الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: لما كسرت بيضة النبي على رأسه وأدمي وجهه

          2903- وبالسند قال: (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ) بالعين المهملة والفاء مصغَّراً، ونسبه لجدِّه وإلا فهو سعيدُ بن كثير _بمثلثة_ كأمير مكبراً، كابنه، قال: (حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) أي: ابن محمَّد القاري، بتشديد الياء آخره نسبة لقبيلة (عَنْ أَبِي حَازِمٍ) بالحاء المهملة والزاي، وهو سلمةُ بن دينارٍ الأعرج.
          (عَنْ سَهْلٍ بْنِ سَعْدٍ) بفتح السين المهملة فيهما؛ أي: السَّاعدي ☺، وسقطَ ابن سعْد من بعض الأصولِ ووقع في بعضِها، هو: ابنُ سعد (قَالَ: لَمَّا كُسِرَتْ) ببنائه للمفعول وتخفيف السين المهملة (بَيْضَةُ النَّبِيِّ صلعم) أي: بيضَة درعِهِ، وهي بفتح الموحدة وسكون التحتية وفتح الضاد المعجمة السَّاقطة؛ أي: خودته.
          قال في ((القاموس)): البيضةُ واحدةُ بيضِ الطَّائر، والجمع: بيوض وبيضات، والحديد، والخصية، وجودة كلِّ شيءٍ، وساحة القوم، وموضِعٌ بالصَّمَّان، ويكسرُ، وبيضَةُ النَّهار، وهو أذلُّ من بيضةِ البلدِ من بيضةِ النَّعام التي تترُكُها، وهو بيضَةُ البلدِ، واحدُهُ الذي يجتمعُ عليه، ويقبلُ قوله، ضدٌّ، انتهى.
          فائدة: قال في ((المصباح)): باضَ المطرُ ونحوه يبيضُ بيضاً فهو بائضٌ، والبيضُ له بمنزلةِ الولد للدَّواب، قال: ويحكَى عن الجاحظِ أنَّه صنَّف كتاباً فيما يبيضُ / ويلدُ من الحيواناتِ فأوسعَ في ذلك فقال له عربي: يجمع ذلك كلَّه كلمتان كلُّ أَذُونٌ ولودٌ، وكلُّ صَمُوخٌ بيُوضٌ، الواحدة بيضة، انتهى.
          (عَلَى رَأْسِهِ) متعلق بـ((كسرت)) أو حال من ((بيضة)) (وَأُدْمِيَ وَجْهُهُ) بسكون دال ((أدْمي)) وبنائه للمجهول (وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ) بتخفيف سين ((كسرت))، والرَّباعية _بفتح الراء وتخفيف الموحدة والتحتية بينهما عين مهملة مكسورة_:السنُّ التي بين الثَّنية والنَّاب، ويجمعُ على رباعيات _بتخفيف الياء أيضاً_ وكان كسرها يوم أحُدٍ، وكان الذي كسرَهَا عُتبة بن أبي وقَّاص، ومن ثمَّ لم يُولد من نسلِهِ ولدٌ فيبلغُ الحنْثَ إلا وهو أبخرُ؛ أي: مكسور الثنايا من أصلها يُعرف ذلك في عَقبهِ.
          وعند ابن هشام أنها اليُمنى السُّفلى، وزادَ: وجرحَ شفتَه السفلى، وأن عبد الله بن هشام الزُّهري شجَّه في جبهتهِ، وأن ابنَ قميئةَ جرحَ وجنتَه فدخلتْ حلقتانِ من المغْفَر في وجنتهِ.
          وعند الطَّبراني: أنَّ عبد الله بن قَمِيئة رمى النبيَّ صلعم يوم أحُد فشجَّ وجهَه وكسرَ رباعيتَه، فقال: خذْهَا وأنا ابنُ قَمِيئة، فقال رسول الله صلعم: ((أقمَأَكَ اللهُ)) فسلَّطَ الله عليه تيسَ جبلٍ، فلم يزلْ ينطحُه حتى قطَّعه قطعةً قطعةً.
          وفي ((العيني)) فقال له النبي صلعم: ((أقمَأَك اللهُ في النَّار)) فدخلَ بعدَ ذلك صُبْرة غنَمٍ فنطحَهُ تيسٌ منها وراءه فلم يوجد له مكان، وأراد أبي بن خلف أن يرميَه، فأرادَ أبو طلحة أن يحولَ بينَه وبينه فقال له النبيُّ صلعم: ((كمَا أنت)) ورمَى رسولُ الله فأصابَه تحت سابغةِ الدِّرع في نحرهِ فماتَ من يومهِ، انتهى.
