أصل الزراري شرح صحيح البخاري

باب [فضل المشي إلى المسجد في الليلة المظلمة]

          ░79▒ هذا (باب) بالتنوين من غير ترجمة، وبهذا التقدير صار معربًا، ولهذا قال إمام الشَّارحين: (إن لم نقدِّر شيئًا(1) قبل لفظ: «باب» أو بعده؛ لا يكون معربًا؛ لأنَّ الإعراب لا يكون إلا بعد العقد والتركيب، ثم إنَّ البخاري جرت له عادة، وهي أنَّه إذا ذكر لفظ: «باب» مجردًا عن التَّرجمة؛ يدل ذلك على أنَّ الحديث الذي يذكره بعده يكون له مناسبة بأحاديث الباب الذي قبله، وههنا لا مناسبة بينهما أصلًا بحسب الظَّاهر على ما لا يخفى، لكن تُكُلِّف في ذلك فقيل: تعلقه بأبواب المساجد من جهة أنَّ الرجلين تأخرا مع النَّبي صلعم في المسجد في تلك الليلة المظلمة؛ لانتظار صلاة العشاء معه، وقال بعضهم: فعلى هذا كان يليق أن يترجم له: فضل المشي إلى المسجد في الليلة المظلمة، قلت: كل واحد من الكلامين غير موجه؛ لأنَّ حديث الباب لا يدل عليهما أصلًا؛ لأنَّ حديث الباب في الرجلين اللذين خرجا من عند النَّبي صلعم في ليلة مظلمة حتى أتيا أهلهما) انتهى كلام إمام الشَّارحين.
          ومراده بقوله: (فقيل) هو قول ابن رشيد، وبقوله: (بعضهم) ابن حجر، واعترضه العجلوني، فزعم أنَّه لا وجه لاعتراضه عليهما، فإنَّهما أبديا مناسبة لذكره في أبواب المساجد أخذًا من كلام ابن بطال، انتهى.
          قلت: ليس كل من أبدى(2) مناسبة يقبل منه، وأي مناسبة ههنا، والحديث الذي ذكره في الباب لا يدل عليها، فإنَّ الباب الذي قبله في إدخال البعير المسجد، وههنا في الرجلين الذين خرجا من عنده ◙ في ليلة مظلمة حتى أتيا أهلهما، فما المناسبة بينهما؟ كما لا يخفى، على أنَّ كلام ابن بطال فيه بُعد كما ستقف عليه قريبًا.
          وزعم ابن حجر أنَّ المؤلف بيَّض لهذا الباب، فاستمر كذلك، وكأنَّه تلجج بحديث أبي داود وغيره عن بريدة من قوله ◙: «بشر المشائين في الظُّلَم إلى المساجد يوم القيامة بالنور التام» انتهى.
          قلت: كون المؤلف بيَّض له فاستمر كذلك يدل على أنَّ المؤلف لم ير مناسبة لحديث الباب مع أحاديث الباب الذي قبله؛ لأنَّه لو كان فيه أدنى مناسبة؛ لذكر ترجمة تناسبه، وكونه تلجج بحديث أبي داود بعيد عن الأفهام؛ لأنَّه لو كان مراده هذا؛ لترجم له وذكره تحت ترجمته، ومن البعيد أن يترجم لشيء من الأحاديث ولم يذكرها؛ لأنَّه معيب عند المؤلفين، كما لا يخفى، ولأنَّ فيه تشتيت الأذهان بلا برهان؛ لأنَّ عادته ذكر الأحاديث حتى يستدل بها، وما لم يذكره يكون غير موافق لشرطه، فلا يعتمد عليه، فكيف يترجم أو يجنح إليه، وهو لا يستدل به؛ فافهم ذلك.
          وقال ابن بطال: (إنَّما ذكر البخاري هذا الحديث في باب أحكام المساجد؛ لأنَّ الرجلين كانا مع النَّبي صلعم في المسجد، وهو موضع جلوسه مع أصحابه، وأكرمهما الله بالنور في الدنيا ببركته ◙، وفضل مسجده وملازمته، وذلك آية للنبي ◙ وكرامة له) انتهى.
          وردَّه إمام الشَّارحين فقال: (هذا أيضًا فيه بُعد، والوجه أن يقال: إنَّهما لما كانا في المسجد مع النَّبي صلعم وهما ينتظران صلاة العشاء معه؛ أُكرما / بهذه الكرامة، وللمسجد في حصول هذه الكرامة دخل، فناسب ذكر حديث الباب ههنا بهذه الحيثية) انتهى.
          واعترضه العجلوني بأن ما ذكره هو كلام ابن بطال، وابن رشيد، وابن حجر، ولا وجه لاعتراضه على ابن بطال، انتهى.
          قلت: ليس من عادة إمام الشَّارحين أن يأخذ كلام غيره، وينسبه لنفسه، بل هذه عادة ابن حجر، وما ذكره ليس كلام هؤلاء، بل هو كلام من نفسه لم يسبقه إليه أحد، فهو من فيض الوهاب في مناسبة ذكر حديث الباب ههنا.
          واعتراضه على ابن بطال وجيه؛ لأنَّه قال: (لأنَّ الرجلين كانا معه ◙ في المسجد، وهو موضع جلوسه مع أصحابه...) إلخ، فما معنى هذا الكلام؟ وأي مناسبة في موضع جلوسه مع أصحابه بما سبق؟ وما هذا إلا تعصب بارد.
          ونقل العجلوني عنهم: أنَّه يستدل له بأنَّ الله يجعل لمن يسبح في تلك المساجد نورًا في قبورهم وفي جميع أعضائهم، وكان الأولى بالبخاري أن يترجم لهذا الحديث بـ (باب قول الله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} ) [النور:40] انتهى.
          قلت: وهذا كلام غير ظاهر؛ لأنَّه إنْ أراد بقوله: (يستدل له...) إلخ: وجه المناسبة بين حديث الباب وبين الذي قبله؛ فلا شك في منعه، وأنَّه بعيد؛ لأنَّ الحديث السَّابق ليس فيه ما ذكر ولا إشارة إليه، وإنْ أراد به: فضل حضور الجماعة معه ◙؛ فلا شك في ذلك، ومع هذا فهو غير مناسب لما قبله، كما لا يخفى.
          وقوله: (وكان الأولى...) إلخ؛ ممنوع أيضًا؛ لأنَّ هذه الكرامة ليست عامة في جميع الناس، فكم شخص يصلِّي وليس له نور، على أنَّ المراد بالنور: الإيمان، فمن لم يجعل الله له إيمانًا؛ فما له من إيمان وإن صلى وصام، والظَّاهر أن يقال في وجه المناسبة: إنَّ حديث الباب لما كان فيه أنَّ الرجلين كانا في مسجده ◙؛ ناسب أن يذكر في (أبواب المساجد)، ومناسبته بما قبله من حيث إنَّ الرجلين كانا قد صليا معه صلاة العشاء في المسجد، وفي الحديث السَّابق: أنَّ أم سلمة كانت في المسجد، وصلت معه ◙ صلاة الصبح في المسجد وسألته، وكان الأولى أن يترجم البخاري له بـ (باب فضل الصلاة مع الجماعة)، أو (باب فضل الصلاة معه ◙)، أو (باب فضل صلاة العشاء)؛ فتأمَّل، والله أعلم.


[1] في الأصل: (شيءٌ).
[2] في الأصل: (أيد)، ولعل المثبت هو الصواب.