أصل الزراري شرح صحيح البخاري

باب الصلاة على الحصير

          ░20▒ هذا (باب) بيان حكم (الصلاة على الحَصِير)؛ بفتح الحاء، وكسر الصاد المهملتين، وفي «المحكم»: أنها سفيفة تصنع من بردي وأَسل، سميت بذلك؛ لأنَّها تفرش على وجه الأرض، وكذلك يسمى وجه الأرض حصيرًا، والسَّفيْفة؛ بفتح السين المهملة، وبالفاءين، بينهما تحتية ساكنة: شيء يعمل من الخوص؛ كالزنبيل، والأَسل؛ بفتح الهمزة، والسين المهملة، آخره لام: نبات له أغصان كثيرة دقاق لا ورق لها، وفي «الجمهرة»: (الحصير عربي، سمي حصيرًا؛ لانضمام بعضها إلى بعض)، وقال الجوهري: (الحصير: الباريَّة)، كذا في «عمدة القاري».
          ووجه مناسبة هذا الباب بالباب الذي قبله من حيث إن كلًّا منهما ذكر في حكم الصلاة، ففي الأول: السجود على الخمرة؛ وهي السجادة التي توضع على الأرض، وهنا السجود على الحصير التي توضع أيضًا على الأرض، وقدمنا تمام الكلام في باب (عقد الإزار على القفا)؛ فافهم.
          (وصلى جابر) ولأبي ذر وأبي الوقت: (وصلى جابر بن عبد الله) : هو الأنصاري ☺ (وأبو سعيد) : هو سعد بن مالك (الخدري) ☺ (في السفينة) : وهي الفلك؛ لأنَّها تسفن وجه الماء؛ يعني: تقشره، فعيلة بمعنى فاعلة، والجمع سفائن وسفن وسفين (قيامًا) : جمع قائم، وأراد به التثنية؛ أي: قائمين، وهو نصب على الحال، وفي بعض النسخ: (قائمًا)؛ بالإفراد بتأويل كل منهما قائمًا، وهذا التعليق وصله أبو بكر ابن أبي شيبة بسند صحيح عن عبيد الله بن أبي عتبة مولى أنس، قال: (سافرت مع أبي الدرداء، وأبي سعيد الخدري، وجابر بن عبد الله_وأناس قد سماهم، قال_: فكان إمامنا يصلي بنا في السفينة قائمًا، ونصلي خلفه قيامًا، ولو شئنا؛ لأرفينا)؛ أي: لأرسينا، يقال: أرسى السفينة؛ بالسين المهملة، وأرفى؛ بالفاء: إذا وقف بها على الشط، والبخاري اقتصر هنا على ذكر الاثنين وهما جابر وأبو سعيد ☻، كذا قاله إمام الشَّارحين.
          ثم قال: ووجه مناسبة إدخال هذا الأثر في هذا الباب هو أنَّ هذا الباب في (الصلاة على الحصير)، وفي الباب الذي قبله: (وكان يصلي على الخمرة)، وكل واحد من الحصير والخمرة يعمل من سعف النخل، ويسمى: ( سجادة، والسفينة أيضًا مثل السجادة على وجه الماء، فكما أن المصلي يسجد على الخمرة والحصير دون الأرض، فكذلك الذي يصلي في السفينة يسجد على غير الأرض) انتهى.
          وزعم ابن المنير في وجه المناسبة بينهما هو أنَّهما اشتركا في الصلاة على غير الأرض؛ لئلا يتخيل أن مباشرة المصلي الأرض شرط من قوله ◙ لمعاذ: «عفر وجهك في التراب» انتهى.
          ورده إمام الشَّارحين: بأنه لا يخلو عن حزازة، والوجه القوي ما ذكرناه، انتهى.
          قلت: ولا مناسبة لحديث معاذ هنا؛ لأنَّه ورد في (التيمم) .
          وقوله: (لئلا يتخيل...) إلخ: ممنوع، فإن الصلاة جائزة على الأرض حقيقةً وحكمًا، فالمصلي في السفينة مصلٍّ على الأرض حكمًا، فلا حاجة إلى هذا الكلام؛ فافهم.
          قال إمام الشَّارحين: (ويستنبط من هذا الأثر: هو أن الصلاة في السفينة إنَّما تجوز إذا كان المصلي قائمًا، وقال الإمام الأعظم رئيس المجتهدين: تجوز الصلاة فيها قائمًا وقاعدًا، بعذر وبغير عذر، وبه قال الحسن بن مالك، وأبو قلابة، وطاووس، روى ذلك عنهم ابن أبي شيبة، وروى أيضًا عن مجاهد: أن جنادة بن أبي أمية قال: كنا نغزو معه، لكنا نصلي في السفينة قعودًا، ولأن الغالب فيها دوران الرأس؛ فصار كالمتحقق، والأولى أن يخرج منها إن استطاع الخروج منها، وقال الإمامان أبو يوسف ومحمد بن الحسن: لا تجوز الصلاة في السفينة قاعدًا إلا من عذر؛ لأنَّ القيام ركن، فلا يترك إلا من عذر، والخلاف في غير المربوطة، فلو كانت مربوطة في لجة البحر؛ لم تجز الصلاة قاعدًا إجماعًا، وقيل: تجوز عنده في حالتي الإجراء والإرساء، ويلزمه التوجه للقبلة عند الاستفتاح، وكلما دارت السفينة؛ لأنَّها في حقه كالبيت حتى لا يتطوع فيها مومئًا مع القدرة على الركوع والسجود، بخلاف راكب الدابة) انتهى.
