غاية المرام في رجال البخاري إلى سيد الأنام

خديجة بنت خويلد

          1529 # خديجة بنت خويلد _بضمِّ المعجمة، وفتح الواو، وسكون التَّحتيَّة المثنَّاة_ بن أسد بن عبد العزَّى، أوَّل من أسلم، على بعض الرِّوايات، وقد مرَّ البيان الشَّافي في أبي بكر، وعليٍّ، وزيد.
          هي أوَّل من تزوَّج بها رسول الله صلعم، ولم يتزوَّج غيرها في حياتها، قرشيَّة، أسديَّة، وكانت [تدعى في الجاهليَّة بالطَّاهرة، وأمُّها فاطمة بنت زائدة بن الأصمِّ، وكانت] أوَّلاً تحت أبي هالة بن زُرارة، واسمه هند، ثمَّ خلف عليها عَتيق بن عائذ، وقيل: بالعكس. وولدت لهما، وتزوَّجها صلعم قبل الوحي، وعمره خمس(1) وعشرون سنة، وقيل: [إحدى وعشرون. وقيل:] ثلاثون. وعمرها أربعون سنة، وأقامت معه أربعاً وعشرين سنة، وجميع أولاده صلعم منها إلَّا إبراهيم، فإنَّه من مارية.
          قال ابن سيِّد النَّاس(2) : كان صلعم يدعى الأمين بمكَّة، وليس له اسم سواه؛ لما تكاملت فيه من خصال الخير. قال [له] أبو طالب: أنا رجل لا مال لي، ولقد اشتدَّ الزَّمان علينا، وألحَّت سنون منكرة، وليس لنا مادَّة، ولا تجارة، وهذه عِيْر قومك، قد حضر خروجها إلى الشَّام، وخديجة تبعث رجالاً في عيرها، يتَّجرون لها، ويصيبون منافع مالها، فلو جئتها، فعرضت نفسك عليها لأسرعت إليك، وفضَّلتك على غيرك؛ لما يبلغها عنك من طهارتك، وإن(3) كنت أكره أن تأتي الشَّام، وأخاف عليك من يهود، ولكن(4) لا أجد من ذلك بدًّا. وكانت خديجة تاجرة(5) ، ذات شرف، ومال كثير وتجارة، تبعث بها إلى الشَّام مضاربة مع الرِّجال، وكانت قريش تجَّاراً، ومن لم يكن تاجراً فليس عندهم بشيء. فقال صلعم: «فلعلَّها ترسل إليَّ في ذلك». قال أبو طالب: إنِّي أخاف عليك أن يسبقك أحد، فتطلب أمراً قد فات. فافترقا، وبلغ خديجة ذلك _مع علمها بصدق حديثه، وعظم أمانته، وكرم أخلاقه_ (فقالت: ما علمت أنَّه يريد هذا، فأرسلت إليه في ذلك. وقالت: دعاني إلى ذلك ما بلغني من صدق حديثك، وعظم أمانتك، وكرم أخلاقك،) وأنا أعطيك (ضعف) ما أعطي رجلاً من قومك. ففعل، فلقي أبا طالب، وذكر له ذلك، فقال: إنَّ هذا لرزق(6) ساقه الله إليك. فخرج رسول الله صلعم وهو ابن خمس وعشرين _كما قاله الكرمانيُّ(7)_ مع غلامها ميسرة حتَّى / قدم الشَّام، وجعل أعمامه يوصون به أهل العير، فنزل سوق بصرى، وآوى إلى ظلِّ شجرة قريباً من صومعة راهب، يقال له: نُسْطُورى، فاطَّلع الرَّاهب إلى ميسرة _وكان يعرفه_ فقال: من هذا الذي نزل تحت هذه الشَّجرة؟ قال: رجل من قريش، من أهل الحرم. قال الرَّاهب: ما نزل تحت هذه الشَّجرة إلَّا نبيٌّ. ثمَّ سأله، أفي عينيه حمرة؟ قال ميسرة: نعم، لا تفارقه. قال الرَّاهب: هو هو، وهو آخر الأنبياء، ويا ليتني أدركه حين يؤمر بالخروج. فوعى(8) ميسرة ذلك، ثمَّ حضر صلعم سوق بصرى، وباع سلعته، واشترى، وكان بينه وبين رجل اختلاف في سلعة، فقال الرَّجل: احلف باللَّات والعزُّى. فقال: ما حلفت بهما قطُّ. فقال الرَّجل: القول قولك. ثمَّ خلا بميسرة، وقال: هذا نبيٌّ، والذي نفسي بيده إنَّه لهو الذي أخباره مكتوبة في كتبهم. فوعى ذلك ميسرة، ثمَّ انصرف أهل العير جميعاً، وكان ميسرة يرى رسول الله صلعم إذا كانت الهاجرة، واشتدَّ الحرُّ يرى ملكين يظلَّانه من الشَّمس، وهو على بعيره، وكان قد ألقي على رسول الله صلعم المحبَّة من ميسرة، وكان كأنَّه عبد لرسول الله صلعم، فلمَّا رجعوا، وكان بمرِّ الظَّهران، تقدَّم رسول الله صلعم حتَّى دخل مكَّة في ساعة الظَّهيرة، وخديجة في عِلِّية لها، معها نساء فيهنَّ نفيسة بنت منية، فرأت رسول الله صلعم حين دخل، وهو راكب على بعيره، وملكان يظلَّان عليه، فأرته النِّساء، فعجبن لذلك، ودخل رسول الله صلعم، فأخبرها بما ربح، فسرَّت، فلمَّا دخل ميسرة أخبرته بما رأت، فقال ميسرة: لقد رأيت هذا منذ خرجنا من الشَّام. وأخبرها بقول الرَّاهب نُسْطُورَى، وقول الآخر الذي حالفه في البيع، وربحت تجارتها أضعاف(9) ما كانت تربح، وأضعفت له ما سمَّت(10) له، فلمَّا ثبت هذا عندها، وكانت امرأة حازمة شريفة لبيبة، مع ما أراد الله بها من الكرامة والخير، وهي يومئذ أوسط نساء قريش نسباً، وأعظمهنَّ شرفاً، وأكثرهنَّ مالاً، وكلُّ قومها كان حريصاً على نكاحها لو يقدر عليه، فعرضت هي عليه نفسها(11) ، فقالت [له] : يابن العمِّ(12) ، إنِّي قد رغبت فيك؛ لقرابتك وسيطك(13) في قومك، وأمانتك، وحسن خلقك، وصدق حديثك. فلمَّا قالت له ذلك ذكر ذلك لأعمامه، فخرج معه حمزة حتَّى دخل على والدها، فخطبها إليه فتزوَّجها، وفي رواية نفيسة أنَّ خديجة أرسلت إليه دَسيساً، فدعته إلى تزويجها، وفي رواية أيضاً لنفيسة أن قريشاً طلبوا خديجة، وبذلوا لها الأموال، فأرسلتني دَسيساً إلى محمَّد بعد أن رجع في عيرها من الشَّام، فقلت: يا محمَّد، ما يمنعك أن تتزوَّج؟ قال: ما بيدي شيء أتزوَّج به. /
