أصل الزراري شرح صحيح البخاري

باب وجوب الصلاة في الثياب وقول الله تعالى {خذوا زينتكم عند}

          ░2▒ هذا (باب) في بيان (وجوب الصلاة في الثياب) : الجار والمجرور حال، وإنما ذكر (الثياب) بلفظ الجمع؛ لأنَّه على حد قولهم: فلان يركب الخيول، ويلبس البرود، والمراد به: ستر العورة، واتفق العلماء: على أن ستر العورة فرض بالإطلاق، واختلفوا هل هو شرط من شروط الصلاة أم لا؟ فمذهب إمامنا رئيس المجتهدين الإمام الأعظم، وأصحابه، وعامة الفقهاء، وأهل الحديث: أن ذلك شرط لصحة الصلاة فرضها ونفلها، وبه قال محمد بن إدريس.
          واختلف أصحاب مالك: هل ذلك فرض أو سنة؟ فذهب جماعة: إلى أنه من سنن الصلاة، وقال التونسي: هو فرض في نفسه لا من فروضها، وقال ابن عطاء الله: إنه شرط فيها ومن واجباتها مع العلم والقدرة دون النسيان، والمشهور أنه ليس من شروطها، بل من سننها، وهو ظاهر مذهب مالك مستدلًّا بحديث عمرو بن سلمة لما انقلصت بردته، فقالت امرأة: غطوا عنا است قارئكم، وسيأتي بيانه.
          فإن قلت: للصلاة شروط غير هذا، فما وجه تخصيصه بالتقدم على غيره؟
          قلت: لأنَّه ألزم من غيره، وفي تركه بشاعة عظيمة بخلاف غيره من الشروط، ولأن في تركه سوء أدب مع الله تعالى، فإنه وإن كان يرى ما تحت الثياب إلا أنه يطلب في حقه الستر؛ تأدبًا مع الخالق ╡.
          (وقول الله ╡) : بالجر عطفًا على قوله: (وجوب الصلاة)؛ والتقدير: وفي بيان معنى قول الله ╡، هذه رواية الأصيلي، وابن عساكر، وفي رواية غيرهما: (وقول الله تعالى)؛ يعني: في سورة الأعراف، قال: يا بني آدم ({خُذُوا زِينَتَكُمْ} )؛ يعني: ثيابكم لأجل موارات عوراتكم ({عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } ) [الأعراف:31]؛ أي: لطواف أو صلاة، وأراد بالـ (زينة) : ما يواري العورة، وبالـ (مسجد) : الصلاة، ففي الأول: إطلاق اسم الحال على المحل، وفي الثاني: إطلاق اسم المحل على الحال؛ لوجود الاتصال الذاتي بين الحال والمحل، وهذا لأنَّ أخذ الزينة نفسها_وهي عرض_ محالٌ، فأريد محلها، وهو الثوب مجازًا، وكانوا يطوفون بالبيت عراة، ويقولون: لا نعبد الله في ثياب أذنبنا فيها، فنزلت هذه الآية، لا يقال: نزولها في الطواف، فكيف يثبت الحكم في الصلاة؟ لأنَّا نقول: العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، وهذا اللفظ عام؛ لأنَّه قد قال: {عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ}، ولم يقل: عند المسجد الحرام، فيعمل بعمومه، ويقال: {خُذُوا زِينَتَكُمْ} من قبيل إطلاق المسبب على السبب؛ لأنَّ الثوب سبب الزينة، ومحل الزينة الشخص، وقيل: المراد بالزينة: ما يتزين به من ثوب وغيره، كما في قوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور:31]، والستر لا يجب لعين المسجد بدليل جواز الطواف عريانًا، فعلم من هذا أن ستره للصلاة لا لأجل الناس، حتى لو صلى وحده ولم يستر عورته؛ لم تجز صلاته وإن لم يكن عنده أحد، كذا في «عمدة القاري»، ويدل لهذا: قوله تعالى في قصة آدم قال: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا} [الأعراف:26] : وهو ما يلبس اتقاء عن انكشاف العورة بين يدي الله تعالى، فبين أولًا إنزال ما يواري العورة من اللباس، وثانيًا بإنزال لباس التجمل، ثم فضل اللباس الأول على الثاني بأنه وسيلة إلى إقامة الفرض، والثاني إلى إقامة الأمر المندوب، وهو التزين عند حضور مواضع