أصل الزراري شرح صحيح البخاري

باب الاغتسال إذا أسلم وربط الأسير أيضًا في المسجد

          ░76▒ (باب الاغتسال إذا أسلم)؛ أي: هذا باب في بيان حكم اغتسال الكافر إذا أسلم؛ أي: في المسجد (و) بيان حكم (ربط الأسير) (فعيل) بمعنى (مفعول) قال في «الصِّحاح»: أسره؛ أي: شده بالأساري، وهو القد، ومنه سمي الأسير؛ لأنَّهم كانوا يشدونه بالقد، كما مر، (أيضًا) مصدر (أضَّ) بمعنى: رجع، وقوله: (في المسجد) اللَّام فيه للجنس، والجار والمجرور متعلق بـ (الاغتسال) و (ربط الأسير) على سبيل التنازع، أو حال منهما، أو صفة لهما؛ فافهم، وفي رواية أبي ذر: (ويربط الأسير أيضًا في المسجد) وعليها؛ فالجار والمجرور متعلق بـ (يربط)، ويجوز تنوين (باب) خبرًا لمبتدأ محذوف، وجعل (الاغتسال) مرفوعًا مبتدأ، والخبر محذوف؛ تقديره: مندوب، فيقال: بابٌ_بالتنوين_ الاغتسال على الكافر إذا أسلم مندوب، وقوله: (وربط الأسير) بالرفع معطوف على الاغتسال، وقوله: (في المسجد) متعلق أيضًا: بـ (الاغتسال)، وبـ (يربط)، أو حال منهما أو صفة لهما.
          قال إمام الشَّارحين: (وهذه التَّرجمة وقعت هكذا في أكثر الروايات، وليس في رواية كريمة والأصيلي قوله: «وربط الأسير أيضًا في المسجد») انتهى، وقال القسطلاني: (إنَّ قوله: «وربط الأسير...» إلى أول السند ساقط عند ابن عساكر، وأبوي ذر والوقت) .
          وقال إمام الشَّارحين: (ووقع عند البعض لفظ «باب» بلا ترجمة، وهو الصَّواب لأنَّ حديث الباب من جنس حديث الباب الذي قبله، ولكن لما كانت بينهما مغايرة ما؛ فصل بينهما بلفظ «باب» مفردًا، وهو أنَّ النَّبي الأعظم صلعم همَّ بربط العفريت بنفسه ولكنه لم يربطه؛ لمانع ذكرناه، وههنا ربطه غيره، فلذلك فصل البخاري بينهما بلفظ «باب» مفردًا، وهذا أصوب من النُّسختين المذكورتين؛ لأنَّ في نسخة الجمهور، ذكر الاغتسال إذا أسلم، وليس في حديث الباب ذكر لذلك ولا إشارة إليه، وفي نسخة الأصيلي: «ربط الأسير» غير مذكور، وحديث الباب يصرح بذلك) انتهى.
          واعترضه العجلوني بأنَّ ما أوردَه على نسخة الجمهور غير وارد إن لم نجعل (في المسجد) متعلقًا بـ (الاغتسال) أيضًا، وحديث الباب مصرح فيه بالاغتسال، لكنه خارج المسجد، وظاهره وإن كان قبل الإسلام، لكنَّ المراد: بعد الإسلام؛ لما في حديث ابني خزيمة وحبان من التصريح بأنه بعد الإسلام، ويمكن حمل ما هنا على أنَّه أظهر الإسلام بين الصَّحابة وإن كان أسلم قبلُ عند خروج النَّبي ◙ إليه في المرة الثالثة؛ فتأمَّل انتهى.