          قلت: فإن راكب الدابة يصلي مومئًا على الدابة إلى أي جهة توجهت به دابته، وهذا إذا كان خارج المصر عند الإمام الأعظم والإمام محمد بن الحسن، وقال الإمام أبو يوسف: يجوز أيضًا إذا كان في المصر، وهذا الأثر المذكور عن جابر وأبي سعيد يدل لما قاله الإمام الأعظم؛ لأنَّ معناه: أن الصلاة تجوز في السفينة قائمًا وقاعدًا من غير عذر؛ لأنَّهما صليا(1) فيها وهي راسية؛ لقوله: (ولو شئنا؛ لأرفينا)؛ أي: لأرسينا، فإذا كانت كذلك؛ فلا تجوز الصلاة قاعدًا، فلهذا صلى إمامهم قائمًا، وهذا ظاهر؛ فافهم. /
          (وقال الحسن) : هو البصري، مما وصله ابن أبي شيبة كما سيأتي (تصلي) : خطابًا لمن سأله عن الصلاة في السفينة: هل يصلي قائمًا أو قاعدًا؟ فأجابه بقوله له: تصلي (قائمًا)؛ أي: حال كونك قائمًا تركع وتسجد (ما لم تشق)؛ بالفوقية والتحتية (على أصحابك)؛ أي: بالقيام، وكلمة (ما) مصدرية ظرفية، معناها المدة؛ والمعنى: تصلي قائمًا مدة دوام عدم شق أصحابك (تدور معها)؛ أي: مع السفينة حيثما دارت، فأفاد بهذا أنه يلزمه التوجه للقبلة عند الاستفتاح، وكلما دارت السفينة، وهو مذهب الإمام الأعظم، وأصحابه، والجمهور، خلافًا لمن زعم عدم لزوم الدوران، (وإلا) أي: وإن لم يشق على أصحابك القيام؛ (فقاعدًا)؛ أي: فصل حال كونك قاعدًا؛ لأنَّ الحرج مدفوع، وأجاز إمامنا رئيس المجتهدين الصلاة في السفينة قاعدًا مع القدرة على القيام، سواء كان بعذر أم لا، وظاهر كلام الحسن البصري هذا: أنَّ القيام ليس شرطًا؛ لأنَّه جعله لأجل الموافقة للأصحاب، وهو دليل الاستحباب؛ كالصوم في السفر إذا كان يشق على الأصحاب؛ فالمستحب الفطر، وإلا؛ فالمستحب الصوم، فكلام الحسن موافق لما ذهب إليه الإمام الأعظم، ولئن قيل غير ذلك؛ فهم رجال ونحن رجال، فإن الأثر عن التابعي لا يعارض مذهب تابعي آخر، بل الصواب ما عليه إمامنا، وفي رواية أبي ذر عن الكشميهني: (يصلي)؛ بالمثناة التحتية، وكذلك: (يشق على أصحابه)؛ بضمير الغائب، و (يدور)؛ بالتحتية كذلك، وفي غير رواية أبي ذر: (تصلي)، و (تشق)، و (تدور)؛ بالمثناة الفوقية في الثلاثة، وهي أوفق في المعنى، قيل: وفي متن «الفرع»: (وقال الحسن: قائمًا...) إلى آخره، فأسقط لفظة: (يصلي) .
          قلت: والظاهر: أنها سقطت سهوًا أو غفلة من الناسخ؛ لأنَّه لا بد منها لصحة المعنى؛ فافهم.
          وقال إمام الشَّارحين: (وهذا التعليق وصله ابن أبي شيبة بإسناد صحيح: حدثنا حفص عن(2) عاصم، عن الشعبي، والحسن، وابن سيرين: أنَّهم قالوا: حل في السفينة قائمًا، وقال الحسن: لا تشق على أصحابك، وفي رواية الربيع بن صالح: أن الحسن ومحمدًا قالا: يصلون فيها قيامًا جماعة، ويدورون مع القبلة حيث دارت، والبخاري اقتصر على الذكر عن الحسن) انتهى.
          قلت: ولعل اقتصاره عليه كونه ذكر التفصيل، وهو إذا شق على أصحابه؛ يصلي قاعدًا، وإلا؛ فقائمًا، والظاهر: أن المؤلف اختار قوله فاقتصر عليه، والظاهر: أن القيام ليس بشرط على قول الحسن وكذلك على قول ابن سيرين لأن الشق على الأصحاب لعدم موافقتهم مستحبٌّ لا واجبٌ، كما يستفاد من كلامهما، وهو ظاهر اللفظ، فصار الحاصل: أن القيام فيها غير شرط، بل مستحب؛ لأجل موافقة أصحابه، وهذا كالصوم في السفر كما ذكرنا، والله تعالى أعلم؛ فافهم ذلك.


[1] في الأصل: (صلا)، والمثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (بن)، وهو تحريف.