أصل الزراري شرح صحيح البخاري

باب الصلاة في مواضع الخسف والعذاب

          ░53▒ هذا (باب) حكم (الصلاة) : فرضها، وواجبها، ونفلها (في مواضع)؛ بالجمع، وللأصيلي: (في موضع)؛ بالإفراد (الخَسف)؛ بفتح الخاء المعجمة؛ أي: في الأمكنة التي خسفت بأهلها من الأمم السابقة (والعذابِ)؛ بالجر عطفًا على ما قبله، من عطف العام على الخاص؛ لأنَّ الخسف من أفراد العذاب، والخسف للمكان: ذهابه في الأرض؛ والمعنى: وباب حكم الصلاة في مواضع نزل عليها العذاب.
          يقال: خَسَف المكان يَخْسف خسفًا: ذهب في الأرض، وخسف الله به الأرض خسفًا؛ أي: غاب به فيها، ومنه قوله تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} [القصص:81]، وخُسُوف العين: ذهابها في الرأس، وخُسُوف القمر: كسوفه، وخسف هو في الأرض، وخسف به.
          وتقديرنا لفظ (حكم) تبعًا لإمام الشَّارحين أولى من تقدير (جواز) كما فعل العجلوني؛ لأنَّ الحكم أعم، وعادة المؤلف إطلاق الترجمة حتى تشمل الجواز وعدمه وإن كان المراد منها جواز الصلاة في هذه الأمكنة على خلاف فيه، سيأتي، ولكن بقي الإبهام في الكراهة وعدمها؛ لأنَّ المؤلف كعادته لم يبين ذلك، ولكن تصديره بأَثَرِ عَليٍّ يدل أنَّ الصلاة في هذه الأمكنة مكروهة، كما سيأتي.
          والمناسبة بين البابين ظاهرة؛ لأنَّ كلًّا منهما في بيان كراهة الصلاة، والأول في المقابر، وهذا في موضع العذاب؛ فافهم.
          (ويُذكر) : بضمِّ التحتية أوله، تعليق بصيغة التمريض، ومطابقته للترجمة ظاهرة، وهو يدل على أنَّ مراده من عقد الباب / الإشارة إلى أنَّ الصلاة في مواضع الخسف مكروهة؛ لأنَّه قال: (أن عليًّا) : هو الصديق الأصغر ابن أبي طالب ☺ (كره الصلاة) : فرضها، وواجبها، ونفلها (بخسف بابل) : اسم موضع بالعراق ينسب إليه السحر والخمر، قاله الجوهري، وقال البكري: (بابل بالعراق؛ مدينة السحر معروفة)، وقال الأخفش: (ممنوعة من الصرف؛ للعَلَمِيَّة والتأنيث)، قال إمام الشَّارحين: (وذلك أنَّ اسم كل شيء مؤنث إذا كان أكثر من ثلاثة أحرف؛ فإنَّه لا ينصرف في المعرفة)، قال: وربما سموا العراق: بابلًا، قال عمر بن أبي ربيعة_وأتى البصرة فضافه ابن هلال المعروف بصديق الجن_:
يا أهل بابل ما نَفَست عليكم                     من عيشكم إلا ثلاث خِلال
ماء الفرات وظل عَيْش بارد                     وغِنَى مسمعتين لابن هلال
          وذكر الطبري: (أنَّ بابل: اسم قرية، أو موضع من مواضع الأرض، واختُلف فيها؛ فقال السدي: هي بابل دنياوند، وقيل: بالعراق، وورد في ذلك حديث مروي عن عائشة، وإنَّما سميت ببابل؛ لأنَّه بات الناس ولسانهم سرياني، فأصبحوا وقد تفرقت لغاتهم على اثنتين وسبعين لسانًا، كُلٌ يبلبل بلسانه، فسمي الموضع: بابلًا) انتهى.
          قلت: والمشهور أنَّ أرض بابل من مدينة حلب وما وراءها؛ كمرعش، وديار بكر، وغيرهما؛ فافهم.
          قال إمام الشَّارحين: (وهذا التعليق رواه ابن أبي شيبة: عن وكيع: حدثنا سفيان: حدثنا عبد الله بن شريك عن عبد الله بن أبي المُحِلِّ العامري قال: «كنا مع علي ☺، فمررنا على الخسف الذي ببابل، فلم يُصلِّ حتى أجازه»؛ أي: تعداه، والمُحِلُّ بضمِّ الميم، وكسر الحاء المهملة، وتشديد اللام) انتهى.