العبادات تعظيمًا لها، ولا ريب أن ما يكون وسيلة إلى إقامة الفرض خير مما يكون وسيلة إلى إقامة المندوب، فقال: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف:26]، وقال الإمام أبو منصور ☼: (يحتمل أن معنى هذه الآية: صلوا في كل مسجد ولا تخصوا بالصلاة حيكم، والزينة نفس الصلاة، فإن العبادة زينة كل عابد)، فالزينة وإن كانت اسمًا لما يتزين به من الثياب الفاخرة إلا أن المراد بالزينة ههنا: الثياب التي تستر العورة، وقد أجمع المفسرون على ذلك استدلالًا بسبب نزول الآية، فإنه قد روي عن ابن عباس: أن أهل الجاهلية من قبائل العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة، وقالوا: لا نطوف في ثياب أصبنا فيها الذنوب، فكان الرجال يطوفون بالنهار، والنساء بالليل، قال ابن عباس: فأمرهم الله تعالى أن يلبسوا ثيابهم ولا يتعروا، وقال قتادة: كانت المرأة تطوف، وتضع يدها على فرجها، وتقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله                     وما بدا منه فلا أحله
          فنزلت هذه الآية، وقال الكلبي: (الزينة: ما وارى العورة عند كل مسجد لطواف أو صلاة)، وقال مجاهد: وارِ(1) عورتك ولو بعباءة، فقد اتفق العلماء على أن المراد منه: ستر العورة، وفي «مسلم» من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال النبيُّ الأعظم صلعم: «لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة»، وعن المسور بن مخرمة: قال له النبيُّ الأعظم صلعم: «ارجع إلى ثوبك، فخذه ولا تمشوا عراة»، وفي «صحيح ابن خزيمة» عن عائشة ترفعه إلى النبيِّ الأعظم صلعم: «لا يقبل الله صلاة امرأة قد حاضت إلا بخمار»، وقال ابن بطال: (أجمع أهل التأويل: على نزولها في الذين كانوا يطوفون بالبيت عراة)، وقال ابن رشد: من حمله على الندب؛ قال: المراد بذلك الزينة الظاهرة من الرداء، وغيره من الملابس التي هي زينة، مستدلًّا بما في الحديث: أنه كان رجال يصلون مع النبيِّ الأعظم صلعم عاقدي أزرهم على أعناقهم؛ كهيئة الصبيان، ومن حمله على الوجوب؛ استدل بحديث مسلم عن ابن عباس: كانت المرأة تطوف بالبيت عريانة، فتقول: من يعيرني بطواف، أو تقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله                     .... .. ..
          فنزلت: {خُذُوا زِينَتَكُمْ...}؛ الآية.
          وزعم ابن حجر أن البخاري يشير بهذه الآية إلى ما قاله طاووس: إن المراد بالزينة: الثياب، ورده إمام الشَّارحين فقال: (هذا تخمين وحسبان، وليس عليه برهان) .
          قلت: وما زعمه ابن حجر باطل؛ لأنَّ مراد البخاري ليس / كذلك، وإنما مراده الإشارة إلى أن ستر العورة في الصلاة فرض، ولهذا ترجم إليه بـ (باب وجوب الصلاة في الثياب)؛ يعني: مستور العورة، والثياب ليست قيدًا في ذلك، بل يجوز ستر العورة بحشيش أو طين عند فقد الثياب، وكذا يجوز سترها بجلد طاهر ونحوه، وإنما ذكر الثياب باعتبار الأغلب، وليس ما ذكره ابن حجر عن طاووس بصحيح؛ لأنَّ الذي قاله المفسرون عن طاووس: إنه قال: لم يأمرهم بالحرير أو الديباج، ولكن كان أهل الجاهلية يطوف أحدهم بالبيت عريانًا ويدع ثيابه وراء المسجد، فإن طاف وهي عليه؛ يضرب وانتزعت منه، فنزلت هذه الآية، فعلم بهذا أن المراد مما قاله طاووس: هو ستر العورة، وليس المراد: الزينة بمعنى: التجمل؛ حيث نفى ذلك بقوله: لم يأمرهم بالحرير أو الديباج، وما هو إلا للتجمل للنساء؛ فليحفظ.
