، أو ثمانية أشهر، وقيل: عاشت بعده سبعين يوماً، [أو مئة] . وما رؤيت ضاحكة بعد وفاته قطُّ؛ حتَّى لحقت بالله، ووجدت عليه وجداً عظيماً. قال أنس: قالت لي فاطمة: يا أنس، كيف طابت قلوبكم، تحثون التُّراب على رسول الله صلعم؟ ولمَّا حضرها الوفاة، قالت لأسماء بنت عميس: يا أسماء، إنِّي قد استقبحت ما يصنع بالنِّساء، يطرح على المرأة الثَّوب فيصفها. فقالت أسماء: يا ابنة رسول الله، ألا أريك شيئاً رأيته بأرض الحبشة؟ فدعت بجرائد رطبة، فنحتتها، ثمَّ طرحت عليها ثوباً، فقالت فاطمة: ما أحسن هذا وأجمله! فإذا متُّ فاغسليني أنت وعليٌّ، ولا تدخلي عليَّ أحداً. فلمَّا توفِّيت جاءت عائشة فمنعتها أسماء، فشكتها عائشة إلى أبي بكر، وقالت: هذه الخثعميَّة تحول بيننا وبين بنت رسول الله صلعم.
           فوقف / أبو بكر على الباب، وقال: يا أسماء، ما حملك على أن منعت أزواج النَّبيِّ صلعم أن يدخلن على بنت رسول الله؟ وكانت قد صنعت لها هودجاً، فقالت: هي أمرتني أن لا أدخل عليها أحداً، وأن أصنع لها ذلك. فقال: فافعلي ما أمرتك. وغسَّلتها(7) أسماء وعليٌّ، وهي أوَّل من غطِّي نعشها(8) في الإسلام، ثمَّ زينب بنت جحش، وصلَّى عليها عليُّ بن أبي طالب، وقيل: العبَّاس. [وأوصت أن تدفن ليلاً، ففعل ذلك، ودخل قبرها عليٌّ والعبَّاس] وابنه الفضل. وعاشت ثلاثين سنة، أو خمساً وثلاثين، وقال ابن الأثير(9) : كان عمرها تسعاً وعشرين سنة. وعلى الأقوال كلِّها، تباين ما ذكرنا أوَّلاً عن ابن الأثير أنَّ عليًّا تزوَّجها بعد أحد، وعمرها خمس عشرة سنة، فإنَّه يكون عمرها حينئذ نحو خمس وعشرين سنة. فتأمَّل، وروي أنَّها اغتسلت لمَّا حضرها الوفاة وتكفَّنت، وأمرت عليًّا أن لا يكشفها إذا توفِّيت، وأن يدرجها في ثيابها كما هي، ويدفنها ليلاً، لكن الصَّحيح _كما قال ابن الأثير_ أنَّ عليًّا وأسماء غسَّلاها، كما ذكرنا أوَّلاً.
