أصل الزراري شرح صحيح البخاري

باب ما يذكر في الفخذ

          ░12▒ هذا (باب: ما يُذكَر)؛ بضم التحتية أوله، وفتح الكاف (في) حكم (الفخِذ) وفي رواية الكشميهني: (من الفخذ)، ويجوز في الخاء المعجمة الكسر والسكون، ووجه مناسبته بما قبله: هو أن المذكور في الباب قبله هو الصلاة في ثوب ملتحفًا به لستر العورة، والمذكور في هذا الباب حكم الفخذ، وهو أنه عورة، فإذا كان عورة؛ يجب ستره، والستر إنَّما يكون بالثياب، فتحققت المناسبة بينهما.
          (قال أبو عبد الله)؛ أي: المؤلف نفسه، كذا هو ثابت في رواية أبوي ذر والوقت، ساقط في غيرهما: (ويُروى)؛ بضم التحتية أوله مبنيًّا للمفعول، وهو تعليق بصيغة التمريض، وذكره المؤلف عن ثلاثة أنفس:
          الأول: (عن ابن عباس) : هو عبد الله بن عباس ☻، وقد وصله الترمذي وأحمد، فقال الترمذي: (حدثنا واصل بن عبد الأعلى، عن يحيى بن آدم، عن إسرائيل بن يونس، عن أبي يحيى القتات، عن مجاهد، عن ابن عباس: أن النبيَّ الأعظم صلعم قال: «الفخذ عورة»، وقال: هذا حديث حسن غريب)، وأبو يحيى القتات ضعيف، وهو مشهور بكنيته، واختلف في اسمه على سبعة أقوال؛ قيل: عبد الرحمن بن دينار، وقيل: مسلم، وقيل: زاذان، وقيل: ديان، وقيل: عمران، وقيل: دينار، والقَتَّات: بفتح القاف، وتشديد المثناة الفوقية.
          (و) الثاني: عن (جَرْهَد)؛ بفتح الجيم، وسكون الراء، وفتح الهاء، آخره دال مهملة: هو ابن رزاح بن عدي الأسلمي، له صحبة عديدة في أهل المدينة، وقال أبو عمرو: (جعل ابن أبي حاتم جرهد بن خويلد غير جرهد بن رزاح)، وهذا وهم، وهو رجل واحد من أسلم لا يكاد يسلم له صحبة، ويقال: إنه مات سنة إحدى وستين، وفي إسناد حديثه اختلاف كثير، وأخرجه مالك في «الموطأ» عن أبي النضر، عن زرعة بن عبد الرحمن بن جرهد، عن أبيه، عن جده قال: وكان جدي من أهل الصُّفة، قال: جلس رسول الله عندي وفخذي مكشوفة، فقال: «خمر عليك، أمَا علمت أن الفخذ عورة»، وقال الدارقطني: (روى هذا الحديث أصحاب «الموطأ»: ابن بكير، وابن وهب، ومعن، وعبد الله بن يوسف، هو عند القعنبي خارج «الموطأ» في الزيادات من مالك، ولم يذكره ابن القاسم في «الموطأ» ولا ابن عفير ولا أبو مصعب... إلى آخره) كلامه، وأخرجه ابن حبان في «صحيحه» من حديث أبي عاصم عن سفيان، عن أبي الزناد، عن زرعة بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن جده، ورواه الترمذي عن ابن أبي عمر قال: حدثنا سفيان، عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله، عن زرعة بن مسلم بن جرهد الأسلمي، عن جده جرهد قال: مر النبيُّ الأعظم صلعم بجرهد في المسجد وقد انكشف فخذه، فقال: «إن الفخذ عورة»، هذا حديث حسن ما أرى إسناده بمتصل، وذكره ابن القطان، ثم قال: (وهو معلول بالاضطراب وبجهالة حال الراوي عن جرهد)، وذكره البخاري في «تاريخه»، ثم قال: (ولا يصح)، قال ابن الحذاء: (وإنما لم يخرجه البخاري في «مصنفه» لهذا الاختلاف) انتهى.