           قالت: قلت: إن كفيت ذلك، ودعيت إلى المال والجمال والشَّرف ألا تجيب؟ قال: فمن هي؟ قلت: خديجة. قال: وكيف لي بذلك؟ قالت: قلت: عليَّ. قال: فأنا أفعل (ذلك). فذهبت فأخبرتها، فأرسلت إليه أن ائت السَّاعة الفلانيَّة، فأرسلت إلى عمِّها عمرو بن أسد ليزوِّجها، فحضر ودخل صلعم في عمومته، فزوَّجه أحدهم، فقال عمرو: هذا الفحل لا يقرع أنفه. فزوَّجها عمُّها، وفي رواية الزُّهريُّ: زوَّجها أبوها. قال: وكان أبوها خويلد سكرانَ من الخمر(14) ، فلمَّا كلِّم في ذلك أنكحها، فألقت عليه خديجة حُلَّة، وضمَّخته بخلوق، فلمَّا صحا قال: ما هذه الحلَّة والطِّيب؟ فقيل: زوَّجت محمَّداً خديجة، وقد ابنتى بها. فأنكر ذلك، ثمَّ رضيه وأمضاه، وقيل: [أخوها] عمرو بن خويلد هو الذي زوَّجها. وفي رواية الزُّهريِّ: لمَّا استوى صلعم وبلغ رشده، وليس له كثير(15) مال، [قال:] استأجرته خديجة إلى سوق حُبَاشة، وهو سوق بتهامة، واستأجرت معه رجلاً آخر من قريش، فقال صلعم _وهو يحدِّث عنها_: ما رأيت(16) من صاحبة لأجير خيراً من خديجة، ما كنَّا نرجع أنا وصاحبي إلَّا وجدنا عندها تحفة من طعام تحفظه [لنا] .
          تنبيه:
          هذا السَّفر غير السَّفر الذي خرج مع عمِّه إلى الشَّام، وهذا الرَّاهب غير ذلك الرَّاهب، وسنذكر السَّفر الأوَّل أيضاً تتمَّة للفائدة، وتذكرة لمعجزاته صلعم.
          قال أبو الحسن الماورديُّ: خرج أبو طالب به إلى الشَّام [في تجارة، وسنُّه تسع سنين، أو اثنتا عشرة(17) سنة، وذلك لأنَّ أبا طالب لمَّا خرج إلى الشَّام] رقَّ له(18) محمَّد ولزمه، فرقَّ له [أبو طالب] أيضاً، وقال: والله لأخرجنَّ به معي، ولا يفارقني ولا أفارقه أبداً. فلمَّا نزل الرَّكب بصرى من الشَّام، وبها راهب اسمه بَحِيْرى، وكان إليه علم النَّصرانيَّة، وفي صومعته كتب وعلم يتوارثونه كابراً عن كابر، ولا يخلو عن عالم، فلمَّا نزلوا، وكان كثيراً ما يمرُّون به قبل ذلك، فلا يكلِّمهم ولا يتعرَّض لهم، حتَّى كان ذلك العام، فنزلوا قريباً من صومعته، فصنع لهم طعاماً كثيراً؛ وذلك لأنَّه رآه حين أقبلوا وغمامة(19) تظلُّه من بين القوم، ثمَّ نزلوا تحت شجرة قريبة منه، فنظر إلى الغمامة قد أظلت الشَّجرة، وتهصَّرت أغصان الشَّجرة على رسول الله صلعم حتَّى استظلَّ تحتها، فلمَّا رأى ذلك بحيرى نزل من صومعته، وقد أمر بذلك الطَّعام فصنع، ثمَّ أرسل إليهم: إنِّي قد صنعت لكم طعاماً يا معشر قريش، وأحبُّ أن تحضروا كلُّكم صغيركم وكبيركم وعبيدكم وأحراركم. فقال له رجل منهم: والله يا بحيرى، إنَّ لك اليوم لشأناً عظيماً، ما كنت تصنع هذا بنا، ولقد كنَّا نمرُّ بك كثيراً، فما شأنك اليوم؟ قال بَحِيْرى: صدقت، ولكنَّك ضيف، فأحببت أن أكرمك. فاجتمعوا، وتخلَّف صلعم لحداثة سنِّه، فلمَّا لم ير بَحِيْرى / في القوم الصِّفة التي يعرفها بحيرى، ويجد عنده، قال: يا معشر قريش، لا يتخلفنَّ أحد منكم عن طعامي. قالوا: ما تخلَّف عنك من ينبغي أن يأتيك إلَّا غلام، أحدث القوم سنًّا. فقال: ادعوه. فقال رجل من قريش: واللَّات والعزَّى للؤم بنا أن يتخلَّف ابن عبد الله عن طعام من بيننا. فقام إليه، فاحتضنه وأجلسه مع القوم، فلَّما رآه بحيرى، جعل يلحظه لحظاً شديداً، وينظر إلى أشياء من جسده كان يجدها عنده من صفته، حتَّى إذا فرغ القوم وتفرَّقوا، قال له بحيرى: يا غلام، أسألك باللَّات والعزَّى إلَّا ما أخبرتني عمَّا أسألك عنه؟ فقال صلعم: لا تسألني باللَّات والعزَّى شيئاً، فوالله ما أبغضت شيئاً بغضهما قطُّ. فقال بحيرى: فبالله أخبرني عمَّا أسألك. قال: سلني. فسأله عن أشياء من حال نومه وقومه وأموره، ويخبره صلعم، فتوافق ذلك ما عند بحيرى من صفته، ثمَّ نظر إلى ظهره، فرأى خاتم النُّبوَّة بين كتفيه على موضعه من الصِّفة(20) التي هي عنده، فأقبل على عمِّه، فقال: ما هذا الغلام منك؟ قال: ابني. قال: (ما) هو ابنك، ما ينبغي لهذا الغلام [أن يكون] أبوه حيًّا. قال: فإنَّه ابن أخي. قال: فما فعل أبوه؟ قال: مات وأمُّه حبلى. قال: صدقت، فارجع بابن أخيك إلى بلده، واحذر عليه من يهود(21) ، فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليَبْغُنَّه(22) شرًّا، فإنَّه كائن لابن أخيك هذا شان عظيم، فأسرع به إلى بلده. فخرج به أبو طالب سريعاً حتَّى أقدمه مكَّة حين فرغ من تجارته، وفي رواية(23) لمَّا أشرفوا على الرَّاهب هبطوا، فحلُّوا رحالهم، فخرج إليهم الرَّاهب، وكانوا قبل ذلك يمرُّون به، فلا يخرج إليهم، ولا يلتفت، فبينما هم يحلُّون رحالهم، جعل يتخلَّلهم الرَّاهب، حتَّى جاء، فأخذ بيده صلعم، فقال: هذا سيِّد العالمين، هذا رسول ربِّ العالمين، يبعثه الله رحمة للعالمين. فقال الأشياخ من قريش: ما علمك؟ قال: أنتم حين أشرفتم على العقبة، لم يبق شجر ولا حجر إلَّا خرَّ ساجداً، ولا يسجدان إلَّا لنبيٍّ، وإنِّي أعرفه بخاتم النُّبوَّة أسفل من غضروف كتفه مثل التُّفاحة. ثمَّ رجع فصنع لهم طعاماً، فلمَّا أتاهم به، وكان [هو] في رعيَّة الإبل، فلمَّا أرسلوا إليه أقبل [عليه غمامة تظلِّه، فلمَّا دنى من القوم وجده قد سبقوه إلى فيء الشَّجرة، فلمَّا جلس مال ظلُّ الشَّجرة] عليه(24) . فقال: انظروا إلى ظلِّ الشَّجرة مال عليه. فبينما هم كذلك، وهو يناشدهم أن لا يذهبوا به إلى الرُّوم، فإنَّهم إن رأوه عرفوه بالصِّفة فيقتلونه. فالتفت فإذا سبعة من الرُّوم قد أقبلوا، فاستقبلهم، فقال: ما جاء بكم؟ قالوا: جئنا أنَّ هذا النَّبيَّ خارج في هذا الشَّهر، فلم يبق طريق إلَّا بعث إليه بأناس(25) ، وإنَّا قد أخبرنا خبره، بعثنا إلى طريقك هذا. فقال: هل خلَّفكم أحد هو خير منكم؟ قالوا: إنَّما أخبرنا خبره فبعثنا(26) لطريقك هذا. قال: أفرأيتم أمراً إن أراد الله(27) أن يقضيه، هل يستطيع أحد من النَّاس ردَّه؟ قالوا: لا. /
           قال: فبايعوه وأقاموا معه. فقال: أنشدكم بالله، أيُّكم وليُّه؟ قالوا: أبو طالب. فلم يزل يناشده حتَّى ردَّه أبو طالب، انتهى.
          قال ابن الأثير(28) : كلُّ أولاده صلعم من خديجة قبل أن ينزل الوحي، زينب، وأمُّ كلثوم، ورقيَّة، والقاسم، والطَّاهر، والطَّيِّب، وفاطمة، وبالقاسم كان يكنَّى، والقاسم والطَّيِّب والطَّاهر ماتوا قبل الإسلام، وبناته أدركن الإسلام، وهاجرن معه، وآمنَّ به، وقيل: إنَّ الطَّيِّب والطَّاهر ولدا في الإسلام. وقال قتادة: عاش القاسم حتَّى مشى، وعبد الله مات صغيراً. وقال عبد العزيز الجرجانيُّ: أولاد رسول الله، القاسم أكبرهم، ثمَّ زينب، ثمَّ أمُّ كلثوم، ثمَّ فاطمة، ثمَّ رقية، [ثمَّ عبد الله،] وكان يقال: الطَّيِّب، والطَّاهر. قال: هذا هو الصَّحيح، وغيره تخليط. لكن قال محمَّد بن عبد الرَّحمن: ولدت خديجة القاسم، والطَّاهر، والطَّيِّب، وعبد الله، وزينب، ورقيَّة، وأمَّ كلثوم، وفاطمة. فعدَّ عبد الله، وجعله غير الطَّيِّب والطَّاهر.
          قال في السِّمط الثَّمين(29) : إنَّ خديجة قد ذكرت لورقة بن نوفل ما ذكر ميسرة لها من قول(30) الرَّاهب، وما كان يرى منه؛ إذ كان الملكان يظلَّانه، وكان ورقة ابن عمُّها قد تنصَّر، وتتبَّع الكتب، (وعلم) من علم النَّاس، فقال: إن كان هذا حقًّا إنَّ محمَّداً نبيُّ هذه الأمَّة، وقد عرفت أنَّه كائن لهذه الأمَّة نبيٌّ ينتظر، هذا زمانه. فجعل ورقة يستبطئ الأمور(31) ، ويقول: حتَّى متى؟ وزاد في طريق آخر: وحضر أبو طالب ورؤساء مضر، فخطب أبو طالب، فقال: الحمد لله الذي جعلنا من ذرِّيَّة إبراهيم، وزَرْعِ إسماعيل، وضِئْضِئ مَعَدٍّ، وعنصر مُضَرَ، وجعلنا حَضَنَةَ بيته، وسُوَّاسَ حَرَمه، وجعل لنا بيتاً محجوجاً، وحرماً آمناً، وجعلنا الحكَّام على النَّاس، ثمَّ إنَّ ابن أخي هذا محمَّد بن عبد الله لا يوزن(32) به رجل إلَّا رجح به، فإن كان في المال قُلٌّ، فإنَّ المال ظلٌّ زائل، وأمر حائل، ومحمَّد من(33) قد عرفتم قرابته، وقد خطب خديجة بنت خويلد، وبذل لها من الصَّداق ما آجله وعاجله من مالي كذا، وهو والله بعد هذا له نَبَأٌ عظيم، وخطر جليل. فتزوَّجها.
          قال ابن إسحق: وأصدقها عشرين بكرة. قال الطَّبريُّ: ولا تضادَّ بين هذا وبين ما يأتي؛ إذ يجوز أن يكون أبو طالب أصدقها وزادها صلعم ذلك في صداقها، فكان الكلُّ صداقاً.