          قال في الرَّوض الفائق: ولقد طلب فاطمة أبو بكر وعمر فقال صلعم: «أمرها إلى الله تعالى». ثمَّ إنَّ أبا بكر وعمر وسعد بن معاذ كانوا جلوساً في المسجد، فتذاكروا أمر فاطمة، فقال أبو بكر: قد خطبها الأشراف، فردَّهم، وقال: «أمرها إلى الله». وإنَّ عليًّا لم يخطبها، ولا أرى يمنعه من ذلك إلَّا قلَّة ذات اليد، وإنَّ الله ورسوله إنَّما يحبسانها من أجله. ثمَّ أقبل أبو بكر عليهما، وقال: هل لكما أن نأتي إلى عليٍّ فنذكر له أمرها؟ فإن منعه من ذلك قلَّة ذات اليد واسيناه. فأتوا عليًّا، فرأوه ينضح الماء على نخل رجل من الأنصار بأجرة، فقال: ما وراءكم؟ فقالوا: يا أبا الحسن، إنَّه لم يبق خصلة من خصال الخير إلَّا ولك فيها سابقة، وقد خطب الأشراف فاطمة، وفوَّض صلعم أمرها إلى الله، فما منعك(10) ألا تخطبها؟ وإنَّا نرجو(11) أنَّه إنَّما يحبسها لأجلك. فتغرغرت عينا عليٍّ بالدَّمع، وقال: لقد هيَّجتم لي ساكناً، ووالله إنَّ لي فيها لرغبة، ويمنعني من ذلك قلَّة ما في اليد. فقال أبو بكر: لا تقل ذلك، فإنَّ الدُّنيا عنده هباء منثوراً. ثمَّ أقبل عليٌّ إلى رسول الله صلعم، فوجده عند أمِّ سلمة، فطرق الباب، فقالت: من بالباب؟ فقال صلعم: «هذا رجل يحبُّ الله ورسوله، ويحبُّه الله ورسوله، فافتحي له». فقالت: فداك أبي وأمِّي، من هو؟ قال: «هذا أخي، وأحبُّ الخلق إليَّ». قالت: فقمت مبادرة، أكاد أعثر في مُرْطِي، ففتحت الباب، فإذا بعليِّ بن أبي طالب، فوالله ما دخل عليٌّ حتَّى علم أنِّي رجعت إلى خدري، فدخل فسلَّم، فجلس وجعل يطرق إلى الأرض، كأنَّه طالب حاجة يستحي أن يسألها، فقال ◙: / «أَبْدِ ما في نفسك، وكلُّ حاجتك مقضيَّة». فقال: فداك أبي وأمِّي، أنت تعلم أنَّك أخذتني من عمِّك، وأنَّ الله تعالى قد هداني بك، واستنقذني عمَّا كان عليه آبائي وأجدادي(12) من الشِّرك، وأنَّك ذخري ووسيلتي في الدُّنيا والآخرة، وقد أحببت مع ما شدَّ الله تعالى به عضدي أن يكون لي بيت وزوجة أسكن إليها، وقد أتيتك خاطباً. فتهلَّل وجهه صلعم، ثمَّ تبسَّم في وجه عليٍّ، وقال: «هل معك شيء تصدقها»؟ قال: ما يخفى عليك أمري، ما أملك إلَّا درعي وسيفي وناضحي. فقال: «أمَّا سيفك فلا غنى لك عنه، تجاهد به في سبيل الله، وأمَّا ناضحك فتكتسب عليه لأهلك، ولكن أزوِّجك على درعك». وكانت تساوي أربعمئة درهم، ثمَّ قال: «أبشر يا عليُّ، فإنَّ الله قد زوَّجك بها في السَّماء قبل أن أزوِّجك بها في الأرض، ولقد هبط عليَّ ملك من السَّماء قبل أن تأتيني، لم أر مثله في الملائكة، بوجوه شتَّى، وأجنحة شتَّى، فسلَّم عليَّ، وقال: أبشر باجتماع الشَّمل، وطهارة النَّسل. فقلت: وما ذاك؟ فقال: يا محمَّد، اسمي استطابيل، الملك الموكَّل بإحدى قوائم العرش، سألت الله تعالى أن يأذن لي ببشارتك، وهذا جبريل على أثري يخبرك عن ربِّك بكرم الله تعالى. فما استتمَّ كلامه حتَّى هبط جبريل، فسلَّم، ووضع في يده حريرة بيضاء، فيها سطران مكتوبان بالنُّور، فقال: ما هذه الخطوط؟ قال: إنَّ الله قد اطَّلع إلى الأرض اطِّلاعة، فاختارك من خلقه، وبعثك برسالته، ثمَّ اطَّلع ثانية، فاختار لك منها أخاً ووزيراً، وصاحباً وحبيباً، فزوِّجه ابنتك فاطمة، وهو عليُّ بن أبي طالب، وإنَّ الله تعالى أوحى إلى الجنان أن تتزخرف، وإلى الحور أن تتزيَّن، وإلى شجرة طوبى أن تحمل الحلي والحلل، وأمر الملائكة أن تجتمع في السَّماء الرَّابعة عند البيت المعمور، وهبطت ملائكة الصَّفح الأعلى، وأمر الله تعالى رضوان أن ينصب منبر الكرامة على باب البيت المعمور، وهو المنبر الذي خطب عليه آدم __ حين علَّمه الله الأسماء، وأمر ملكاً من ملائكة الحجب، يقال له: راحيل. فعلا المنبر، وحمد الله، وأثنى عليه بما هو أهله، فارتجَّت السَّماء فرحاً. قال جبريل: وأوحى ربُّك إلي أن اعقد عقدة النِّكاح بينهما. ففعلت، وأشهدت الملائكة على ذلك، وكتبت شهادتهم في هذه الحريرة، وأمرني ربِّي أن أعرضها عليك، وأختمها بخاتم مسك أبيض، وأدفعها إلى رضوان خادم الجنان، وأمر الله تعالى شجرة طوبى أن تنثر ما فيها من الحلي والحلل، فنثرت، والتقطه الحور العين والملائكة، وإنَّهم ليهادونه إلى يوم القيامة، وأمرني أن أبشِّرك بغلامين نجيبين، خيِّرين في الدُّنيا والآخرة». قال صلعم: «فوالله يا عليُّ، ما عرج الملك حتَّى طرقت الباب، ألا وإنِّي / منفذ فيك أمر ربِّي، فاذهب فإنِّي ذاهب إلى المسجد، ومزوِّجك على رؤوس النَّاس، وذاكر (من) فضلك ما تقرُّ به عينك». قال عليٌّ: فخرجت، ولا أعقل من الفرح، فاستقبلني أبو بكر وعمر، فقالا: ما وراءك؟ فأخبرتهما الخبر، ففرحا ودخلا المسجد، فوالله ما توسطنا حتَّى دخل صلعم يتهلَّل وجهه سروراً، فقال: «يا بلال، اجمع المهاجرين والأنصار». فانطلق بلال، وجلس صلعم قريباً من منبره، فاجتمع النَّاس، فرقي المنبر، وحمد الله تعالى، وأثنى عليه، فقال: «يا معشر المسلمين، إنَّ جبريل أتاني، فأخبرني أنَّ الله أشهد عند البيت المعمور أنَّه زوَّج أمته فاطمة ابنتي من عبده عليٍّ في السَّماء، وأمرني أن أزوِّجه في الأرض، وأشهدكم على ذلك». ثمَّ جلس، وأمر عليًّا فخطبها(13) ، ثمَّ زوَّجها منه على درعه بأربعمئة درهم، ثمَّ انصرف إلى منزله، وأمر أمَّهات المؤمنين أن يأتين فاطمة، ففعلن، وضربن على رأسها بالدُّفوف، قال عليٌّ: فأخذت الدِّرع، وذهبت به إلى السوق، وبعته بأربعمئة درهم من عثمان، فأقبضني الثَّمن، وقبض الدِّرع، فقال: يا عليُّ، ألست الآن أحقَّ بالدِّرع منك، وأنت أحقُّ بالدَّراهم منِّي؟ قال: بلى. قال: فإنَّ الدِّرع هبة منِّي إليك. فأخذ عليٌّ الدِّرع والدَّراهم، وأتى بهما النَّبيَّ صلعم، وأخبره الخبر، فدعا لعثمان بخير، ثمَّ قبض من الدَّراهم قبضة، ودعا بأبي بكر: وقال: «اشتر بهذه ما يصلح لفاطمة في بيتها». فأرسل معه بلالاً وسلمان؛ ليعيناه على حمل ما يشتري، وكانت الدَّراهم ثلاثة وستِّين درهماً، فاشترى فراشاً من خيش حشوه الصُّوف، ونِطْعاً من أَدَم، ووسادة من أَدَم حشوه اللِّيف، وقربة للماء، وكيزاناً، وستر صوف، فحمل أبو بكر بعضه، وسلمان بعضه وبلال بعضه، ووضعوه بين يديه صلعم، فلمَّا رآه بكى، ثمَّ رفع رأسه، وقال: «اللهم بارك لقوم شعارهم الخوف منك». ودفع باقي الدَّراهم إلى أمِّ سلمة، واستحفظها. قال عليٌّ: ومكثت شهراً لا أعاوده صلعم حياء، ولكن كلَّما خلا بي يقول: «يا عليُّ، زوجتك سيِّدة نساء العالمين». فلمَّا انتهى شهر دخل عليَّ أخي عَقيل، وقال: ما فرحت بشيء كفرحي بتزويجك، فإن تدخل(14) قرَّت أعيننا باجتماع الشَّمل. فقلت: فوالله إنِّي أحبُّ ذلك، ولكنِّي أستحيي أن أقول له صلعم. فقال عقيل: أقسمت عليك إلَّا ما قمت معي. فقمت معه نريد رسول الله صلعم، فرأينا في الطَّريق أمَّ أيمن مولاته، وذكرنا لها ذلك، فقالت: مهلاً حتَّى أكلِّمه، فإنَّ كلام النِّساء أوقع في النَّفس. /
           فرجعتْ إلى أمِّ سلمة وأعلمتْها بذلك، فاجتمعت أمَّهات المؤمنين في بيت عائشة وأحدقن [به] ، وقلن: فديناك بآبائنا وأمَّهاتنا، إنا اجتمعنا لأمر لو أنَّ خديجة في الأحياء لقرَّت بذلك عيناً(15) . فلمَّا سمع ذكر خديجة بكى صلعم، فقال: «أَين(16) مثل خديجة؟ صدَّقتني حين كذَّبني(17) النَّاس، وواستني بمالها حين حرمني النَّاس، وأعانتني على ديني ودنياي». فقالت أمُّ سلمة: خديجة كذلك، ولكن هذا ابن عمِّك، يريد أن يدخل على أهله. فقال: «أرسلي إلى أمِّ أيمن». وأمرها(18) أن تنطلق إلى عليٍّ فتأتي به، فخرجت أمُّ أيمن، وإذا عليٌّ(19) ينتظرها، فقالت: أجب النَّبيَّ صلعم، فأتاه في حجرة عائشة، وجلس مطرقاً، فأعلمه صلعم أنَّه يدخل على أهله ليلته، ودفع إليه عشرة دراهم، وقال: «اشتر بهذه سمنا وتمراً وأقطاً». ففعل، وأتى به، فحسر صلعم عن ذراعية وشَدَخَ التَّمر بالسَّمن، ثمَّ خلط بالأقط، فجعله حيساً، وقال: «يا عليُّ، ادع عشرة». وغطَّى الحيس بالمنديل، فورد عشرة، [ثمَّ عشرة،] وهكذا حتَّى أكل من ذلك سبعمئة رجل، والحيس كما هو لم ينقص من ذلك شيء، فلمَّا دخل اللَّيل، ودخل عليٌّ على فاطمة رآها تبكي، فقال: مالك، أما ترضين أن أكون لك بعلاً، وتكوني(20) لي أهلاً؟ قالت: بلى، ولكن تفكَّرت في حالي وأمري عند ذهاب عمري، ونزولي في قبري، فشبَّهت دخولي في فراش عزِّي وفخري كدخولي إلى لحدي وقبري، فأنشدك الله إلَّا ما قمت إلى الصَّلاة، فنعبد الله تعالى هذه اللَّيلة. فكانا يقطعان اللَّيل بالقيام، والنَّهار بالصِّيام، حتَّى مضى عليهما ثلاثة أيَّام، حتَّى باهى الله بهما الملائكة المقرَّبين، وجعلهما شفعاء في العصاة والمذنبين.