          وقوله: (ومن صلى ملتحفًا في ثوب واحد) : ثابت في رواية المستملي وحده، ساقط عند غيره من الرواة، ولهذا لم يتعرض له إمام الشَّارحين في «المنن»، وعلى إثباته يقال: وفي معنى الذي يصلي حال كونه ملتحفًا في ثوب واحد، فإنه جائز؛ حيث كان ساترًا للعورة، فالمقصود سترها سواء كان بثوب واحد أو أكثر؛ فافهم.
          (ويُذكَر)؛ بضم المثناة التحتية أوله، وفتح الكاف، تعليق بصيغة التمريض، وهو يدل على ضعفه، ووجهه سيأتي بيانه (عن سَلَمَة)؛ بفتحات (ابن الأكْوع)؛ بسكون الكاف ☺ (أن النبيَّ) الأعظم (صلعم قال) : فيمن صلى بثوب واحد (يَزرُّه)؛ بفتح المثناة التحتية، وضم الراء المشددة، وللأصيلي: (تزره)؛ بمثناة فوقية، ولأبي ذر (يزر)؛ بحذف الضمير؛ يعني: يشده عليه بأن يجمع بين طرفيه؛ لئلا يفرج فترى عورته، وهذا التعليق وصله أبو داود فقال: حدثنا القعنبي: أخبرنا عبد العزيز_يعني: بن محمد_ عن موسى بن إبراهيم، عن سلمة ابن الأكوع قال: قلت: يا رسول الله؛ إني رجل أصيد، أفأصلي بالقميص الواحد؟ قال: «نعم، وأزرره».
          (ولو بشوكة) : وأخرجه النسائي، والمؤلف في «تاريخه»، وابن حبان، وابن خزيمة، وغيرهم، فقوله: (أفأصلي) : الهمزة فيه للاستفهام، فلذلك قال في جوابه: (نعم)؛ أي: تصلي، وقوله: (ولو بشوكة)؛ يعني: ولو لم يكن ذلك إلا بأن يزره بشوكة لأجل أن يستمسك بها عليك؛ فليفعل، والباء الموحدة فيه تتعلق بمحذوف؛ تقديره: ما ذكرنا، وهذه اللفظة فيما ذكره البخاري بالإدغام على صيغة المضارع، وفي رواية أبي داود: بالفك على صيغة الأمر من (زرَّ يزرُّ)، من باب (نصَر ينصُر)، ويجوز في الأمر الحركات الثلاث في الراء، ويجوز الفك أيضًا، فهي أربعة أحوال كما في (مد) الأمر، ويجوز في مضارعه الضم، والفتح، والفك، وقال ابن سيده: (الزر: هو الذي يوضع في القميص، والجمع أزرار وزرور، وأزر القميص: جعل له زرًّا، وأزره: شد عليه أزراره)، وقال ابن الأعرابي: (زر القميص: إذا كان محلولًا؛ فشده، وزر الرجل: شد زره)، وأورد المؤلف هذا؛ لدلالته على وجوب ستر العورة، وإشارة إلى أن المراد بأخذ الزينة في الآية السابقة لبس الثياب لا تزينها وتحسينها، وإنما أمر بالزر؛ ليأمن المصلي من وقوع الثوب عن بدنه، ومن وقوع نظره على عورته من زيقه حالة الركوع، ومن هذا أخذ الإمام محمد بن شجاع من أصحابنا: أن من نظر على عورته من زيقه؛ تفسد صلاته، قاله إمام الشَّارحين.