          وذكر الدُّولابيُّ وغيره: أنَّه صلعم أصدق خديجة اثنتي عشرة(34) أوقية ذهباً، وقال: ويكون ذلك أيضاً زيادة. وعن الزُّهريِّ، قال رسول الله صلعم: لمَّا رجعنا من سوق حُباشة قلت لصاحبي: انطلق نتحدَّث عند خديجة. فجئناها، فبينما نحن عندها دخلت علينا مُسْتَنْشِئة، من مولَّدات قريش، قالت: أمحمَّد هذا؟ والذي يحلف به، إن جاء لخاطباً. /
          قال: فقلت: كلَّا. فلمَّا خرجت أنا وصاحبي قالت: ولِمَ تعتذر من خطبة خديجة؟ فوالله ما من قرشيَّة إلَّا تراك كفؤاً. قال: فرجعت أنا وصاحبي إليها مرَّة أخرى، فدخلت تلك المستنشئة، وقالت كما قالت أوَّلاً، فقلت على حياء: أجل. فلم تقصر هي، ولا أختها، فانطلقنا إلى أبيها خويلد، وهو ثمل من الشَّراب، فقالتا(35) : هذا ابن أخيك محمَّد بن عبد الله يخطب خديجة، وقد رضيت خديجة. فدعاه فسأله عن ذلك، فخطب إليه، فزوَّجه، فخلعت خديجة أباها حلَّة ودخل بها. إلى آخر ما ذكر قبل هذا.
          وعن ابن عبَّاس أنَّ رسول الله صلعم ذكر لخديجة، فصنعت طعاماً وشراباً، فدعت أباها ونفراً(36) من قريش، فطعموا وشربوا، وقالت خديجة لأبيها: إنَّ محمَّد بن عبد الله يخطبني. فزوَّجها إيَّاه، فخلَّقته وألبسته حُلَّة، وكذلك كانوا يصنعون إذا زوَّجوا نساءهم.
          وقال جابر بن سمرة أو غيره: كانت خديجة تبعث إلى النَّبيِّ صلعم بالشَّيء ليبعث به إلى أبيها؛ حتَّى يرغب فيه، فيزوِّجه.
          قال الطَّبريُّ: إنَّ النَّبيَّ صلعم لمَّا تزوَّج خديجة [ذهب ليخرج،] قالت له: إلى أين يا محمَّد؟ (قال): أذهب فانحر جزوراً أو جزورين وأطعم النَّاس. ففعل ذلك، وهي أوَّل وليمة أولمها صلعم.
          قال ابن عبَّاس، وأبو رافع: صلَّى [النَّبيُّ] صلعم يوم الإثنين، وصلَّت خديجة آخر يوم الإثنين. وقال الحكم بن عتبة: خديجة أوَّل من صدَّق، وعليٌّ أوَّل من صلَّى إلى القبلة. وعن ابن إسحاق أنَّ خديجة أوَّل من آمن بالله ورسوله، وصدَّق بما جاء به، فخفَّف الله بذلك عنه، (وكان) لا يسمع شيئاً يكرهه من رَدٍّ عليه، وتكذيبٍ له(37) إلَّا فرَّج الله عنه [بها] ، إذا رجع إليها تثبِّته، وتخفِّف عنه، وتصدِّقه، وتهوِّن عليه أمر النَّاس.
          قالت خديجة لرسول الله صلعم: يا ابن عمٍّ، هل تستطيع أن تخبرني بصاحبك الذي يأتيك إذا جاءك؟ قال: نعم. فبينا رسول الله صلعم عندها إذ جاءه جبريل، فقال: [هذا جبريل،] قد جاءني. فقالت: أتراه الآن؟ فقال: نعم. قالت: فاجلس على شقِّي الأيمن. فجلس، فقالت: هل تراه؟ قال: نعم. قالت: فاجلس على شقِّي الأيسر. فجلس، قالت: هل تراه الآن؟ قال: نعم. قالت: فاجلس في حجري. فتحوَّل إلى حجرها فجلس، فقالت: هل تراه الآن. قال: نعم. فتحيَّرت، وألقت خمارها، فقالت: هل تراه؟ قال: لا. قالت: أبشر، ما هذا شيطان، هذا الملك يابن عمِّي(38) ، اثبت وأبشر. ثمَّ آمنت به.
          قال ابن عبَّاس: بعث الله محمَّداً صلعم على رأس خمس سنين من بنيان الكعبة، فكان أوَّل شيء أراه الله تبارك وتعالى من النُّبوَّة رؤيا في المنام، فشقَّ ذلك عليه، والحقُّ ثقيل، والإنسان ضعيف، فذكر ذلك / لخديجة، فعصمها الله تبارك تعالى من التَّكذيب، فقالت: أبشر، فإنَّ الله عزَّ شأنه لا يصنع بك إلَّا خيراً.
          وقال أيضاً: ظهر له جبريل على مكَّة(39) من قبل حراء، فوضع يده على رأسه وفؤاده وبين كتفيه، وقال له: لا تخف. وأجلسه معه على مجلس كريم جميل معجب(40) ، وكان صلعم يقول: أجلسني على بساط كهيئة الدُّرْنوك، فيه من الياقوت واللُّؤلؤ، وبشَّره برسالات الله تعالى حتَّى اطمأنَّ النَّبيُّ، ثمَّ قال له: اقرأ. قال: كيف أقرأ؟ قال: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } [العلق: 1]، فقبل الرَّسول رسالات ربِّه، واتَّبع الذي نزل به جبريل من عند ربِّ العرش العظيم، فلمَّا قضى الذي أمر به انصرف صلعم منقلباً إلى أهله، لا يأتي على حجر ولا شجر إلَّا سلم عليه: سلام عليك يا رسول الله، سلام عليك يا رسول الله. فرجع إلى بيته، وهو موقن، قد فاز فوزاً عظيماً، فلمَّا دخل على خديجة قال: أرأيت ما كنت أراه في المنام وأحدِّثك به؟ ظهر، وإنَّه جبريل أرسله ربُّه. وأخبرها بالذي قال، وبالذي رأى وسمع، قالت: أبشر، فوالله لا يفعل الله بك إلَّا خيراً، أنا أقبل الذي أتاك من الله، فإنَّه حقٌّ، وأبشر فإنَّك رسول الله حقًّا.