          قلت: لكن قد استند فيه لما روي عن ابن عباس وابن جحش، وظاهره الاعتماد عليه؛ لقوله: (وحديث جرهد أحوط)؛ يعني: فينبغي العمل به، فهذا يدل على صحته، وعدم إعلاله؛ فليحفظ.
          (و) الثالث: عن (محمد ابن جحش)؛ بالجيم، ثم الحاء المهملة، نسبه لجده؛ لشهرته به، وإلا؛ فهو محمد بن عبد الله بن جحش، له ولأبيه صحبة، وزينب بنت جحش أم المؤمنين هي عمته، وكان محمد صغيرًا في عهد النبيِّ الأعظم صلعم، وقد حفظ عنه، وكان مولده قبل الهجرة بخمس سنين، هاجر إلى المدينة مع(1) أبيه، وله صحبة، وحديثه رواه الطبراني عن يحيى بن أيوب، عن سعيد بن أبي مريم، عن محمد بن جعفر، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبي كثير مولى محمد بن جحش قال: كنت أصلي مع النبيِّ الأعظم صلعم، فمرَّ على معمر بن عبد الله بن نضلة(2) العدوي وهو جالس عند داره بالسوق وفخذاه مكشوفتان، فقال: «يا معمر؛ غطِّ فخذيك؛ فإن الفخذين عورة»، قال ابن حزم: (رواية أبي كثير مجهولة(3) )، وذكره البخاري في «تاريخه»، وأشار إلى الاختلاف فيه، ورواه أحمد في «مسنده»، والحاكم في «مستدركه»، كذا قرره إمام الشَّارحين ⌂ ثلاثتهم.
          (عن النبيِّ) الأعظم (صلعم) أنه قال: (الفخذ عورة) : وهو قول الجمهور من التابعين ومن بعدهم؛ منهم: إمامنا الإمام الأعظم، والإمام أبو يوسف، والإمام محمد بن الحسن، والإمام زفر بن الهذيل، وبه قال محمد بن إدريس، وهو الأصح عند مالك، وأصح الروايتين عن أحمد ابن حنبل حتى قال أئمتنا الأعلام: (إن صلاته مكشوف الفخذ فاسدة)، وقال الأوزاعي: (الفخذ عورة إلا في الحمام)، وقال الإمام الوبري: (السرة من العورة عند الإمام الأعظم).
          قلت: وهي رواية ضعيفة، والمعتمد: أن السرة ليست من العورة، كما نص عليه المنلاخسرو في «الدرر»، وتبعه البرهان الحلبي، وصاحب «البحر» و«النهر»، وقال في «المفيد»: (الركبة مركبة من عظم الفخذ والساق، فاجتمع الحظر والإباحة، فغلب الحظر احتياطًا) انتهى.
          واختلفوا في أن الركبة مع الفخذ عضو واحد، أو كل منهما عضو على حدة؛ ففي «التجنيس»: (الركبة إلى آخر الفخذ عضو واحد حتى لو صلى والركبتان مكشوفتان والفخذ مغطًّى؛ جازت صلاته؛ لأنَّ نفس الركبة من الفخذ، وقيل: إنها بانفرادها عضو)، ولكن الأصح الأول؛ لأنَّه ليس بعضو على حدة في الحقيقة، بل هي ملتقى عظمي الفخذ والساق، وإنما حرم النظر إليها؛ لتعذر التمييز، فعلى الأول: (من) تبعيضية، وعلى الثاني: بيانية، كذا في «العناية».
          وقال في «الخلاصة»: (والركبة لا تعتبر عضوًا على حدة، بل تبع للفخذ هو المختار) انتهى.