          قلت: وعامة أئمتنا الأعلام: على عدم فساد صلاته بذلك، قال الشرنبلالي في «الإمداد»: (ولا يضر نظرها؛ أي: العورة من جيبه وأسفل زيله؛ لأنَّ ستر العورة على وجه لا يمكن الغير النظر إليها إذا تكلف مما يؤدي إلى الحرج وهو مدفوع بالنص) انتهى.
          وقال في «النهر»: (لأنه يحل له مسها والنظر إليها، ولكنه خلاف الأدب، واختار برهان الدين الحلبي: أن تلك الصلاة مكروهة، وإن لم تفسد) انتهى.
          وفي «الإمداد»: (ويشترط ستر العورة ولو في ظلمة، والشرط سترها من جوانبه على الصحيح) انتهى.
          أمَّا الستر في الخلوة؛ فصحح برهان الدين الحلبي: وجوب الستر فيها، وصحح صاحب «الإمداد»: عدمه، فقد اختلف التصحيح، ووفق بعضهم بينهما: بأنه إذا كان مكان طوله ذراع ونصف، وعرضه كذلك؛ لا يجب الستر، وإن كان أكثر من ذلك؛ فواجب، وفي «شرح النقاية» للقهستاني: (وليس لستر الظلمة اعتبار، ومثله الستر بالزجاج)، كما في «القنية»، ولا يضر تشكل العورة بالتصاق الساتر الضيق بها، كما في شرح «المنية».
          والعورة في اللغة: كل ما يستقبح ظهوره، مأخوذة من العور؛ وهو النقص، والعيب، والقبح، ومنه: عور العين، وكلمة عوراء؛ أي: قبيحة، وسميت السوءة عورة؛ لقبح ظهورها، وغض الأبصار عنها، وكل شيء يستره الإنسان أنفة أو حياء؛ فهو عورة، والنساء عورة، كذا ذكره أئمة اللغة، وتمامه في شرحنا «منهل الطلاب»، والله تعالى أعلم بالصواب.
          قال أبو عبد الله المؤلف: (وفي) : وللأصيلي بحذف الواو (إسناده) أي: إسناد هذا الحديث المذكور (نظر) : وجه النظر كما قاله إمام الشَّارحين من جهة موسى بن إبراهيم، وزعم ابن القطان أنه موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، وهو منكر الحديث، فلعل البخاري أراده، فلذلك قال: (في إسناده نظر)، وذكره معلقًا بصيغة التمريض، لكن أخرجه ابن خزيمة في «صحيحه» عن نصر بن علي، عن عبد العزيز، عن موسى بن إبراهيم قال: سمعت سلمة ابن الأكوع؛ فذكره، وفي رواية: (وليس علي إلا قميص واحد، أو جبة واحدة، فأزره؟ قال: «نعم؛ ولو بشوكة»)، ورواه ابن حبان أيضًا في «صحيحه»: عن إسحاق بن إبراهيم: حدثنا ابن أبي عمر: حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن موسى بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن ربيعة، عن سلمة ابن الأكوع قلت: (يا رسول الله؛ إني أكون في الصيد، وليس علي إلا قميص واحد؟ قال: «فازرره؛ ولو بشوكة»)، ورواه الحاكم في «مستدركه»، وقال: (هذا حديث مدني صحيح)، فظهر بهذه الرواية / أن موسى هذا غير موسى ذاك الذي ظنه ابن القطان، وفيه ضعف أيضًا، ولكنه دون ذاك، وروى الحافظ أبو جعفر الطحاوي: حدثنا ابن أبي داود قال: حدثنا ابن قتيبة قال: حدثنا الدراوردي، عن موسى بن محمد بن إبراهيم، عن أبيه، عن سلمة ابن الأكوع، وهذا اختلاف آخر، كذا قاله إمام الشَّارحين.