          قلت: وقد رواه ابن أبي شيبة من طريق أخرى عن علي قال: (ما كنت لأصلي في أرض خَسَف الله بها ثلاث مرار)، قاله ابن حجر، ثم قال: (والظاهر أنَّ قوله: «ثلاث مرار» ليس متعلقًا بالخسف؛ لأنَّه ليس فيه إلا خسف واحد، وإنَّما أراد الرواي: أنَّ عليًّا قال ذلك ثلاثًا) انتهى.
          قلت: وفيه نظر، بل الظاهر أنَّ قوله: (ثلاث مرار)، متعلق بالخسف؛ يعني: أنَّ الخسف وقع لهذه الأرض ثلاث مرار؛ بأن خسف بها أولًا، ثم أعيدت، ثم خسف بها ثانيًا، ثم أعيدت، ثم ثالثًا، ولا مانع من ذلك؛ لأنَّ القدرة صالحة، وفيه تنبيه إلى مبدأ الإنسان ومعاده ومبعثه، فقوله: (لأنَّه ليس فيه إلا خسف واحد)؛ ممنوع؛ لأنَّها دعوى بلا دليل، وهي غير مقبولة.
          وقوله: (وإنَّما الراوي...) إلى آخره؛ ممنوع أيضًا؛ لأنَّه لو كان كذلك؛ لكان يقال: (ثلاثًا) بدون تصريح بقوله: (مرار) الدالة على تكرار وقوع الخسف، فصريح قوله: (ثلاث مرار) يدل لما قلناه؛ فليُحفظ.
          قال إمام الشَّارحين: (وروى أبو داود في «سننه» من حديث حجاج بن شداد عن أبي صالح الغفاري، عن علي ☺: «أنَّه مر ببابل وهو يسير، فجاءه المؤذن يؤذن بصلاة العصر، فلما برز منها؛ أتى المؤذن فأقام، فلما فرغ من الصلاة؛ قال: إن حبيبي صلعم نهاني أن أصلي في المقبرة، ونهاني أن أصلي في أرض بابل؛ فإنَّها ملعونة»، قال ابن يونس: «أبو صالح الغفاري سعيد بن عبد الرحمن روى عن علي، وما أظنه سمع منه»، وقال ابن القطان: «في سنده رجال لا يُعرفون»، وقال عبد الحق: «حديث واه»، وقال البيهقي: «إسناده غير قوي») انتهى.
          قلت: وحاصله أنَّه ضعيف، وزعم ابن حجر أنَّ اللائق بتعليق المؤلف ما رواه ابن أبي شيبة، انتهى.
          ورده العجلوني فقال: (ما رواه أبو داود وابن أبي شيبة كلاهما لائق به، وما رواه أبو داود أليق؛ لأنَّ المؤلف أورده بصيغة التمريض؛ فتأمل) انتهى.
          قلت: تأملته؛ فرأيته في غاية من الحسن، بل قلت: إنَّ ما رواه أبو داود هو اللائق قطعًا بتعليق المؤلف؛ لأنَّه قد صرح به: بأنَّها ملعونة؛ يعني: لم ينزل عليها من الرحمات شيء، وقول المؤلف: (ويذكر) صيغة تمريض تدل على ضعف إسناد الحديث، وقد صرَّح الأئمة بضعفه، كما علمت؛ فافهم.
          والمراد بالخسف: ما ذكره الله تعالى بقوله: {فَأَتَى اللهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ القَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ...}؛ الآية [النحل:26]، قال الإمام النسفي: (إنَّ هذا البناء كان لبختنصر)، وقال ابن عبَّاس وزيد بن أسلم: (هو صرح نمرود بن كنعان)، قال ابن عبَّاس: (كان طوله في السماء خمسة آلاف ذراع)، وقال كعب: (كان طوله في السماء فرسخين)، وبه قال مقاتل، انتهى.
          وقال أهل الأخبار: إنَّ المراد بذلك ما بناه نمرود بن كنعان؛ فإنَّه بنى ببابل بنيانًا عظيمًا يقال له: المجدل؛ أي: القصر، انتهى.
          قال النسفي: (قال مقاتل: فهبت ريح فألقت رأسها في البحر، وخَرَّ عليهم الباقي من فوقهم، وذلك لأنَّهم كانوا يترصدون(1) خبر السماء، فأهب الله الريح، فخرَّ عليه وعلى قومه فهلكوا) .
          قال الخطابي: (لا أعلم أحدًا من العلماء حَرَّم الصلاة في أرض بابل، وقد عارضه ما هو أصح منه، وهو قوله ◙: «جعلت لي الأرض مسجدًا»، ويشبه إن ثبت الحديث أن يكون نهاه أن يتخذها وطنًا ومقامًا، فإذا أقام بها؛ كانت صلاته بها، وهذا من باب التعليق في علم البيان) انتهى.
