أصل الزراري شرح صحيح البخاري

باب الصلاة في السطوح والمنبر والخشب

          ░18▒ هذا (باب) حكم (الصلاة في) : بمعنى (على)؛ كما في قوله تعالى: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ}(1) [طه:71] (المنبر)؛ بكسر الميم، من نبرت الشيء؛ إذا رفعته، والقياس فيه فتح الميم؛ لأنَّ الكسر علامة الآلة، ولكنه سماعي (والسُّطوح)؛ بضم السين المهملة، جمع سطح البيت، (والخشب)؛ بفتحتين وبالضمتين أيضًا؛ يعني: يجوز، ولما كان فيه خلاف لبعض التابعين وللمالكية في المكان المرتفع لمن كان إمامًا؛ لم يصرح المؤلف بالجواز وعدمه، كذا في «عمدة القاري».
          قلت: والترجمة شاملة لمن كان في المكان المرتفع، وهو إمام والناس خلفه في المكان المتسفل، ولمن كان في المكان المرتفع وهو مقتدٍ والناس خلفه في المكان المتسفل، وشاملة أيضًا لمن كان في المكان المرتفع وخلفه بعض والبعض أسفل منهم، ولمن كان مقتديًا وحده والإمام والناس وحدهم، وكل ذلك جائز، لكن مع الكراهة؛ لأنَّ فيه التشبه بأهل الكتاب؛ حيث اختص الإمام وكذا المقتدي بمكان وحده، كما سيأتي بيانه.
          (قال أبو عبد الله) : هو المؤلف نفسه: (ولم ير) أي: يعتقد (الحسن) : هو البصري التابعي (بأسًا) أي: حرجًا ومنعًا (أن يُصلَّى)؛ أي: الشخص؛ بضم التحتية، وفتح اللام المشددة (على الجَمْد)؛ بفتح الجيم، وسكون الميم، آخره دال مهملة، قال السفاقسي: (الجمد؛ بفتح الجيم وضمها: مكان صلب مرتفع) .
          وزعم ابن قرقول أن في رواية الأصيلي وأبي ذر: بفتح الميم، وقال ابن التين: بضمها، لكن قال القاضي عياض: الصواب سكونها؛ وهو الماء الجامد من شدة البرد، وفي «المحكم»: (الجمد: الثلج)، وفي «المثنى» لابن عديس: (الجَمد؛ بالفتح)، وقال أبو عبد الله موسى بن جعفر: (الجمَد؛ محرك الميم: الثلج الذي يسقط من السماء)، وقال غيره: الجَمد والجُمد؛ بالفتح والضم، والجُمُد بضمتين: ما ارتفع من الأرض، وفي «ديوان الأدب» للفارابي: (الجمد: ما جمد من الماء، وهو نقيض الذَّوب(2)، وهو مصدر في الأصل)، وفي «الصحاح»: (الجمد؛ بالتحريك، جمع جامد؛ مثل: خادم وخدم، والجمْد والجمُد؛ مثل: عسْر وعسُر؛ مكان صلب مرتفع، والجمع أجماد وجماد؛ مثل: رمح وأرماح / ورماح)، كذا في «عمدة القاري».
          (والقناطر)؛ بفتح القاف، جمع قنطرة، وفي رواية الحمُّوي والمستملي: (والقناطير)، قال ابن سيده: (وهو ما ارتفع من البنيان)، وقال القزاز: (القنطرة معروفة عند العرب)، قال الجوهري: (وهي الجسر)، قال إمام الشَّارحين: (القنطرة: ما يبنى بالحجارة، والجسر يعمل من الخشب أو التراب) انتهى.
          قلت: وقد يطلق على كل منهما جسر، لكن الفرق هو الأظهر.