          قال أنس: كان صلعم لمَّا يرى فاطمة يفرح، ويذهب عنه الهموم، فلمَّا أنزل الله تعالى قوله ╡: { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ } الآية [الحجر:43] بكى، وبكى أصحابه، ولم يستطع أن يسأله(21) [أحد] ، فأتى عبد الرَّحمن بن عوف فاطمة، ودقَّ الباب، فقالت: ما تريد؟ قال: تركت النَّبيَّ صلعم باكياً، ولا أدري ما نزل به؟ فقالت: تمهَّل حتَّى أضمَّ عليَّ ثيابي، فأَنْطَلِقَ إليه. فلبست شملة قد خيطت بخوص النَّخل في اثني عشر موضعاً، فرآها عمر، فقال: واحسرتاه، قيصر وكسرى يلبسان الحرير والسُّندس، وبنت النَّبيِّ(22) صلعم تلبس شملة صوف مرقَّعة بخوص النَّخل. فشكت عمر وقوله إلى أبيها، وقالت: والذي بعثك بالحقِّ نبيًّا، ما لي ولعليٍّ منذ / كذا وكذا إلَّا جلد شاة، نعلف عليه بالنَّهار بعيرنا(23) ، ونفترشه باللَّيل(24) ، وإنَّ مرفقنا من أدم حشوه ليف. فقال: «مه يا عمر، دعها، لعلَّها تكون من السَّابقين، وإذا كان يوم القيامة ينادي مناد: يا أهل المحشر، غضُّوا أبصاركم حتَّى تجوز فاطمة». فقالت: يا أبت، فداك نفسي، ما الذي أبكاك؟ فقال: «نزل جبريل بهذه الآية: { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ* لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ } [الحجر:43-44] فيا فاطمة، إنَّ أهون باب فيها سبعون ألف جبل من نار في مثل ذلك (من) الشِّعاب». إلى آخر ما قال من التَّهويل، وأنواع العذاب الذي لا يشبه(25) بعضها بعضاً، حتَّى سقطت فاطمة لوجهها من عظم ما سمعت. قاله في أربعين المحكيِّ.
          قال الغزاليُّ في الإحياء(26) : قال عمران بن حصين: كانت لي من رسول الله صلعم منزلة وجاه، فقال: «يا عمران، لك عندنا منزلة وجاه، فهل لك في عيادة فاطمة بنت رسول الله صلعم»؟ فقلت: نعم، بأبي أنت وأمِّي. [فقام] وقمت معه حتَّى وقف بباب فاطمة، فقرع الباب، وقال: «السَّلام عليكم، أدخل»؟ قالت: ادخل يا رسول الله، فقال: «أنا ومن معي». قالت: أنت ومن معك، ولكن والذي بعثك بالحقِّ نبيًّا، ما عليَّ إلَّا عباءة. قال: «اصنعي بها هكذا وهكذا». وأشار بيده، فقالت: هذا جسدي قد واريته، فكيف رأسي؟ فألقى إليها ملاءة كانت عليه خَلَقة، وقال: «شدِّي بها على رأسك». ثمَّ أذنت له فدخل، فقال: «السَّلام عليك بابنتاه، كيف أصبحت»؟ قالت: أصبحت والله وجعة، وزادني وجعاً عليَّ ما بي أنِّي لست أقدر على طعام آكله، فقد أضرَّ بي الجوع. فبكى صلعم، وقال: «لا تجزعي يا بنتاه، فوالله ما ذقت طعاماً منذ ثلاث، وإنِّي لأكرم على الله منك، ولو سألت ربِّي لأطعمني، ولكن آثرت الآخرة على الدُّنيا». ثمَّ ضرب على منكبها، وقال: «أبشري، فوالله إنَّك لسيِّدة نساء أهل الجنَّة» فقالت: وأين آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران؟ فقال: «آسية سيِّدة نساء عالمها، ومريم سيِّدة نساء عالمها، وخديجة سيِّدة نساء عالمها، وأنت سيِّدة نساء عالمك، إنَّكن في بيوت من قصب، لا أذى فيها، ولا صخب، [ولا نصب] ». ثمَّ قال: «اقنعي بابن عمِّك، فوالله لقد زوَّجتك سيِّداً في [الدُّنيا، سيِّداً في] الآخرة».