          قال إمام الشَّارحين: (قلت: أراد بها الملازمة الشرعية؛ لأنَّ من لَازِمِ إقامة الشخص بمكان أن تكون صلاته فيه، فيكون من باب إطلاق الملزوم وإرادة اللازم، وإنَّما قيدنا الملازمة بالشرعية؛ لانتفاء الملازمة العقلية) انتهى كلامه، وقد اختصر عبارته العجلوني ونسبها لنفسه؛ فليتنبه.
          وقال الخطابي أيضًا: (لعل النهي لعلي خاصة، ألا ترى أنَّه قال: «نهاني»، ولعل ذلك إنذار منه ما لقي من المحنة بالكوفة) انتهى.
          قلت: دعواه الخصوصية تحتاج إلى دليل، وقوله: (نهاني) لا يدل عليها؛ لأنَّه ◙ قال ذلك له عند إرادته السفر، فهو توصية له بذلك، وهي على العموم، ولهذا ترجم المؤلف بـ (باب الصلاة في مواضع الخسف والعذاب)، ولم يجعل ذلك خاصًّا بعلي؛ فافهم.
          على أنَّ الظاهر: أنَّه نهاه أن يتخذها وطنًا؛ لأنَّه إذا أقام بها كانت صلاته بها؛ فتأمل.
          وقال إمام الشَّارحين: (وقد وردت أحاديث فيها النهي عن الصلاة في مواضع؛ منها: حديث ابن عمر: «أنَّ رسول الله صلعم نهى أن / يصلى في سبعة مواطن: في المزبلة، والمجزرة، والمقبرة، وقارعة الطريق، وفي الحمام، وفي معاطن الإبل، وفوق ظهر بيت الله»، رواه الترمذي وابن ماجه، قال القرطبي: «وإسناده ليس بقوي؛ لأنَّه فيه: زيد بن جبيرة، وقد تكلم فيه من قِبِل حفظه» ).
          وقال ابن العربي: المواضع التي لا يصلى فيها ثلاثة عشر موضعًا، فذكر السبعة المذكورة، وزاد: الصلاة إلى المقبرة، وكذا الصلاة وأمامك جدار مرحاض عليه نجاسة، والكنيسة، والبِيْعة، وفي قبلتك تماثيل، وفي دار العذاب.
          وزاد بعضهم: الصلاة في الأرض المغصوبة، وإلى النائم، والمتحدث، والصلاة في بطن الوادي، والصلاة في بطن الضراوي، فصارت الجملة ثمانية عشر، فنقول:
          أمَّا المزبلة؛ فهي المكان الذي يلقى فيه الزبل؛ وهو السرجين، وفيها لغتان؛ فتح الموحدة وضمها، والصلاة فيها، فإن كانت فيها نجاسة؛ فلا تصح عليها بدون حائل، وإن فرش عليها حائلًا(2) بينه وبينها وصلى؛ فصلاته مكروهة تحريمًا، وإن لم يعلم فيها نجاسة أم لا وصلَّى فيها بحائل؛ فصلاته مكروهة تنزيهًا.
          وأمَّا المجزَرة؛ فهي_بفتح الزاي_: المكان الذي ينحر فيه الإبل، ويذبح فيه البقر والغنم، وهي أيضًا محل الدماء والأرواث، فصلاته فيها على التفصيل في المزبلة، وهذا مذهب الإمام الأعظم، ومالك، وغيرهما، وقال أحمد: الصلاة فيهما لا تصح.
          وأمَّا المقبرة؛ فقدمنا الكلام فيها.
          وأمَّا قارعة الطريق؛ فلما فيها من شغل الخاطر بمرور الناس ولفظهم، ويلحق بها صلاته في دكانه، فإنَّه مكروه لذلك.
          وأمَّا الحمام؛ فالصلاة فيه مكروهة عند الجمهور، وفصَّل أئمتنا الأعلام، فقالوا(3) : إن صلى في داخله بأن غسل موضعًا وصلى فيه؛ فصلاته مكروهة، وإلا؛ فلا، وإن صلى في خارجه عند محل خلع الثياب؛ فلا بأس بذلك، وقال أحمد: لا تصح الصلاة في الحمام، ومن صلى؛ أعاد، والعلة في الكراهة الغُسَالات، وقيل: لأنَّها مأوى الشياطين، فعلى الأول؛ إن صلى في مكان طاهر فيها؛ لا تكره تحريمًا، بل تنزيهًا، وعلى الثاني؛ تكره الصلاة فيه، سواء كان في داخله أو خارجه، ويلزم منه أن تكره الصلاة في غير الحمام أيضًا؛ لعدم خلوِّ الأمكنة من الشياطين.
          قلت: وقد يقال: إنَّ الشياطين في الحمام أكثر من غيره.