          وزعم ابن حجر أن من صحح هذا الحديث؛ فقد اعتمد على رواية الدراوردي، ورده إمام الشَّارحين فقال: (ويجوز أن يكون وجه ذلك اعتمادًا على رواية موسى بن إبراهيم المخزومي لا على رواية موسى بن إبراهيم التيمي، والمخزومي: هو موسى بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي، وهذا هو الوجه في تصحيح من صححه، ويشهد لما قلنا رواية ابن حبان المذكورة آنفًا، ولا يبعد أن يكون كل واحد من المخزومي والتيمي روى هذا الحديث عن سلمة ابن الأكوع، وحمل عنهما الدراوردي، ورواه) انتهى.
          وزعم ابن حجر أن ذكر محمد فيه شاذ، ورده إمام الشَّارحين فقال: (حكمه بشذوذه إن كان من جهة انفراد الحافظ الطحاوي؛ فليس بشيء؛ لأنَّ الشاذ من ثقة مقبول) انتهى.
          قلت: على فرض كونه شاذًّا، والحال أنه ليس بشاذ؛ لأنَّ الحافظ الطحاوي إمام هذه الصنعة مشهور بكونه ثقة ثبتًا حجة، وحين كان كذلك كان ابن حجر منيًا في ظهر أبيه بعسقلان؛ فليحفظ.
          (ومن صلى)؛ أي: وباب من صلى (في الثوب الذي يجامع)؛ بضم المثناة التحتية أوله؛ أي: يطأ (فيه) امرأته أو أمته؛ فحكمه: أنه (ما لم ير فيه أذى)؛ أي: من مني ونحوه من النجاسات؛ فصلاته فيه صحيحة، وكلمة (ما) مصدرية ظرفية؛ ومعناها(2) : المدة؛ يعني: مدة عدم وجود الأذى فيه فيصلي فيه، وأمَّا إذا وجد فيه منيًا أو نحوه؛ فلا يصلي فيه؛ لكونه حاملًا للنجاسة، فأشار البخاري بهذه الترجمة إلى اشتراط طهارة الثوب من النجاسة؛ لأنَّه ذكر أولًا اشتراط ستر العورة، وهنا ذكر اشتراط طهارة الساتر، وهذا يدل على أن المؤلف يرى نجاسة المني كما هو مذهب الجمهور؛ لأنَّه صرح بهذه الترجمة صلاة الرجل في الثوب الذي يجامع فيه، والغالب أنَّ هذا الثوب يصيبه شيء من المني حين الجماع، فأفاد أن ما يصيبه من المني نجس لا يصلى بالثوب الذي فيه المني، وأفاد أيضًا أن رطوبة الفرج نجسة، وقد يقال: لا يفيد كلامه ذلك؛ لأنَّه صرح بالجماع، ووجوده لا يخلو عن المني، فالرطوبة داخلة في المني، وهي طاهرة، لكن لما خالطه النجس؛ تنجست؛ فليحفظ.
          ويدل لما ذكرناه ما رواه أبو داود والنسائي من طريق معاوية بن أبي سفيان: أنه سأل أخته أم حبيبة: (أهل كان رسول الله صلعم يصلي في الثوب الذي يجامع فيه؟ قالت: نعم؛ إذا لم ير فيه أذًى)، وصححه ابنا حبان وخزيمة، وسقط في رواية الحموي لفظة: (فيه)، وفي رواية المستملي: (إذا لم ير فيه دمًا)، وهذه الرواية تعين ما قلنا؛ لأنَّ الدم أخو(3) المني في النجاسة.
          قال الكرماني: وقوله: (ومن صلى...) إلى آخره: من تتمة الترجمة.
          وقال صاحب «التوضيح»: (وهذا منه دال على الاكتفاء بالظن فيما يصلي فيه لا القطع) انتهى.
          قلت: فإن غلبة الظن بمنزلة اليقين، فلو غلب على ظنه نجاسة الثوب؛ لا يصلي فيه ما لم يتيقن طهارته إما بغسله كله أو بعضه بأن تحرى مكانًا خاصًّا فيه أنه الذي أصابه النجس، فغسله فيصلي فيه، ولا كلام عند القطع بالنجاسة، كما لا يخفى.