          وقال في «النهر»: (إنه الأصح)؛ فليحفظ، وعورة الرجل من تحت السرة إلى الركبة، والركبة من العورة، كذا قاله الإمام القدوري؛ لحديث علي بن أبي طالب: قال ◙: «الركبة من العورة»، وحديث أبي أيوب: «ما فوق الركبتين، وما أسفل من السرة من العورة»، فتعارض المحرم / والمبيح في الركبة، فيقدم المحرم، وروى الدارقطني مرفوعًا: «عورة الرجل ما تحت السرة إلى ركبتيه»، فإن فيه جعل الركبة غاية، وقد احتمل دخولها وعدمه، والاحتياط في الدخول، فتدخل، كذا في «شرح المنية».
          وبدن الحرة كلها عورة إلا وجهها وكفيها وقدميها، كذا في «القدوري»، فإن وجهها وكفيها وقدميها ليس بعورة بالإجماع لا في حق الصلاة ولا في حق نظر الأجنبي، حتى إن الأجنبي يباح له النظر إلى وجهها وكفيها وقدميها إذا كان بغير شهوة، وأما ذراع الحرة؛ فظاهر الرواية عن أئمتنا الأعلام: أنه عورة، وفي رواية عن الإمام الأعظم: أن ذراعيها ليسا بعورة، فلو انكشف ذراعاها(4) في الصلاة؛ لا تفسد، كما في «الاختيار»، وصحح بعضهم: أنه عورة في الصلاة لا خارجها، كما في «فتح القدير»، وقال في «المجتبى»: (الذراع لا يمنع الصلاة، لكن يكره كشفه؛ ككشف القدم)، كما في «القهستاني»، فأفاد أن القدم ليس بعورة، وهو الأصح، كما في «المحيط» و«الهداية»، وقيل: إنه عورة، وصححه الأقطع، وفي «الاختيار»: (الصحيح أن القدم ليس بعورة في الصلاة، وعورة خارجها)، وفي «الحلية»: (الصحيح أنه عورة مطلقًا)، فالأقوال ثلاثة مصححة، وقال القدوري: (وما كان عورة من الرجل؛ فهو عورة من الأمَة، وبطنها وظهرها عورة، وما سوى ذلك من بدنها؛ فليس بعورة) انتهى.
          ومثل الأمَة القنَّة، وأم الولد، والمدبرة، والمكاتبة، والمستسعاة عند الإمام الأعظم، وقال الصاحبان: المستسعاة حرة، والمراد بالمستسعاة: معتقة البعض، وأما المستسعاة المرهونة إذا أعتقها الراهن وهو معسر؛ فهي حرة اتفاقًا، كذا في «البحر الرائق»، وعورة الرقيق كعورة الحر، والخنثى المشكل الحر كالحرة، والرقيق كالأمَة، قال في «السراج»: الخنثى إذا كان رقيقًا؛ فعورته عورة الأمَة، وإن كان حرًّا؛ فعورته عورة المرأة الحرة، فإن ستر ما بين سرته وصلى؛ قال بعضهم: تلزمه الإعادة؛ لجواز أن يكون امرأة، وقال بعضهم: لا تلزمه الإعادة؛ لجواز أن يكون رجلًا، والإعادة أحوط، كذا في «النهر الفائق»، وفيه عن «السراج»: (الصغير جدًّا لا عورة له، ولا بأس بالنظر إليها ومسها؛ لأنَّه ◙ كان يفعل ذلك في الحسن والحسين)، كذا في «الفتاوى»، ومثل الصغير الصغيرة، فيباح النظر والمس، كذا في «معراج الدراية»، والمراد بهما: ما لم يبلغا حد الشهوة، وتمامه في «منهل الطلاب».
          وزعم ابن بطال أن من صلى مكشوف العورة؛ لا إعادة عليه إجماعًا، وردَّه إمام الشَّارحين، فقال: دعوى الإجماع غير صحيحة، فيكون مراده إجماع أهل مذهبه، انتهى.
          قلت: وقد نقل الشراح: أن الفخذ عورة في أصح أقوال مالك، وعليه فلا إجماع(5) في أهل مذهبه، ولا يخفى أن ما زعمه ابن بطال غير صحيح؛ لمنافاته الأحاديث الدالة على وجوب الستر في الصلاة؛ فليحفظ.