          قلت: وهذا كلام فاسد الاعتبار، وقول صادر من غير اعتبار؛ لأنَّ كون (في المسجد) متعلقًا بـ (الاغتسال) و (ربط الأسير) متعين كما أوضحناه قريبًا، وذلك لصحة المعنى، وحديث الباب غير مصرح بالاغتسال في المسجد، بل صرح بالاغتسال خارج المسجد وهو غير مراد، وصريح الحديث أنَّ الاغتسال منه وقع قبل الإسلام، وكونه بعد الإسلام يحتاج لدليل، وما ذكره عن ابن حبان وابن خزيمة، لا ينهض دليلًا؛ لأنَّ فيه (فمرَّ عليه النَّبي ◙ يومًا فأسلم فحله وبعث به إلى حائط أبي طلحة فأمره أن يغتسل فاغتسل...)؛ الحديث، ويأتي بتمامه قريبًا، وهو يقتضي أنَّ القصة متعددة، ويحتمل أنَّ معنى: (أسلم) انقاد للإسلام؛ لأنَّ في أول الحديث أنَّه ◙ كان يهدده، ويقول ثمامة: (إن تقتل تقتل)، وفي آخر الحديث قال ◙ لأصحابه: «لقد حسن إسلام أخيكم»، وهذا يدل على أنَّ إسلامه الحقيقي كان بعد الاغتسال، وعلى كل حال؛ فالاغتسال إنَّما كان خارج المسجد، وإمكان كونه أظهر الإسلام بين الصَّحابة ممنوع؛ لأنَّه لو كان كما ذكر؛ لكانت الصَّحابة أخبرت النَّبي ◙ بإسلامه ولما قالوا له: (ما تصنع بقتل هذا؟) كما عند ابني خزيمة وحبان، وهو كان يهدده وهم شاهدون، وهذا ظاهر في مرات متعددة، ولم يكن إسلامه قبل خروجه ◙، بل إنَّما كان بعد حله وبعثه لأجل الاغتسال، كما هو صريح حديث الباب، وحديث ابني خزيمة وحبان.
          والحاصل: أنَّ ما قاله إمام الشَّارحين هو الصَّواب، كما لا يخفى على أولي الألباب، وما زعمه العجلوني باطل صادر من فكر عاطل؛ فافهم، والله أعلم.
          وقال ابن المُنَيِّر: (ولم يورد المؤلف قصة ثمامة في باب «الأسير يربط في المسجد» مع أنَّها أليق بحسب الظَّاهر؛ لاحتمال أنَّ المؤلف آثر الاستدلال بقصة / العفريت على قصة ثمامة، لأنَّ الذي همَّ بربط العفريت هو النَّبي ◙، والذي ربط ثمامة غيره، ولمَّا رآه مربوطًا قال: «أطلقوا ثمامة»، فهو بأن يكون إنكار الربط أولى من [أن] يكون تقريرًا) انتهى.
          وردَّه إمام الشَّارحين، فقال: (هذا قول صادر من غير تأمل؛ لأنَّ ابن إسحاق صرح في «المغازي» أنَّ النَّبي ◙ هو الذي أمرهم بربط ثمامة، فإذا كان كذلك؛ كان حديث ثمامة من جنس حديث العفريت، ولكن لما كان بينهما مغايرة ما؛ فصل بينهما بلفظ «باب») انتهى.
          وتبعه ابن حجر حيث قال: (وكأنَّ ابن المُنَيِّر لم ينظر سياق هذا الحديث تامًّا لا في «البخاري»ولا في غيره، فقد أخرجه البخاري في «المغازي» من هذا الوجه مطولًا، وفيه أنَّه ◙ مرَّ على ثمامة ثلاث مرات، وهو مربوط في المسجد، وإنَّما أمر بإطلاقه في اليوم الثالث، وكذا أخرجه مسلم وغيره، وإني لأتعجب منه كيف جوز أنَّ الصَّحابة يفعلون في المسجد أمرًا لا يرضى به النَّبي ◙؟! فهو كلام فاسد مبني على فاسد) انتهى.
          واعترضه العجلوني بأنَّ التَّرجمة وقعت لابن المُنَيِّر كما ذكر، فاحتاج إلى توجيهها، ولم ينظر لما وقع في غيرها، فإن نظر إليه؛ اتجه اعتراض ابن حجر عليه بما ذكره وإن كان فيه تكلف، انتهى.
          قلت: وقوع التَّرجمة هكذا غير عذر؛ لأنَّه كان يمكنه تصحيحها بالمقابلة على نسخة صحيحة، على أنَّ توجيهها بما ذكر غير صواب؛ لأنَّه مخالف لصريح الأحاديث مع الجرأة على الصَّحابة الكرام، ولا مانع من نظره لما وقع في غيرها وعدم فهم معناها؛ لأنَّ الذي يقول هذا الكلام لا يفهم المعنى المرام، فصح قول ابن حجر: (فهو كلام فاسد مبني على فاسد)، وصح قول إمام الشَّارحين: (هذا قول صادر من غير تأمل)؛ فافهم.