          وعند الحاكم في ((مستدركه)) من حديث حاطب بنِ أبي بلتعَةَ أنه صلعم قال له بأحد أنَّ عُتبة بن أبي وقاص هشمَ وجهِي ودقَّ رباعيتي بحجرٍ رماني به، قلت: فأين توجَّه عُتبة فأشار إلى حيث توجَّه فمضيتُ حتى توجَّهتُ به فضربتُه بالسَّيف فطرحتُ رأسه فهبطتُ فأخذتُ برأسه وسلبهِ وفرسهِ، وجئتُ به إلى النبيِّ صلعم، وعند ابنِ عائذ: من طريق الأوزاعيِّ بلغنا أنَّه صلعم لما جرحَ يوم أحُدٍ أخذَ شيئاً فجعلَ ينشِّفُ دمه، وقال: لو وقعَ منه شيءٌ على الأرضِ لنزل عليهم العذابُ من السماء.
          (وَكَانَ عَلِيٌّ) أي: ابن أبي طالب ☺ (يَخْتَلِفُ) بسكون الخاء المعجمة فمثناة فوقية مفتوحة فلام مكسورة ففاء آخره؛ أي: يذهبُ ويعودُ (بِالْمَاءِ فِي المِجَنِّ) أي: مرَّة بعد أُخرى فيغسلُ به الدم (وَكَانَتْ فَاطِمَةُ) أي: ابنته عليه السلام (تَغْسِلُهُ) بفتح الفوقية وسكون الغين المعجمة؛ أي: الدم بذلك الماء الَّذي يأتي به علي في المجنِّ.
          (فَلَمَّا رَأَتِ) أي: فاطمة (الدَّمَ يَزِيدُ) بالزاي (عَلَى المَاءِ كَثْرَةً) بسكون المثلثة منصوب على التَّمييز. قال في ((القاموس)): الكثرة _ويكسر_:نقيضُ القلَّة، كالكثرة بالضَّمِّ.
          (عَمَدَتْ) بفتح العين المهملة والميم والدال المهملة وسكون تاء التأنيث؛ أي: قصدتْ فاطمة (إِلَى حَصِيرٍ) بالحاء والصاد المهملتين كأمير، قال في ((المصباح)): الحصيرُ الباريةُ، وجمعها: حُصُر، مثل بَرِيد وبُرُد، وتأنيثها بالهاء عامِّي، انتهى.
          وقال في ((القاموس)): الحصيرُ: كلُّ مَا نُسِجَ من جميعِ الأشياء، وثوْبٌ مزخرفٌ موشَّى: إذا نُشِرَ أخذت القلوبَ مأخذُهُ لحسنهِ.
          (فَأَحْرَقَتْهَا) وللطَّبراني: ((فأحرقَتْ حصِيراً حتى صارَتْ رمَاداً)) (وَأَلْصَقَتْهَا عَلَى جُرْحِهِ) بضم الجيم (فَرَقَأَ) بفتحات وهمز آخره بعد القاف؛ أي: انقطعَ (الدَّمُ).
          ومطابقة الحديث للترجمةِ في قوله: ((وكانَ علي يختلفُ بالماءِ في المجَنِّ)).
          وفي الحديثِ امتحان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وابتلاءهم ليعظم بذلك أجرُهم ويكون أسوةً لمن ناله جرحٌ أو ضررٌ / من أصحابه وغيرهم فلا يجدونَ في أنفسهم ممَّا نالهم غضاضَة، ولا يجد الشَّيطان له سبيلاً عليهم كأنْ يقول لهم: تقتلون أنفسَكُم وتحتملونَ الآلامَ والجِرَاحاتِ وغيرها في صونِ هذا، فإذا أصابَهُ مثلُ ما أصابهم تأسَّوا به.
          وفيه أيضاً خدمةُ الإمام، وأنَّ تِرْس عليٍّ لم يكنْ متبسطاً ليمكن حمل الماء فيه، وأن النساء أنسبُ بمعالجة المرضَى والجرحَى.
          والحديث أخرجه المصنف أيضاً في المغازي والطب.