          (وإن) هذه تسمى وصلية؛ لأنَّها توصل حكم ما قبلها بما بعدها؛ فليحفظ (جرى تحتها بول) أو غيره من النجاسات، والضمير في قوله: (تحتها) يرجع إلى (القناطر) فقط، كذا زعمه الكرماني، واعترضه إمام الشَّارحين فقال: يجوز أن يرجع الضمير إلى (الجمد) أيضًا؛ لأنَّ الجمد في الأصل ماء، فبشدة البرد يجمد، وربما يكون ماء النهر يجمد فيصير كالحجر حتى تمشي عليه الناس، فلو صلى شخص عليه وكان تحته بول أو نحوه؛ لا يضر صلاته.
          فإن قلت: على هذا كيف يرجع الضمير في (تحتها) إلى الجمد وهو غير مؤنث؟
          قلت: قد سبق أن الجوهري في «الصحاح» قال: إن الجمد جمع جامد، فإذا كان جمعًا؛ يجوز إعادة الضمير المؤنث إليه، وكذلك الضمير في قوله: (أو فوقها أو أمامها)؛ بفتح الهمزة، يجوز أن يرجع إلى (القناطر) بحسب الظاهر، وإلى (الجمد) بالاعتبار المذكور، والمراد من (أمامها) : قدامها، انتهى.
          وزعم ابن حجر الجمد: الماء إذا جمد، وهو مناسب لأثر ابن عمر الآتي: (أنه صلى على الثلج). ورده إمام الشَّارحين فقال: (إن لم يقيد الثلج بكونه متجمدًا متلبدًا؛ لا تجوز الصلاة عليه، فلا يكون مناسبًا له، وقال في «المجتبى»: سجد على الثلج، أو الحشيش الكثير، أو القطن المحلوج؛ يجوز إن اعتمد حتى استقرت عليه جبهته، ووجد حجم الأرض، وإلا؛ فلا يجوز، وفي «فتاوى أبي حفص»: لا بأس أن يصلي على الجمد، والبر، والشعير، والتبن، والذرة، ولا يجوز على الأرز؛ لأنَّه لا يستمسك، ولا يجوز على الثلج المتجافي والحشيش وما أشبهه حتى يلبده فيجد حجمه) انتهى.
          (إذا كان بينهما)؛ أي: بين القناطر والبول، أو بين المصلي والبول، وهذا القيد مختص بلفظ (أمامها) دون أخواتها، كذا قاله الكرماني، واعترضه إمام الشَّارحين فقال: (المصلي غير مذكور، إلا أن يقال قوله: أن يصلي يدل على المصلى) انتهى.
          (سترة) : والمراد بها: أن يكون المانع بينه وبين النجاسة إذا كانت قدامه ولم يعين حد ذلك، والظاهر أن المراد منه ألَّا يلاقي النجاسة سواء كانت قريبة منه أو بعيدة، كذا قاله إمام الشَّارحين، وزعم ابن حبيب من أصحاب مالك إن تعمد الصلاة إلى نجاسة وهي أمامه؛ أعاد الصلاة، إلا أن تكون بعيدة جدًّا، وفي «المدونة»: (من صلى وأمامه جدار أو مرحاض؛ أجزأه) انتهى.
          ونص علمائنا الأعلام أن الصلاة في قرب النجاسة تجوز وتكره؛ لاحتمال أن يعود عليه منها شيء، كما تكره الصلاة في الحمام، والكنيف، والمقبرة، والمغتسل، والمزبلة، والمجزرة، وقارعة الطريق، ومعاطن الإبل، ونحوها، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
          (وصلى أبو هريرة) : هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي ☺ (على ظهر المسجد) كذا في رواية الأكثرين، وفي رواية المستملي: (على سقف المسجد)، والمراد به: السطوح، ففيه المطابقة للترجمة (بصلاة الإمام) يعني: مقتديًا بالإمام، فيكون الإمام أسفل من المقتدي، وهو جائز، إلا أنه مكروه، وهذا الأثر وصله ابن أبي شيبة عن وكيع، عن ابن أبي ذئب، عن صالح مولى التوءمة قال: (صليت مع أبي هريرة فوق المسجد بصلاة الإمام وهو أسفل)، وصالح تكلم فيه غير واحد، ولكن رواه سعيد بن منصور من وجه آخر عن أبي هريرة، فتقوَّى بذلك، فلأجل هذا ذكره البخاري بصيغة الجزم، وروى ابن أبي شيبة عن أبي عامر، عن سعيد بن مسلم قال: (رأيت سالم بن عبد الله يصلي فوق ظهر المسجد صلاة المغرب ومعه رجل آخر_يعني: ويأتم بالإمام في رمضان_ فقال: لا أعلم به بأسًا إلا أن يكون بين يدي الإمام) .