          قالت عائشة أمُّ المؤمنين: أوَّل ما بدئ به رسول الله صلعم من الوحي الرُّؤيا الصَّالحة في النَّوم، كان لا يرى رؤيا إلَّا جاءت مثل فلق الصُّبح، ثمَّ حبِّب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء يتحنَّث فيه _وهو التَّعبُّد_ اللَّيالي ذوات العدد، قبل أن يرجع إلى أهله، ويتزوَّد(41) لذلك، ثمَّ يرجع إلى خديجة، فيتزوَّد لمثلها، حتَّى فجأه الحقُّ، وهو في غار حراء، فجاءه الملك، فقال: اقرأ. قال: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطَّني حتَّى بلغ منِّي الجهد، ثمَّ أرسلني، فقال: اقرأ. قلت: ما أنا بقارئ. فأخذني [فغطَّني الثَّانية حتَّى بلغ منِّي الجهد، ثمَّ أرسلني، فقال: اقرأ. قلت: ما أنا بقارئ. فأخذني] الثَّالثة، فغطَّني حتَّى بلغ منِّي الجهد، ثمَّ أرسلني، فقال: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } حتَّى بلغ: { مَا لَمْ يَعْلَمْ } [العلق: 1-5] فرجع بها رسول الله صلعم ترجف بوادره، حتَّى دخل على خديجة، فقال: زمِّلوني زمِّلوني. حتَّى ذهب عنه الرَّوع، فقال: يا خديجة، مالي؟ فأخبرها الخبر، وقال: «قد خشيت على نفسي». فقالت له: كلَّا، أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبداً، إنَّك لتصل الرَّحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكَلَّ(42) ، وتَكْسِبُ المعدوم، وتَقْرِي الضَّيف، وتعين على نوائب الحقِّ. ثمَّ انطلقت (به) خديجة، حتَّى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزَّى، وهو ابن عمِّ خديجة أخي أبيها، وكان امرأً [قد] تنصَّر في الجاهليَّة، وكان يكتب الكتاب العربيَّ، ويكتب من الإنجيل بالعربيَّة ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخاً كبيراً قد عمي، فقالت له خديجة: يابن عمٍّ، اسمع من ابن أخيك. فقال ورقة: يا ابن أخي، ماذا ترى؟ فأخبره / رسول الله صلعم خبر ما رأى، فقال ورقة: هذا النَّاموس الذي أنزل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعاً، [يا ليتني] أكون حيًّا إذ يخرجك قومك. فقال: «أومخرجيَّ هم»؟ قال ورقة: نعم، لم يأت رجل بمثل ما جئت به إلَّا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزَّراً. فلم ينشب ورقة أن توفِّي، وفتر الوحي، حتَّى حزن رسول الله صلعم _فيما بلغنا(43)_ فغدا مراراً لكي يتردَّى من شاهق الجبال، فكلَّما وافى ذروة جبل لكي يلقي نفسه تبدَّى له جبريل، فيقول له: يا محمَّد، إنَّك لرسول الله حقًّا. فيسكن لذلك جأشه، وتقرُّ نفسه، فإذا طال عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا وافى على ذورة جبل تبدَّى له جبريل، فقال له مثل ذلك.
          وقال ابن إسحاق: جاءه جبريل بما جاءه من كرامة الله، وهو بحراء في شهر رمضان، وكان يجاور في حراء كلَّ سنة شهراً، وكان ذلك بما تتحنَّث قريش به(44) في الجاهليَّة، والتَّحنُّث التَّبرُّر، وكان صلعم ذلك الشَّهر يطعم من جاءه من السَّالكين(45) ، فإذا قضى جواره من شهره ذلك كان أوَّل ما يبدأ به _إذا انصرف من جواره_ الكعبة قبل أن يدخل بيته، فيطوف بها سبعاً، أو ما شاء الله من ذلك، ثمَّ يرجع إلى بيته، حتَّى كان الشَّهر الذي أراد الله فيه ما أراد من كراماته، من السَّنة التي بعثه الله فيها، وذلك في شهر رمضان، خرج إلى حراء كما كان يخرج لجواره ومعه أهله، حتَّى إذا كان اللَّيلة التي أكرمه الله فيها برسالته، جاءه جبريل بأمر الله تعالى، فقال: «جاءني وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب، فقال: { اقْرَأْ }»، وذكر الثَّلاث(46) مرَّات، والأمر بالقراءة، حتَّى قرأ اقرأ الآيات، قال: [«ثمَّ انتهى، وانصرف عنِّي، واستيقظت من نومي كأنَّما كتب في قلبي كتاباً». قال:] «فخرجت. حتَّى إذا كنت في وسط الجبل، سمعت صوتاً من السَّماء، يقول: يا محمَّد، أنت رسول الله، وأنا جبريل. (قال): فرفعت رأسي إلى السَّماء أنظر، فإذا جبريل في صورة رجل صافٍّ قدميه في أفق السماء، يقول: يا محمَّد، أنت رسول الله، وأنا جبريل. فوقفت أنظر إليه، فما أتقدَّم وما(47) أتأخَّر، وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السَّماء، فلا أنظر في ناحية فيها إلَّا رأيته كذلك، فما زلت واقفاً، ما أتقدَّم أمامي، وما أرجع ورائي، حتَّى بعثت خديجة رسلها في طلبي من مكَّة، ورجعوا وأنا واقف في مكاني ذلك، ثمَّ انصرف عنِّي، وانصرفت راجعاً إلى أهلي، حتَّى أتيت خديجة، فجلست إلى فخذها، فقالت: يا أبا القاسم، أين كنت؟ فوالله لقد بعثت رسلي في طلبك. قال: فحدَّثتها بالذي رأيت، فقالت: أبشر يا ابن عمٍّ، واثبت، فوالذي نفس خديجة بيده إنِّي لأرجو أن تكون نبيَّ هذه الأمَّة».
          قال الطَّبريُّ: قال آدم ◙: إنِّي لسيِّد البشر يوم القيامة إلَّا رجلاً من ذرِّيَّتي، نبيًّا من الأنبياء، يقال له: أحمد. فضِّل عليَّ باثنتين(48) ، زوجته عاونته، فكانت عوناً له، / وزوجتي كانت عليَّ عوناً، وأعانه الله على شيطانه فأسلم، وكفر شيطاني.