          وقال في «التوضيح»: حاصل ما في عورة الرجل خمسة أوجه؛ أصحها وهو المنصوص: أنها ما بين السرة والركبة، وهما ليسا بعورة، وبه قال زفر ومالك، والأصح عند أحمد، ثانيها: أنَّهما عورة كما روي عن الإمام الأعظم، ثالثها: السرة ومن الركبة، رابعها: عكسه، خامسها: القبل والدبر، وهو قول الإصطخري، وهو شاذ، انتهى.
          (وقال أنس) زاد الأصيلي: «ابن مالك»: هو الأنصاري، مما وصله المؤلف قريبًا في هذا الباب: (حَسَرَ)؛ بفتح حروفها المهملات؛ أي: كشف (النبيُّ) الأعظم (صلعم) في غزوة خيبر الإزار (عن فخذه) فهو دليل على أنه ليس من العورة، وبه قال ابن أبي ذئب، وابن علية، والطبري، وداود، وأحمد في رواية، والإصطخري من الشافعية، قال ابن حزم: العورة المفروض سترها عن الناظر في الصلاة من الرجال الذكر وحلقة الدبر فقط، وليس الفخذ من العورة، وهي من المرأة جميع جسدها حاشا الوجه والكفين فقط، والحر والعبد والحرة والأمَة فيه سواء بلا فرق؛ لحديث أنس الذي أخرجه البخاري: أنه ◙ غزا خيبر، وفيه: ثم حسر الإزار عن فخذه حتى إني أنظر إلى بياض فخذه ◙، فصح أن الفخذ من الرجل ليس بعورة، ولو كان عورة؛ لما كشفها الله تعالى من رسوله المطهر المعصوم من الناس في حال النبوة والرسالة، ولا أَرَاها أنس بن مالك ولا غيره، وهو تعالى عصمه من كشف العورة في حال الصبا من قبل النبوة، انتهى.
          والجواب عن هذا الحديث: أنه محمول على غير اختيار الرسول صلعم فيه، وذلك بسبب ازدحام الناس حيث إنهم في غزوة، يدل عليه مس ركبة أنس فخذه ◙، وما ذاك إلا بسبب الازدحام(6)، فليس للنبيِّ الأعظم صلعم فيه اختيار، وما زعمه ابن حزم من أنه: لو كان عورة؛ لما كشفها الله من رسوله... إلى آخره: ممنوع؛ لأنَّ ذلك غير منافٍ؛ لأنَّه إنَّما كان لأجل التشريع حتى يظهر أن الفخذ عورة، لا سيما وقد قال ◙: «الفخذ عورة»، فيتعين أن يكون قوله ◙: «الفخذ عورة» بعد حسر الإزار عن فخذه إن كان بغير حاجة، والقول مقدم على الفعل عند المحققين، فحديث جرهد يكون ناسخًا لحديث أنس، وقال القرطبي: ويرجح حديث جرهد أن تلك الأحاديث المعارضة له قضايا معينة في أوقات وأحوال مخصوصة يتطرق إليها الاحتمال ما لا يتطرق في حديث جرهد، فإنه أعطى حكمًا كليًّا، فكان أولى، وبيان ذلك: أن تلك الوقائع تحتمل الخصوصية للنبيِّ الأعظم صلعم بذلك، أو البقاء(7) على البراءة الأصلية، أو كان لم يحكم عليه في ذلك الوقت بشيء، ثم بعد ذلك حكم عليه بأنه عورة، انتهى.
          يعني: فيكون منسوخًا كما قلناه، والدليل متى طرقه الاحتمال؛ سقط الاستدلال به، لا يقال: الخصوصية لا بد لها من دليل والأصل عدمها؛ لأنَّا نقول: الظاهر أن ذلك خصوصية، والدليل عليه أن أنسًا رأى فخذه ◙ دون غيره من الصحابة، فلو كان عامًّا؛ لكان جميع الصحابة رأوا فخذه ◙، ولم يثبت ذلك عنهم، فالظاهر أنه خصوصية أو منسوخ؛ فافهم.