          قلت: وهذا يدل على أن الإمام والمقتدين معه وهو في ظهر المسجد يقتدي بالإمامولا كراهة فيه، وإنما المكروه قيام الإمام على مكان مرتفع والمقتدون أسفل منه، أو قيامه على مكان متسفل والمقتدون خلفه مرتفعون عنه، فهذا مكروه في الصورتين إلا إذا كان مع الإمام واحد يقتدي به، فتنتفي الكراهة، وقد وَرَدَ في حديث ابن مسعود ☺: (أنه ◙ نهى أن يقوم الإمام فوق شيء والناس خلفه؛ يعني: أسفل منه)، كذا في «إمداد الفتاح»، فيكره أن يكون موضع الإمام أو المأموم أعلى من موضع الآخر إلا إذا أراد التعليم لأفعال الصلاة، أو أراد المأموم التبليغ للقوم؛ فلا كراهة عندنا، وبه قال محمد بن إدريس، وإذا كره أن يعلو الإمام؛ فالمأموم أولى، وهو مذهبنا والشافعيِّ، وزعم ابن حزم أنه لا يجوز ذلك عند الإمام الأعظم ومالك، ورده إمام الشَّارحين، فقال: (ليس مذهب الإمام الأعظم هذا، وإنما مذهبه أنه يجوز، ولكنه يكره) انتهى.
          قلت: ولا عجب من ابن حزم، فإنه ينقل الأقوال التي لا أصل لها في المذهب، ويعتمد عليها في كتبه، وهو لا يدل إلا على عدم اطلاعه في المذاهب، وقال إمامنا شيخ الإسلام: إنَّما يكره إذا لم يكن عذر، أما إذا كان عذر؛ فلا كراهة، كما في الجمعة إذا كان القوم على الرفِّ وبعضهم على الأرض، والرفُّ؛ بتشديد الفاء شبه الطاق، وقال الحافظ الطحاوي: أنه لا يكره، وعليه أكثر مشايخنا الأعلام رحمهم الملك العلام.
          (وصلى ابن عمر) : هو عبد الله بن عمر بن الخطاب ☻ (على الثلج)؛ بالمثلثة والجيم؛ يعني: وكان الثلج متلبدًا؛ لأنَّه إذا كان متجافيًا؛ لا تجوز الصلاة عليه، وليس لهذا الأثر مطابقة للترجمة إلا إذا شرطنا التلبد؛ لأنَّه حينئذٍ يكون مُتحجرًا، فيشبه السطح أو الخشب، قاله إمام الشَّارحين؛ فليحفظ.
          قلت: ووجهه ظاهر، فإن الثلج إذا لم يكن متلبدًا؛ يتسفل شيئًا فشيئًا، فلا تستقرُّ عليه الجبهة عند السجود، فاشتراط التلبد لا بد منه، فهذا الأثر فيه اختصار، ومع التلبد يكون متحجرًا، فيشبه السطح؛ لأنَّه عالٍ(3) على الأرض، فبهذا تحصل المطابقة.


[1] في الأصل: (لأصلبنكم) .
[2] في الأصل: (يقبض الروب)، وهو تحريف.
[3] في الأصل: (عالي)، والمثبت هو الصواب.