          قال أبو هريرة: أتى جبريل النَّبيَّ صلعم، فقال: يا محمَّد، هذه خديجة قد أتتك بإناء فيه طعام، فأقرئها السَّلام من ربِّها ومنِّي، وبشِّرها ببيت في الجنَّة من قصب، لا نصب فيه، ولا صخب(49) . قال ابن هشام: القصب: اللُّؤلؤ المجوَّف، والصَّخب: الضَّجَّة واضطراب الأصوات، والنَّصب: التَّعب.
          قالت فاطمة: والله يا رسول الله، لا ينفعني عيش حتَّى تسأل جبريل عن أمِّي. فسأله، فقال: «هي بين مريم وآسية(50) في الجنَّة».
          قالت عائشة: كان صلعم إذا ذكر خديجة أثنى عليها، فأحسن الثَّناء. قالت: فغرت يوماً، فقلت: ما أكثر ما تذكر عجوزاً، حمراء الشِّدْقين، قد أبدلك الله خيراً منها! فقال: «ما أبدلني الله خيراً منها، قد آمنت بي إذ كفر النَّاس، وصدَّقتني إذ كذَّبني النَّاس، وواستني بمالها إذ حرمني(51) النَّاس، ورزقني الله أولادها إذ حرمني أولاد النِّساء». وفي رواية لمَّا قلت: لقد أبدلك الله خيراً منها، غضب غضباً شديداً، حتَّى اهتزَّ مقدَّم شعره من الغضب، وتمعَّر تمعُّراً ما كنت أراه إلَّا عند نزول الوحي، وإذا رأى المَخِيْلة(52) حتَّى يعلم أرحمة أم عذاب؟ وفي رواية لمَّا ذكرها ذات يوم، وأكثر الثَّناء عليها، حملتني الغيرة، فقلت له: لقد عوَّضك الله من كبيرة السِّنِّ. قالت: فغضب غضباً شديداً، وأُسْقِطْتُ(53) في خَلَدي؛ فقلت: اللهم إن أذهبت غيظ رسولك، لم أعد أذكرها بسوء ما بقيت. [فلمَّا رأى ما لقيت] قال: «كيف قلت؟ والله، لقد آمنت بي إذ كفر بي النَّاس، وآوتني إذ رفضني النَّاس، وصدَّقتني إذ كذَّبني النَّاس، ورزقت منها الولد حيث حرمت من غيرها». قالت: فغدا وراح عليَّ بها(54) شهر.
          قال الطَّبريُّ: قولها: حمراء الشِّدقين، وصفتها بسقوط الأسنان من الكبر، فلم يبق إلَّا حمرة اللِّثَات.
          قالت عائشة: ما غرت على أحد من نساء النَّبيِّ صلعم ما غرت على خديجة، وما رأيتها، ويا ليتني كنت أدركتها، وما ذاك إلَّا لكثرة ذكر النَّبيِّ صلعم لها، وإن كان ليذبح الشَّاة، ثمَّ يقطِّعها أعضاء، فيبعث بها إلى صدائق خديجة. قالت عائشة: وربَّما قلت له: كأن لم يكن في الدُّنيا امرأة إلَّا خديجة. فيقول: «إنَّها كانت وكانت، وكان لي منها ولد».
          قال أنس بن مالك: كان صلعم إذا أتي بالشَّيء يقول: «اذهبوا به إلى بيت فلانة، فإنَّها كانت صديقة لخديجة».
          قالت عائشة: استأذنت هالة بنت خويلد، أخت خديجة على رسول الله صلعم، فعرف استئذان خديجة، فارتاع لذلك، فقال: اللهم(55) هالة.
          وروي أنَّه أتته امرأة فهشَّ لها وأكرمها، فقيل (له) في ذلك، /
           قال: «هذه امرأة كانت تأتينا زمن خديجة، وإنَّ حسن العهد من الإيمان». أو كما قال صلعم.
          قال ابن عبَّاس: خطَّ رسول الله صلعم خطوطاً أربعة، وقال: «أتدرون ما هذا»؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم. فقال: «أفضل نساء أهل الجنَّة، خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمَّد، وآسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران». وفي رواية: «أفضل نساء الجنَّة». وفي رواية: «سيِّدة نساء الجنَّة». وعن ابن عبَّاس قال: قال رسول الله صلعم: «سيِّدة نساء العالمين مريم، ثمَّ فاطمة، ثمَّ خديجة، ثمَّ آسية». قال ابن عبد البرِّ(56) : هكذا روى الزُّبير بن بكَّار مرتَّباً.
          قال ابن أبي رَوَّاد(57) : دخل رسول الله صلعم على خديجة في مرضها الذي ماتت فيه، فقال لها: «بالكره منِّي ما أرى منك يا خديجة، وقد يجعل الله في الكره خيراً كثيراً، أما علمت أنَّ الله زوَّجني معك في الجنَّة مريم بنت عمران، وكلثم أخت موسى، وآسية امرأة فرعون»؟ فقالت: وقد فعل ذلك يا رسول الله؟ قال: «نعم». قالت: بالرِّفاء والبنين.
          قال ابن إسحاق: ماتت خديجة بعد أبي طالب في عام واحد، قيل: بثلاثة أيَّام. فتتابعت على رسول الله صلعم المصائب بوفاتهما، وكان موتها في رمضان، ودفنت بالحجون، وعاشت خمساً وستِّين سنة، واختلفوا في سنة وفاتها، فقال عروة وقتادة: قبل الهجرة بثلاث سنين. وهذا قول الصَّواب عند ابن الأثير، وقال أبو عبيدة معمر بن المثنَّى: توفِّيت قبل الهجرة بخمس سنين. وقال ابن إسحاق: توفِّيت خديجة بعد عشر سنين مضت من البعثة. وقال عروة: توفِّيت قبل أن تفرض الصَّلاة. وكذلك روت عائشة، على ما قاله ابن الأثير. قلت: ويخالفه ما مضى عن ابن عبَّاس وأبي رافع أنَّ النَّبيَّ صلعم صلَّى يوم الإثنين، وصلَّت خديجة آخر يوم الإثنين، وقول ابن عبَّاس وأبي رافع هو الحقُّ، فلعلَّ مراد عروة وعائشة بالصَّلاة صلاة الجنازة، فإنَّ صاحب الصَّفوة(58) قال: _كما ذكره الطَّبريُّ_ إنَّ النَّبيَّ صلعم نزل حفرة خديجة، ولم يكن يومئذ سُنَّت الجنازة الصَّلاة(59) عليها.