          وقال إمام الشَّارحين: (وأبعد من الكل النُّسخة التي ذكرها ابن المُنَيِّر وهي: «باب ذكر الشراء والبيع» فيه: «أبو هريرة بعث رسول الله ◙ خيلًا...»؛ الحديث، ثم قال: وجه مطابقة حديث ثمامة للبيع والشراء في المسجد أنَّ الذي تخيل المنع مطلقًا إنَّما أخذه من ظاهر أنَّ هذه المساجدإنَّما بنيت للصلاة ولذكر الله، فبيَّن البخاري تخصيص هذا العموم بإجازة فعل غير الصلاة في المسجد، وهو ربط ثمامة؛ لأنَّه مقصود صحيح، فالبيع كذلك، انتهى، ولا يخفى ما فيه من التكلف والتعسف، وقال صاحب «التلويح» بعد أن نقل هذا الكلام منكرًا عليه ومستبعدًا وقوعه منه:
وذاك لعمري قول من لم يمارس                     كتاب «الصَّحيح» المنتقى في المدارس
ولم ير ما قد قاله في الوفود من                     سياق حديث واضح متجانس
          وكان الشيخ قطب الدين الحلبي تبع ابن المُنَيِّر في ذلك، وأنكر عليه تلميذه صاحب «التوضيح»، وهو محل الإنكار؛ لأنَّ التَّرجمة التي ذكرها ليست في شيء من نسخ «البخاري») انتهى كلام إمام الشَّارحين، وتبعه الشراح.
          وقال ابن حجر: (يحتمل أن يكون البخاري بيَّض للتَّرجمة فسدَّ بعضهم البياض بما ظهر له، ويدل عليه أنَّ الإسماعيلي ترجم عليه بـ«باب دخول المشرك المسجد»، وأيضًا فالبخاري لم تجرِ عادته بإعادة لفظ ترجمة عقب الأخرى، و«الاغتسال إذا أسلم» لا تعلق له بأحكام المساجد إلا على بُعْد بأن يقال: الكافر جنب غالبًا، والجُنب ممنوع من المسجد إلا لضرورة، فلما أسلم؛ لم تبق ضرورة للبثه في المسجد جنبًا فاغتسل؛ لتُسوَّغ له الإقامة في المسجد) انتهى.
          قلت: وهذا كلام فاسد الاعتبار؛ لأنَّ احتمال كون البخاري بيَّض للتَّرجمة ممنوع؛ لأنَّه لو كان كذلك لم يذكر تعليقًا وحديثًا، وهذا أبعد البعيد أن يذكر التَّعليق والحديث، ويبيض للتَّرجمة، واحتمال أن بعضهم سد هذا البياض أبعد منه؛ لأنَّ رواة «البخاري» كلهم عدول، ولم يحصل من العدل جرأة على مثل «البخاري»، فهذا يعد نقصًا في رواة «البخاري»، وهو غير صحيح، وكون الإسماعيلي ترجم له بما ذكر؛ لعلَّ هذه التَّرجمة مثل ترجمة ابن المُنَيِّر لم توجد في نسخ البخاري، وكون البخاري لم تجر عادته بإعادة ترجمة عقب أخرى؛ ممنوع؛ لأنَّ عادته إعادة الأحاديث مرات في أبواب متعددة وهذا مثله، والعادة تثبت بمرة، وكون الاغتسال لا تعلق له بأحكام المساجد؛ ممنوع؛ لأنَّ تعلقه ظاهر، فإنَّ الكافر جنب في الغالب، وهو ممنوع من دخول المسجد، فلمَّا أسلم؛ احتاج إلى الصلاة في المسجد، فيغتسل ثم يدخل، فهو حكم من أحكام المساجد، والله أعلم.
