أصل الزراري شرح صحيح البخاري

باب الخدم للمسجد

          ░74▒ هذا (باب) في بيان أمر (الخَدَم)؛ بفتحتين: جمع خادم، ويجمع أيضًا على خُدَّام؛ بِضَمِّ المعجمة، وتشديد المهملة (للمسجد)؛ باللَّام رواية الأكثرين، وفي رواية كريمة: (في المسجد)، وكان المناسب أن يكون هذا الباب عقيب باب (كنس المسجد) على ما لا يخفى، كذا قاله إمام الشَّارحين؛ فليحفظ.
          (وقال ابن عبَّاس) هو عبد الله بن عبَّاس بن عبد المطلب، حبر هذه الأمَّة، ويسمَّى البحر؛ لغزارة علمه، وكان يفتي في عهد الصديق والفاروق، ويشاورانه مع أهل بدر♥، توفي بالطَّائف سنة ثمان وستين، عن إحدى وسبعين سنة.
          وهذا التَّعليق وصله الضحاك في «تفسيره» عنه، ووصله أيضًا ابن أبي حاتم_لكن بمعناه_ في تفسير قوله تعالى حكاية عن حَنَّة_بفتح المهملة، وتشديد النُّون آخره هاء_ بنت فاقوذا_بالفاء أوله بعد ألف، ثم قاف بعد واو، ثم ذال معجمة ثم ألف_ وهي: امرأة عمران بن ماثان، وهي أم مريم والدة عيسى النَّبي الذي ينزل في ديارنا آخر الزمان، وليس هو عمران بن يصهر؛ لأنَّه والد موسى الكليم وهارون الكريم، وكان بين العمرانين ألف / وثمان مئة سنة، كما قاله أبو السعود، وكانت حَنَّة عاقرًا، فرأت يومًا طائرًا يزق فرخه، فاشتهت الولد، فسألت الله تعالى أن يهبها ولدًا، فاستجاب الله دعاءها، فواقعها زوجها، فحملت منه، فلما تحقَّقت الحمل؛ قالت ما أخبر الله تعالى عنها بقوله: {رَبِّ إِنِّي} ({نَذَرْتُ} ) : النَّذر: ما كان وعدًا على شرط، كما في «القاموس»، والنَّذر: واحد النُّذور، وقد نذر لله كذا، من باب (ضرب) و (نصر)، ويقال: نذر على نفسه نذرًا، ونذر ماله نذرًا، وتناذر القوم كذا؛ خوف بعضهم بعضًا، كذا في «مختصر الصِّحاح»، والنَّذر: إيجاب عين الفعل المباح على نفسه تعظيمًا لله تعالى، كذا في «تعريفات السيد»، قلت: وهذا أولى مما في «القاموس»؛ فافهم، فعلي ({لَكَ} )؛ أي: قاصدًا بالنذر ابتغاء وجهك؛ أي: ذاتك ({مَا فِي بَطْنِي} ) : إنَّما عبرت بـ (ما) الموضوعة لمن لا يعقل؛ لأنَّه مبهم لم تعلمه أذكر أم أنثى ({مُحَرَّرًا} ) [آل عمران:35]، كذا في رواية الأكثرين، وهو بالنصب على الحال، أي: معتقًا، وفي رواية الأصيلي: (تعني: محررًا)، وعليها؛ فهو منصوب بـ (تعني) على المفعولية، والضمير في (تعني) يرجع إلى حنة أم مريم، (للمسجد)؛ أي: الأقصى، فاللَّام للعهد، وهو بيت المقدس بالاتفاق، قالوا: وسمِّي الأقصى؛ لبعد ما بينه وبين المسجد الحرام (تخدُمه)؛ بِضَمِّ الدَّال، وفي أوله مثناة فوقية أو تحتية للمؤنث الغائب؛ أي المسجد: لا أُشغله بشيء سوى الخدمة، أو مخلصًا للعبادة، وفي رواية أبي ذر: (تخدمها)؛ أي: المساجد، أو الصخرة، أو الأرض المقدسة.
          قال البيضاوي: (روي أنَّ أمَّ مريم كانت عاقرًا عجوزًا، فبينا هي في ظل شجرة؛ إذ رأت طائرًا يطعم فرخه، فحنَّت إلى الولد وتمنَّته، فقالت: اللهم إنَّ لك نذرًا إن رزقتني ولدًا؛ أن أتصدق به على بيت المقدس، فيكون من خَدَمِه، فحملت بمريم، ومات عمران، وهذا النذر كان مشروعًا عندهم في الغلمان، فلعلَّها بَنَتِ الأمر على التقدير أو طلبت ذكرًا، فلما وضعتها؛ قالت: {رب إني وضعتها أنثى}، قالته تحسرًا وتحزنًا لما فاتها مما كانت ترجوه من ذكر؛ لتحرره لخدمة المسجد الأقصى، {فتقبَّلها ربها} [آل عمران:37] : فرضيها في النذر مكان الذكر) انتهى.