          فإن قلت: روى الحافظ الطحاوي من حديث حفصة بنت عمر ☻ قالت: كان رسول الله / صلعم ذات يوم قد وضع ثوبه بين فخذيه، فجاء أبو بكر فاستأذن، فأذن له والنبيُّ الأعظم صلعم على هيئته، ثم جاء عمر بمثل هذه الصفة، ثم جاء أناس من أصحابه والنبيُّ الأعظم صلعم على هيئته، ثم جاء عثمان فاستأذن عليه فأذن له، ثم أخذ رسول الله صلعم ثوبه فجلله، فتحدثوا ثم خرجوا، فقلت: يا رسول الله؛ جاء أبو بكر، وعمر، وعلي، وأناس من أصحابك وأنت على هيئتك، فلما جاء عثمان؛ تجللت ثوبك، فقال: «أولا أستحي ممن تستحي منه الملائكة؟!»، قالت: وسمعت أبي وغيره يحدثون نحوًا من هذا، وأخرجه أحمد والطبراني أيضًا.
          قلت: أجاب الحافظ الطحاوي عنه: بأنَّ هذا الحديث على هذا الوجه غريب؛ لأنَّ جماعة من أهل البيت روَوْه على غير هذا الوجه المذكور، وليس فيه ذكر كشف الفخذين، فحينئذٍ لا تثبت به الحجة.
          وقال أبو عمر: وحديث حفصة فيه اضطراب، وقال البيهقي: والذي روي في قصة عثمان من كشف الفخذين مشكوك فيه، وقال الطبري: الأخبار التي رويت عن النبيِّ الأعظم صلعم أنه دخل عليه أبو بكر وعمر وهو كاشف فخذه؛ واهية الأسانيد لا يثبت بمثلها حجة في الدين، ولا الأخبار الواردة بالأمر بتغطية الفخذ، والأخبار الواردة في النهي عن كشفها أخبار صحاح، انتهى.
          يعني: تثبت بها الحجة، والنهي يفيد الحرمة، فثبت أن الفخذ عورة يجب ستره في الصلاة وخارجها.
          وقال إمام الشَّارحين: وقول الحافظ الطحاوي: «لأن جماعة من أهل البيت رووه على غير هذا الوجه»: هو حديث عائشة وعثمان، فأخرجه مسلم: أن عائشة ♦ وعثمان ☺ قالا: إن أبا بكر استأذن على رسول الله صلعم وهو مضطجع على فراشه لابس مرط عائشة، فأذن لأبي بكر وهو كذلك فقضى إليه حاجته، ثم انصرف، ثم استأذن عمر فأذن له وهو على تلك الحال فقضى إليه حاجته، ثم انصرف، قال عثمان: ثم استأذنت عليه، فجلس، وقال لعائشة: اجمعي عليك ثيابك، فقضيت إليه حاجته، ثم انصرف، فقالت عائشة: يا رسول الله؛ ما لي لم أرك فزعت لأبي بكر وعمر كما فزعت لعثمان؟ قال ◙: «إن عثمان رجل حيي، وإني خشيت إن أذنت له على تلك الحال؛ ألَّا يبلغ إلي في حاجته»، وأخرجه الحافظ الطحاوي أيضًا، وقال: فهذا أصل هذا الحديث، ليس فيه ذكر كشف الفخذين أصلًا.