          (وكان شُرَيْح)؛ بِضَمِّ الشين المعجمة، وفتح الرَّاء، وسكون التحتية، آخره حاء مهملة، هو ابن الحارث الكندي، كان من أولاد الفرس الذين كانوا باليمن، وكان في زمن النَّبي الأعظم صلعم، ولم يلقه، قضى بالكوفة من قبل عمر بن الخطاب ☺، ومن بعده ستين سنة، مات سنة ثمانين، كذا قاله إمام الشَّارحين، وفي «التقريب»: (شريح بن الحارث بن قيس الكوفي النخعي القاضي أبو أمية، مخضرم ثقة، وقيل: له صحبة، مات قبل الثمانين أو بعدها، وله مئة وثمان سنين أو أكثر، يقال: حكم سبعين سنة) انتهى، (يأمر الغريم)؛ أي: الذي عليه الدين، وقد يكون الغريم الذي له الدين، والمراد هنا الأول؛ فافهم، (أن يُحبَس)؛ بِضَمِّ أوله مبني للمجهول؛ أي: يأمره بأن يحبس نفسه في المسجد (إلى) أي: مع (سارية) أي: أسطوانة (المسجد)؛ أي: مسجد الكوفة، فاللَّام فيه للعهد، ويحتمل أنَّه ضَمَّن (يحبس) معنى (يضم) فعدي بـ (إلى)، قيل: وفي نسخة (أن يَحبِس) بالبناء للفاعل، قال ابن مالك: (وفي إعراب هذا وجهان؛ أحدهما: أن يكون الأصل «بالغريم»، و«أن يحبس» بدل اشتمال، ثم حذفت الباء كما في قول الشاعر:
أمرتك الخير...
          والثاني: أن يريد: كان يأمره أن ينحبس، فجعل المطاوَع موضع المطاوِع لاسلتزامه إياه) انتهى.
          وردَّه إمام الشَّارحين، فقال: (هذا تكلف، وحذف الباء في الشعر للضرورة، ولا ضرورة ههنا، وهذا التركيب ظاهر، فلا يحتاج إلى مثل هذا الإعراب، ولا شك أنَّ المأمور هو الغريم، أمر بأن يحبس نفسه / في المسجد، فإن قضى ما عليه من الدينح ذهب في حاله، وإلا أُمِر به في السجن، و«أن يحبس» أصله: بأن يحبس، و«يحبس» على صيغة المجهول؛ يعني: أمره أن يحبس نفسه في المسجد أولًا، وعند المُطل يحبس في السجن) انتهى.
          واعترضه العجلوني فزعم: يتأمل دعواه ظهور التركيب مع جريانه على القواعد من غير ما قاله ابن مالك، فإنَّ المراد أنَّ شريحًا يأمر غيره بأن يحبس الغريم، ويربطه بسارية المسجد، على أنَّ الباء في الغريم موجودة في بعض الأصول الصَّحيحة؛ فتأمل.
          قلت: تأملته فوجدته فاسد الاعتبار، فإنَّ ظهور التركيب مع جريانه على القواعد غير ما زعمه ابن مالك ظاهر لمن له أدنى ذوق في العلم، كما بيَّنها إمام الشَّارحين، كما رأيت، فيقال: (كان شريح) (كان) واسمها، و (يأمر الغريم) : فعل وفاعل ومفعول، والجملة خبر (كان)، و (أن) حرف مصدري، و (يحبس) : فعل مضارع منصوب بها، وهي في تأويل مصدر؛ تقديره: بحبس نفسه... إلخ.
          وقوله: (فإنَّ المراد...) إلخ؛ ممنوع، فإنَّ ظاهر اللَّفظ أنَّ شريحًا يأمر الغريم بحبس نفسه في المسجد، وليس في هذا التَّعليق ذكر غير شريح والغريم كما رأيت، فإنَّ في وقتهم لم يكن حاجب ولا شرطي، بل بمجرد علمه الحق وأنَّه يجب عليه كذا؛ يفعل ذلك الغريم وحده، ولا يقاس زمانهم على زماننا، فإنَّه قياس مع الفارق؛ فافهم.
          وقوله: (على أنَّ الباء...) إلخ، الله أعلم بصحة هذا الأصل الموجودة فيه، لأنَّ أحدًا من الشراح لم يذكرها أصلًا، لا من نسخة صحيحة ولا غيرها، والظَّاهر أنَّها تحريف من الناسخ، فلا يعول عليها، على أنَّ من القواعد أنَّ حذف الباء في الشعر جائز؛ للضرورة، وأمَّا ههنا؛ فلا يجوز؛ لعدم الضرورة، فقياس النثر على الشعر قياس مع الفارق؛ فافهم.
          قال إمام الشَّارحين: ومطابقة هذا الأثر للجزء الثاني من التَّرجمة ظاهرة، وهو تعليق من البخاري، وقد وصله معمر عن أيِّوب عن ابن سيرين قال: (كان شريح إذا قضى على رجل بحق؛ أمر بحبسه في المسجد إلى أن يقوم بما عليه، فإن أعطى الحق، وإلا أمر به في السجن) انتهى.