          تتمَّة:
          قال الطَّبريُّ في السِّمط الثَّمين في مناقب أمَّهات المؤمنين: إنَّ لخديجة أولاداً ممَّن تزوَّجت به قبل النَّبيِّ صلعم، منهم بنت اسمها هند من عتيق بن عائذ، أسلمت وتزوَّجت _قلت: ولم يذكرها ابن الأثير في الصَّحابيَّات_ وبنت أخرى، يقال لها: هالة، من النبَّاش بن زرارة. قال: وابن يقال له: هند. قال أبو عمر: عاش هند بن هند، ربيب رسول الله صلعم، [ملسماً إلى أن قتل مع عليِّ بن أبي طالب، يوم الجمل، وقيل: مات بالبصرة، بالطَّاعون، فازدحم النَّاس على جنازته، وتركوا جنائزهم، وقالوا: ربيب رسول الله صلعم ] . وكان فصيحاً بليغاً وصَّافاً، وصف رسول الله صلعم /
           فأحسن وأتقن، وكان يقول: أنا أكرم النَّاس أباً وأمًّا وأخاً وأختاً(60) ، أبي رسول الله صلعم، وأمِّي خديجة، وأخي القاسم، وأختي فاطمة. انتهى.
          قال ابن الأثير(61) : هو هند ابن أبي هالة، واختلفوا في اسم أبي هالة، فقيل: نبَّاش بن زرارة. وقيل: مالك بن زرارة. وقيل: مالك بن النَّبَّاش. وقيل: هند بن النَّبَّاش. فولد له هند بن هند، وابن ابنه هند بن هند (بن هند)، وشهد هند بن أبي هالة بدراً، وقيل: لا، بل أحداً. قال الحسن بن عليٍّ: سألت خالي هند بن أبي هالة _وكان وصَّافاً_ عن حلية رسول الله صلعم. قال: وأنا أشتهي أن يصف لي منها شيئاً أتعلَّق به، فقال: كان رسول الله صلعم فَخْماً، مفخَّماً، يتلألأ وجهه تَلأَلُؤَ القمر ليلة البدر، أطول من المربوع، وأقصر من المشذَّب عظيم الهامة، رَجِل الشَّعر، إن انفرقتْ عَقيصتُه فَرَق، وإلَّا فلا يجاوز شعره [شحمة] أذنيه إذا هو وفَّره، أزهر اللَّون، واسع الجبين، أَزَجُّ الحواجب، سوابغ من غير قَرَن، بينهما عِرْق يُدرُّه الغضب، أقنى العِرْنين، له نور [يعلوه] ، يحسبه من لم يتأمَّلْه أَشَمَّ، كثُّ اللِّحية، سهل الخدَّين(62) ، ضليع الفم، مفلَّج الأسنان، دقيق المَسْرُبة، كأنَّ عنقه جيدُ دُمية، في صفاء الفضَّة، معتدل الخلق، بادِنٌ(63) متماسك، سواء البطنِ والصَّدرِ، عريض الصَّدر، بعيد ما بين المَنْكِبَين، ضخم الكراديس، أنور المتجرَّد، موصول ما بين السُّرَّة واللَّبَّة بشعر يجري كالخطِّ، عاري الثَّديين والبطن ممَّا(64) سوى ذلك، أشعر الذِّراعين والمَنْكِبَيْن وأعالي الصَّدر، طويل الزَّنْدين، رحب الرَّاحة، شَثْن الكفَّين والقدمين، سائل(65) ، أو قال: سائر الأطراف، خُمْصان الأَخْمَصين، مَسِيْح(66) القدمين، ينبو الماء عنهما، إذا زال زال قلعاً، يخطو تكفُّؤاً، ويمشي هَوْناً، ذريع المِشْية، إذا مشى كأنَّما ينحطُّ من صَبَب، وإذا التفت التفت جميعاً، خافض الطَّرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السَّماء، جُلُّ نظره الملاحظة، يسوق أصحابه، يبدأ من لقيه بالسَّلام(67) .
          تنبيه: قوله: فخماً مفخَّماً، أي كان جميلاً مهيباً، فهو لجماله عظيم، والنَّاس يعظِّمونه لذلك، ولغيره من الأمور التي توجب التَّعظيم. والمُشَذَّب: المفرط الطُّول، وأصله من النَّخلة إذا شُذِّب جريدها، أي زاد طولها، والمشذَّب: الطَّويل، لا عرض معه، أي ليس بطويل مائل. وعظيم الهامة، أي تامُّ الرَّأس في تدويره. والقَطَطُ: الشَّديد الجعودة. والرَّجلُ: الذي لا جعودة فيه، فهو بينهما. والأزهر الأبيض المشرق(68) . أزجُّ الحواجب سوابغ، أي طويلهما. وبينها بلج من غير قرن، والبلج موصوف انتهى.
          قال مالك بن دينار: حدَّثني هند بن خديجة زوج النَّبيِّ صلعم قال: مرَّ النَّبيُّ صلعم بالحكم / أبي مروان(69) ، فجعل الحكم يغمز بالنَّبيِّ صلعم، ويشير بأصبعه(70) ، فالتفت إليه النَّبيُّ صلعم، فقال: «اللهم اجعل له وَزْغاً». والوَزْغَ _بالزَّاي، والغين [المعجمتين]_ الارتعاش، قال: فرجف مكانه. قلت: واستمرَّ كذلك إلى الموت، ونفاه رسول الله صلعم إلى الطَّائف(71) ، ولم يردَّه أبو بكر، فشفع إليه، فقال: شخص نفاه رسول الله صلعم لا أردُّه. فلمَّا تولَّى عمر شفع إليه، فقال: معاذ الله، شخص نفاه رسول الله صلعم، وما ردَّه خليفته، كيف أردُّه؟ فلمَّا تولَّى عثمان ردَّه، فانتقم الصَّحابة من ذلك، وقالوا: كيف تردُّ المنفيَّ، وما ردَّه صاحباك؟! فقال: كان النَّبيُّ صلعم وعدني أن يردَّه، فرددته. والحَكَم المنفيُّ هو والد مراون بن الحكم.
          تكملة:
          عدَّ ابن الأثير في أسد الغابة(72) في أسماء الصَّحابة منهم، هند بن هند بن (أبي) هالة، قال: وقتل هند بن هند مع مصعب ابن الزُّبير، يوم قتل المختار، وذلك سنة سبع وستِّين. نقله عن الزُّبير بن بكَّار، قال: وقيل: مات بالبصرة بالطَّاعون، فازدحم النَّاس على جنازته، وتركوا جنائزهم، وقالوا: ربيب رسول الله صلعم.