          فإن قلت: قد روى مسلم أيضًا في «صحيحه»، وأبو يعلى في «مسنده»، والبيهقي في «سننه» هذا الحديث، وفيه ذكر كشف الفخذين، ولفظ مسلم: أن عائشة قالت: كان رسول الله صلعم مضطجعًا في بيته، كاشفًا عن فخذيه أو ساقيه، فاستأذن أبو بكر، فأذن له وهو على تلك الحالة، ثم استأذن عمر، فأذن له وهو كذلك، ثم استأذن عثمان، فجلس رسول الله صلعم وسوَّى ثيابه، فلما خرج؛ قالت عائشة: دخل أبو بكر فلم تهتش له، ثم دخل عمر فلم تهتش له ولم تباله، فلما دخل عثمان؛ جلست وسويت ثيابك؟ فقال: «ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة؟!».
          قلت: لما أخرجه البيهقي؛ قال: لا حجة فيه؛ لأنَّه مشكوك فيه، فإن الراوي قال: «فخذيه أو ساقيه»، فدل ذلك على أن ما قاله الحافظ الطحاوي: إن أصل الحديث ليس فيه ذكر كشف الفخذين، وقال أبو عمرو: هذا حديث مضطرب، انتهى.
          (قال أبو عبد الله) : هو المؤلف نفسه، كذا في رواية ابن عساكر فقط: (وحديث أنس)؛ أي: ابن مالك المذكور (أسند)؛ يعني: أقوى وأحسن سندًا من الحديث السابق (و) هو (حديث جرهد) وما معه، لكن العمل به (أحوط)؛ أي: أكثر احتياطًا في أمر الدين من حديث أنس، (حتى يُخرَج)؛ بضم المثناة التحتية أوله، وفتح الراء، وفي رواية: (حتى يَخرُج)؛ بفتح المثناة التحتية، وضم الراء، كذا في «الفرع»، قال إمام الشَّارحين: وهو على صيغة جماعة المتكلم من المضارع؛ بفتح النون، وضم الراء، وتبعه ابن حجر (من اختلافهم)؛ أي: العلماء؛ يعني: لما وقع الخلاف في الفخذ هل هو عورة أم لا؟ فذهب قوم: إلى أنه عورة، واحتجوا بحديث جرهد، وبما روي مثله في هذا الباب، وذهب آخرون: إلى أنه ليس بعورة، واحتجوا بحديث أنس كأنَّ قائلًا يقول: إن الأصل أنه إذا روي حديثان في حكم واحد؛ أحدهما أصح من الآخر؛ فالعمل يكون بالأصح، فههنا حديث أنس أصح من حديث جرهد، فكيف وقع الاختلاف؟فأجاب المؤلف عن هذا بقوله: «وحديث أنس أسند...» إلى آخره، وتقريره: أن يقال: نعم؛ حديث أنس أسند من حديث جرهد، إلا أن العمل بحديث جرهد؛ لأنَّه أحوط في أمر الدين، وأقرب إلى التقوى؛ للخروج من اختلاف العلماء، ولأجل هذه النكتة؛ لم يقل المؤلف: باب الفخذ عورة، ولا قال أيضًا: باب الفخذ ليس بعورة، بل قال: (باب ما يذكر في الفخذ)، كذا قرره إمام الشَّارحين.
          قلت: يعني: إنَّما قال: (باب ما يذكر في الفخذ)؛ لأجل أن يكون جاريًا على القولين في أن الفخذ عورة أم لا؟ وقد صرح علماؤنا الأعلام: بأنه لا بأس بالعمل بالقول الضعيف.
          وقال الإمام أبو بكر محمد بن الفضل: من السرة إلى موضع نبات شعر العانة ليس من العورة؛ لتعامل العمال في ابتداء ذلك الموضع عند الائتزار، وفي ستره نوع حرج، وهذا القول ضعيف؛ لأنَّ التعامل بخلاف النص لا يعتبر، كما صرح به في «البحر» عن السراج، ومراده بتعامل العمال: عموم البلوى، فإن الناس الآن في زماننا في جميع البلدان لا يسعهم إلا هذا القول، فإنَّهم يدخلون الحمامات، ويئتزرون في المآزر، ويقعدون على الأجران لصب الماء، وحين يصبون الماء على أجسادهم؛ يسقط المئزر عن عورتهم من غير صنع على أفخاذهم، فتنكشف السرة وما تحتها وتبقى العانة مستورة، وكلما ستروا ما فوق العانة؛ يسقط المئزر بصب الماء، وهذا مما شوهد كثيرًا وعمت به البلوى، فينبغي العمل بهذا القول وإن كان ضعيفًا؛ لأنَّ العمل بالقول الضعيف أولى وأحسن من عدم العمل بالقول الصحيح، ولا سيما في خاصة نفسه، فإنه جائز كما صرحوا به، كذا في «منهل الطلاب»، والله تعالى أعلم بالصواب.