          وزعم ابن حجر أن البخاري يشير بقوله: (ومن صلى...) إلى آخره: إلى ما رواه أبو داود، والنسائي، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان من طريق معاوية بن أبي سفيان: أنه سأل أخته أم حبيبة: (أهل كان رسول الله صلعم يصلي في الثوب الذي يجامع فيه؟ قالت: نعم؛ إذا لم ير فيه أذًى)، قال إمام الشَّارحين: (قلت: وما قاله الكرماني أوجه؛ لأنَّه اقتبس هذا من الحديث المذكور، وأراد به إدخاله في ترجمة الباب، وهذا كما رأيت قد أخذ ثلاثة أحاديث، وأدخلها في ترجمة الباب؛ الأول: حديث سلمة ابن الأكوع، وقد مر، والثاني: حديث أم حبيبة، أخرجه أبو داود عن معاوية بن أبي سفيان: أنه سأل أخته أم حبيبة زوج النبيِّ الأعظم صلعم: «هل كان رسول الله صلعم يصلي في الثوب الذي يجامع فيه؟ فقالت: نعم؛ إذا لم ير فيه أذًى»، وأخرجه النسائي، وابن ماجه، وابن حبان، وصححاه، الثالث: حديث أبي هريرة ☺، كما سنذكره) انتهى كلامه.
          قلت: وفي حديث أم حبيبة دليل واضح على نجاسة المني؛ لأنَّه ◙ صرح: بأن ما يصيب الثوب حال الجماع نجس لا يصلى فيه، وليس يصيب الثوب حال الجماع إلا المني، فهو دال على نجاسته، وهذا حجة على من زعم طهارته؛ فافهم.
          (وأمر النبي) الأعظم، وفي رواية: (رسول الله) (صلعم) فيما وصله المؤلف في الباب الثامن بعد هذا الباب عن أبي هريرة ☺ قال: بعثني أبو بكر في تلك الحجة في مؤذنين يوم النحر تؤذن بمنًى ألَّا يحج بعد العام مشرك، و (ألَّا يطوف بالبيت)؛ بالنصب؛ لأنَّه في الحديث المأخوذ منه عطف على المنصوب؛ وهو قوله: (ألَّا يحجَّ بعد العام مشرك)، انتهى (عريان)؛ أي: مكشوف العورة، فاستدل بهذا المؤلف؛ حيث إنه اقتباس من حديث أبي هريرة على اشتراط ستر العورة في الصلاة؛ لأنَّه إذا كان سترها في الطواف الذي هو يشبه الصلاة واجبًا؛ فاشتراط سترها في الصلاة أولى وأجدر، كذا قرره إمام الشَّارحين، وزعم ابن حجر أن المؤلف أشار بذلك إلى حديث أبي هريرة، ولكنه ليس فيه التصريح بالأمر، ورده إمام الشَّارحين فقال: (قد ذكرت لك أنَّ هذا اقتباس، والاقتباس ههنا اللغوي لا الاصطلاحي؛ لأنَّ الاصطلاحي: هو أن يضمن الكلام شيئًا من القرآن أو الحديث لا على أنه منه، وههنا ليس كذلك، بل المراد ههنا أخذ شيء من الحديث، والاستدلال به على حكم؛ كما كان يستدل به من الحديث المأخوذ منه، فحديث أبي هريرة المذكور يدل على اشتراط ستر العورة في الصلاة بالوجه الذي ذكرناه، وهو يتضمن أمر أبي بكر )، وأمر أبي بكر يتضمن أمر النبيِّ الأعظم صلعم، وأخذ البخاري من ذلك المتضمن صورة أمر، فقال: وأمر النبيِّ الأعظم صلعم ألَّا يطوف بالبيت عريان، واقتصر من الحديث على هذا؛ لأنَّه هو الذي يطابق ترجمة الباب؛ فافهم، فإنه دقيق لم ينبه عليه أحد من الشراح، انتهى.
          قلت: وهو وجيه لم يسبق بنظيره ⌂. /


[1] في الأصل: (واري)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (معناه)، ولعل المثبت هو الصواب.
[3] في الأصل: (أخ)، ولعل المثبت هو الصواب.