          وقال حجَّة الإسلام [أيضاً] في إحيائه(27) : قدم صلعم من سفر، فدخل على فاطمة، فرآى على بابها ستراً، وفي يدها قُليبين من فضة، يعني سوارين، فرجع، ودخل عليها أبو رافع، فرآها تبكي، فسألها، فأخبرته برجوع رسول الله صلعم، فسأله، فقال: «من أجل السِّتر والسِّوارين». فأرسلت بهما بلالاً إلى رسول الله صلعم، وقالت: قد تصدَّقت / بهما، فضعهما حيث ترى. فقال: «اذهب فبعه، وادفعه إلى أهل الصُّفَّة». فباع السِّوارين بدرهمين ونصف، وتصدَّق عليهم، فدخل صلعم عليها، وقال: «بأبي أنت وأمِّي يا فاطمة، قد أحسنت».
          وقال محيي السُّنَّة في مصابيحه: عن عائشة: ما رأيت أحداً أشبه سمتاً(28) وهدياً ودلًّا وحديثاً وكلاماً برسول الله صلعم من فاطمة، كانت إذا دخلت عليه قام إليها، فأخذ بيدها فقبَّلها، وأجلسها في مجلسه، وكان إذا دخل عليها قامت إليه، فأخذت بيده فقبَّلته، وأجلسته في مجلسها.
          قال ابن حزم: روت فاطمة ثمانية عشر حديثاً.
          قال ابن الأثير: قال صلعم لفاطمة: «لقد زوَّجتك من أكثرهم علماً، وأفضلهم حلماً، وأوَّلهم سلماً».
          توفِّيت لثلاث(29) خلت من رمضان، سنة إحدى عشرة.


[1] أسد الغابة:7/216.
[2] في (ن): (خمسة عشر).
[3] في (ن): (أي المغيرة).
[4] في (ن): (إن كانت ما عملت صوامة قوامة).
[5] جاء في هامش (د) ما نصُّه، صوابه: كان إذا قدم من سفر، لا يبدأ بأحد قبل ابنته فاطمة. قلت: ما عندنا يوافق مسند أبي يعلى، برقم (2466) والمعجم الأوسط للطبراني:4/248، وأسد الغابة:7/216، وما عند صاب الحاشية يوافق الطبراني في الكبيرو والآحاد والمثاني للشيباني:5/127، وغيره.
[6] في (ن): (والحسين والحسن).
[7] في غير (ن): (وغسلها).
[8] في (ن) تصحيفاً: (نفسها).
[9] أسد الغابة:7/221، وفيه: فدعت بجرائد رطبة فَحَنْتها.
[10] في غير (ن): (فما خطبك).
[11] في (ن): (وأنا أرجو) و(هيجت).
[12] في غير (ن): (عما كنت وآبائي وأجدادي عليه).
[13] في (ن): (فخطب).
[14] في غير (ن): (إن دخلت) وفي هامش (د) في نسخة: (تدخل).
[15] في غير (ن): (عيناها).
[16] في غير (ن): (أنى).
[17] في (ن): (كذبتني).
[18] في (ن): (وأمر بها).
[19] في غير (ن): (وإذا بعلي).
[20] في (ن): (وتكون).
[21] في (ن): (أن يسأل).
[22] في غير (ن): (وبنت سول الله).
[23] في (ن): (تعير) وبدها موضع بياض مقدار كلمة.
[24] في (ن) تصحيفاً: (ونفترش الليل).
[25] في (ن): (إلى أن لا يشبه).
[26] إحياء علوم الدين:4/498.
[27] إحياء علوم الدين:6/221.
[28] جاء في هامش (د) ما صورته: الدلُّ والهَدْيُ والسَّمْتُ عبارة عن الحالة التي يكون عليها الإنسان من الكينة والوقار وحسن السيرة والطريقة واستقامة المنظر والهيأة، ومنه حديث سعد: بينا أنا أطوف بالبيت إذ رأيت امرأة أعجبني دلُّها، أي حسن هيأتها، وقيل: حسن حديثها. نهاية (دلل):2/31، والحديث في مشكاة المصابيح:3/14، برقم (4689)، وهو حديث صحيح.
[29] في (ن) تصحيفاً: (ليلة).