          وقال محمَّد بن الحجَّاج _عن رجل من تميم_: رأيت هند بن هند بالبصرة، وعليه حلَّة خضراء من غير قميص، فمات بالطَّاعون، فخرجوا (به) بين أربعة، واشتغل النَّاس بموتاهم، فصاحت امرأة: واهند بن هنداه، وابن ربيب رسول الله صلعم. فازدحم النَّاس على جنازته، وتركوا موتاهم. انتهى كلام ابن الأثير. قلت: وهو مخالف لما ذكره الطَّبريُّ في السِّمط الثَّمين، كما ذكرنا أوَّلاً، وقال ابن الأثير: قيل: إنَّ هند بن هند مات بالبصرة، وانقرض عقبه، فلا عقب لهم.


[1] في غير (ن): (خمسة).
[2] عيون الأثر:1/69.
[3] في غير (ن): (وإني).
[4] في غير (ن): (من اليهود ولكني).
[5] في (ن): (فاخرة).
[6] في (ن): (الرزق).
[7] شرح البخاري:1/33.
[8] في (ن) تصحيفاً: (فدعا ذلك ميسرة).
[9] في (ن): (ضعف).
[10] في غير (ن): (سمته).
[11] في غير (ن): (هي نفسه عليه).
[12] في غير (ن): (يابن عمي).
[13] في (ن): (وبسطتك).
[14] في غير (ن): (من الخمرة).
[15] في غير (ن): (بكثير).
[16] في (ن): (ما رأيت عنها ما رأيت من صاحبة) وهو وهم.
[17] في (ن): (أو اثنا عشر) والمثبت هو الوجه في اللغة.
[18] الخبر في دلائل النبوة للبيهقي:2/2، وفيه: إن أبا طالب خرج في ركب إلى الشام تاجراً، فلما تهيأ للرحيل ضَبَّ به رسول الله، فأخذ بزمام ناقته، وقال: يا عم، إلى من تكلني؟ لا أب لي ولا أم، فَرَقَّ له أبو طالب... الخبر.
[19] في غير (ن): (لأنه رأى حين أقبلوا غمامة).
[20] في غير (ن): (على الصفة).
[21] في غير (ن): (من اليهود).
[22] في (ن): (ليتبعنه).
[23] أخرج هذه الرواية الترمذي في سننه برقم(362 0) وقال: حديث حسن غريب.
[24] في غير (ن): (عليهم) وهو تصحيف.
[25] في (ن): (أناس).
[26] سقطت من الأصول كلمة (فبعثنا) واستدركت من أسد الغابة.
[27] في غير (ن): (أفرأيتم إن أراد الله أمراً).
[28] أسد الغابة:7/80.
[29] السمط الثمين للمحب الطبري: ص15.
[30] في غير (ن): (في قول).
[31] في (ن): (الأمر).
[32] في غير (ن): (يوازن).
[33] في غير (ن): (ممن).
[34] في (ن): (اثني عشر).
[35] في غير (ن): (فقالت).
[36] في غير (ن): (ونظراء).
[37] في (ن) هنا بياض مقدار كلمة.
[38] في غير (ن): (يابن عم).
[39] في (ن): (ظهر لي جبريل في أعلى مكة).
[40] في (ن): (تعجب).
[41] في (ن) تصحيفاً: (ويتردد) في الموضعين.
[42] في (ن) تصحيفاً: (وتحمل الكلأ).
[43] في غير (ن): (بغني).
[44] في غير (ن): (ما تتحنث به قريش).
[45] في (ن): (المساكين).
[46] في (ن) تصحيفاً: (وذكر الفت مرات).
[47] في غير (ن): (ولا).
[48] في غير (ن): (باثنين).
[49] الحديث في البخاري برقم (6426).
[50] في الأصول، و(سارة) بدل (آسية)، والمثبت من مجمع الزوائد للهيثمي:9/165، برقم (15273)، من طريق مهاجرين ميمون عنها، ولم يعرفه الطبراني؛ إذ رواه في الأوسط، قال: ولا أظنه سمع منها، وبقية رجاله ثقات.
[51] في غير (ن): (حرم).
[52] المخَيلة: السحابة الخليقة بالمطر، والحديث في مسند الإمام أحمد، برقم (25171) وقال شيخنا شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.
[53] في (ن): (وسقطت).
[54] في (ن): (بها علي).
[55] الحديث في صحيح البخاري برقم (3821).
[56] الاستيعاب:4/1822.
[57] أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد:9/158، برقم (15248)، وقال: رواه الطبراني: منقطع الإسناد، وفيه محمد بن الحسن بن زبالة، وهو ضعيف، وجاء في أصولنا: (بالكره منه ما أثني عليك يا خديجة)، والمثبت من المجمع، ومن تاريخ دمشق لابن عساكر:70/119، وجاء في أسد الغابة فقط: (بالكره مني ما أثني عليك يا خديجة).
[58] صفة الصفوة لابن الجوزي:2/9.
[59] في غير (ن): (سنت الجنازة للصلاة).
[60] في غير (ن): (وأختاً وأخاً).
[61] أسد الغابة:5/389، وفيه: وابن ابن ابنه هند بن هند بن هند.
[62] في (ن): (سهل الحديث).
[63] في (ن) تصحيفاً: (بادر).
[64] في (ن): (كما).
[65] في (ن): (سافل).
[66] في (ن): (مسح).
[67] الحديث في الطبقات الكبرى لابن سعد:1/422، وفي ثقات ابن حبان:2/146، وجاء في الأصول: (ما بين الصدر واللبة) والمثبت منهما، ومن دلائل النبوة للبيهقي:1/286، ومن أسد الغابة:5/390، وفيه تفسير الغريب.
[68] في (ن): (المشرف).
[69] في (ن) تصحيفاً: (بالحكم أبي مروان).
[70] في (ن): (بأصبعه).
[71] في الأصول كلها: (إلى اليمن) والتصويب من السير وقد سبق أن ذكر المصنف في ترجمة معاوية أنه نفي إلى الطائف وهو الصحيح.
[72] 5/389، وجاء في الأصول: (هند بن هند بن هند) ثلاث مرات، فحذفت واحداً، لكي يوافق ما في أسد الغابة، وكذلك المواضع بعده كررها ثلاثاً.