          قلت: والظَّاهر أن قولها: {رب إنِّي وضعتها أنثى} ليس للتحسُّر والتحزُّن لما فاتها من ذكر، بل لكون المسجد يدخل فيه الكبير والصغير، والذكر، والبرُّ والفاجر، فخافت من خدمتها الفتنة والعار، ووقوعها في المحظور؛ لأنَّ الذكر إذا خالط الذكور وغيرهم؛ لا يقع في الفتنة، بخلاف الأنثى، فقوله تعالى: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا} يعني: حفظها ورضيها للنذر مكان الذكر، وأنَّه حفظها مما يُتوهم وقوعه من الفتنة؛ فيراجع.
          وقال إمام الشَّارحين: (أشار البخاري بهذا التَّعليق إلى أن تعظيم المسجد بالخدمة كان مشروعًا في الأمم الماضية، ألا ترى أن الله تعالى حكى عن حَنَّة أمِّ مريم أنَّها لمَّا حَبلَت؛ نذرت لله تعالى أن يكون ما في بطنها محرَّرًا، يعني: عتيقًا يخدم المسجد الأقصى، ولا يكون لأحد عليه سبيل، ولولا أنَّ الخدمة للمساجد مما يتقرب به إلى الله تعالى؛ لمَا نذرت به، وهذا موضع التَّرجمة) انتهى، قلت: وهذا مبني على أنَّ شرع من قبلنا شرع لنا؛ لأنَّه تعالى قصَّه علينا ورسوله ◙ من غير إنكار، فصارت خدمة المسجد مطلوبة.
          بقي أنَّه هل يصح النذر بخدمة المسجد؟ والظَّاهر: أنَّه غير صحيح؛ لأنَّه ليس من جنسه واجبًا؛ فيراجع.
          وزعم ابن حجر أن مناسبة هذا التَّعليق لحديث الباب؛ من جهة صحَّة تبرع المرأة بإقامة نفسها لخدمة المسجد لتقرير النَّبي صلعم لها على ذلك، انتهى.
          قلت: وأراد بالمرأة التي أقامت نفسها لخدمة المسجد: المرأة السَّوداء، فإنَّه ◙ أقرَّها ولم ينكر عليها، لكنَّ فيه أنَّ مريم لم تتبرَّع بنفسها، بل أمها نذرت أن تكون خادمة للمسجد، والنذر من الشَّخص لا يجري على غيره ولو كان ولدًا له، فما قاله غير ظاهر.
          وزعم العجلوني أنَّه لا يقال: حقه أن يقول: بإقامة ولدها؛ لأنَّ النَّاذرة هي أمُّ مريم لا مريم نفسها، ولعله أراد: أن مريم أقامت نفسها بعد أن بلغت مبلغًا يصح منها الإقامة، انتهى.
          قلت: وفيه بعد؛ لأنَّ أمَّ مريم وإن كانت هي النَّاذرة، لكنَّها لم تنذر نفسها، بل نذرت ولدها، وهي لا تملك منعه من الاشتغال بغير خدمة المسجد.
          ولو قيل: (حقه أن يقول: بإقامة ولدها) لا يصح أيضًا؛ لأنَّ المرأة السوداء ليس لها ولد، ولو كان؛ فهي لم تقمه لأجل خدمة المسجد، بل تولت خدمته بنفسها؛ فهذا الجواب غير صحيح.
          وأما قوله: (ولعله أراد...) إلخ؛ فله وجه، لكن إن ثبت أنَّ مريم كانت بالغة، مع أن الذي ذكره المفسِّرون أن حَنَّة وضعت مريم في المسجد قبل بلوغها مبلغًا يصح منها الإقامة، ويلزم أيضًا ثبوت تبرُّع مريم بالخدمة في المسجد؛ لاحتمال عدم رضاها بالمكث فيه، وأمها لم تملكها، والذي يجنح للقلب أن المناسبة بين التَّعليق والحديث: هو مجرد خدمة مريم في المسجد مع قطع النَّظر عن النِّذر الذي وقع من أمها حَنَّة، كما أنَّ المرأة السوداء تبرَّعت بالخدمة من غير نذر منها ولا من أمها إن لو كانت، ولهذا أشار البخاري بالتَّعليق إلى أنَّ تعظيم المساجد بالخدمة مطلوب، وهو مشروع في الأمم السَّالفة، وقد أقرَّه النَّبي الأعظم صلعم، ولم ينكره؛ فليحفظ.