          وأمَّا معاطن الإبل؛ فقد سبق الكلام عليه.
          وأمَّا الصلاة فوق ظهر بيت الله؛ ففيه تفصيل، قال في «نور الإيضاح»: (صح فرض ونفل فيها؛ لقوله تعالى: {أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ...}؛ الآية [البقرة:125]، ولحديث بلال: «أنَّه ◙ دخل البيت وصلى فيه»، وصح فرض ونفل فوقها وإن لم يتخذ سترة، لكنه مكروه؛ لإساءة الأدب باستعلائه عليها، ومن جعل ظهره إلى غير وجه إمامه فيها أو فوقها؛ صح اقتداؤه، إلا أنَّه يكره إذا قابل وجهه وجه إمامه، وإن جعل ظهره إلى وجه إمامه؛ لا يصح، وصح الاقتداء خارجها بإمام فيها والباب مفتوح، وإن تحلقوا حولها والإمام خارجها؛ صح، إلا أنَّه لا يصح صلاة من كان أقرب إليها من جهة إمامه) انتهى بزيادة من الشرح.
          وقال أحمد: لا تصح الصلاة فوقها، وفي «شرح الترمذي»: (لم يصح فيه حديث) .
          وأمَّا الصلاة إلى جدار مرحاض؛ فلما رواه ابن أبي شيبة في «مصنفه» عن ابن عمر قال: (لا يصلى إلى الحش)، وعن علي: (لا يصلى تجاه الحش)، وعن إبراهيم: (كانوا يكرهون ثلاثة أبيات القبلة)، وذكر منها: الحش، وهو حجة على الشافعي؛ حيث قال: لا تكره الصلاة وبين يديه جيفة، وحكى الطبري: أنَّه يكره استقبال الجدار النجس في الصلاة، وقال ابن حبيب المالكي: من تعمَّد الصلاة إلى نجاسة؛ بطلت صلاته، إلا أن يكون بعيدًا جدًّا، ونص علماؤنا الأعلام: على أنَّه تكره الصلاة قريبًا من نجاسة.
          وأمَّا الصلاة في الكنيسة والبَيعة؛ فكرهها الحسن البصري، وفي «مصنف ابن أبي شيبة»: أنَّ ابن عبَّاس كره الصلاة في الكنيسة إذا كانت فيها تصاوير، ولم يَرَ الشَّعبي وعطاء بالصلاة في الكنيسة والبيعة بأسًا، وكذلك ابن سيرين، وقال الإمام الأعظم: تُكره الصلاة في الكنيسة والبيعة، وإن تكرر منه الدخول إليهما؛ يعذر بما يليق به، كما صرح به في «البحر».
          وأمَّا الصلاة إلى قبلة فيها تماثيل؛ فهي مكروهة كما قدمناه.
          وأمَّا الصلاة في دار العذاب؛ فلما تقدم من تعليق المؤلف عن علي.
          وأمَّا الصلاة في الأرض المغصوبة؛ فلما فيه من استعمال حق الغير بغير إذنه، وهو حرام، فتحرُم الصلاة فيها، ولا ثواب له، فإن كانت لكافر؛ لا يصلي فيها، ويصلي في الطريق، وإن كانت لمسلم؛ صلى فيها؛ لأنَّ المسلم يعفو عن المسلم.
          وأمَّا الصلاة إلى النائم والمتحدث؛ فلما روى ابن عبَّاس النهي عن ذلك، رواه أبو داود وابن ماجه؛ لأنَّه يشغل البال، ويُخلُّ بالخشوع، وربما تفسد صلاته من ظهور شيء من النائم والمتحدث؛ فافهم.
          وأمَّا الصلاة في بطن الوادي؛ فهو خوف السيل السالب للخشوع.
          وأمَّا الصلاة في مسجد الضِرار؛ فلقوله تعالى: {لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} [التوبة:108]، وقال ابن حزم: (لا تصح الصلاة فيه؛ لأنَّه ليس موضع صلاة)، وقال: (لا تجوز الصلاة في مسجد يستهزأ فيه بالله، أو رسوله، أو بشيء من الدين، أو في مكان يُكفر فيه بشيء، فإن لم يمكنه الخروج وصلى؛ جازت صلاته) انتهى.
          قلت: ولا فرق في ذلك بينها وبين الكنيسة والبيعة، فإنَّ فيهما يكفر بالله ورسوله؛ فلا وجه؛ لعدم صحة صلاته، بل صلاته فيه صحيحة مع الكراهة؛ فافهم ذلك، وسيأتي بقية الكلام على ذلك في آخر الباب.


[1] في الأصل: (يترصدوا) ، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (حائل)، وليس بصحيح.
[3] في الأصل: (فقال) ، وليس بصحيح.