          (وقال أبو موسى) : هو عبد الله بن قيس الأشعري، مما هو طرف من حديث ذكره المؤلف في (مناقب عثمان) ☺، من رواية عاصم الأحول عن أبي عثمان النهدي عنه، وفيه: (غطى)؛ بالغين المعجمة، والطاء المهملة؛ أي: ستر (النبيُّ) الأعظم (صلعم ركبتيه)؛ بالتثنية، وفي رواية: (ركبته)؛ بالإفراد (حين دخل عثمان) هو ابن عفان ☺، وذلك أدبًا معه واستحياء، وقد بين النبيُّ الأعظم صلعم معناه، كما في «مسلم» و«البيهقي» بقوله: «ألا أستحي ممن تستحي منه ملائكة السماء؟!»، وقد كان ◙ يصف / كل واحد من أصحابه، ويفعل معه ما هو الغالب عليه من أخلاقه مما هو مشهور فيه، ولما كان الحياء الغالب على عثمان؛ استحى منه، وذكر أن الملائكة تستحي منه، فكانت المجازاة من جنس فعله، كذا في «عمدة القاري».
          وقال الكرماني: فإن قلت: الركبة لا تخلو إما أن تكون عورة أو لا، فإن كانت عورة؛ فلِمَ كشفها قبل دخول عثمان، وإن لم تكن عورة؛ فلِمَ غطاها عنه؟
          قلت: الشق الثاني هو المختار، وأما التغطية؛ فكانت للأدب والاستحياء منه، انتهى.
          يعني: فكَشْف ركبتيه ◙ قبل دخول عثمان ☺ دليل على أنها ليست بعورة، مع أن ستر العورة خارج الصلاة بحضرة الناس واجب إجماعًا إلا في مواضع؛ كالتغوط، والاستنجاء، وحلق العانة، والجماع، واختلف فيه في الخلوة، والصحيح وجوبه إذا لم يكن لغرض صحيح، كما في «البحر».
          وقال صاحب «القنية»: وفي تجرده للاغتسال منفردًا أقوال؛ أحدها: أنه مكروه، الثاني: إذا أمن دخول الناس عليه؛ يعذر، الثالث: أنه يجوز في المدة اليسيرة، وهو قول الإمام الكرابيسي، الرابع: أنه لا بأس به، الخامس: أنه لا يكره أن يغتسل متجردًا في الماء الجاري أو في غيره في الخلوة، وهو قول الإمام أبي نصر بن سلام، السادس: أنه يجوز في بيت الحمام الصغير، وتمامه في «شرح الوهبانية».
          قلت: ولا يشترط سترها عن نفسه، وقيل: يشترط، قال في «مجمع الأنهر»: والشرط سترها عن غيره اتفاقًا لا عن نفسه، هو المختار، كما في «المنية»، وبه يفتى كما في «الدر المختار»، ويكره نظره إلى عورة نفسه؛ لأنَّه يورث النسيان، ومن شمائل سيدنا الصديق الأكبر ☺: أنه ما نظر إلى عورته قط، وما مسها بيمينه، فإذا كان هذا في عورة نفسه، فما ظنك بعورة غيره؟ كذا نقله القرماني عن حافظ الدين النسفي ⌂.
          ولو نظر المصلي إلى عورة غيره؛ لا تفسد صلاته، ولو نظر المصلي إلى فرج امرأة بشهوة؛ حرمت عليه أمها وابنتها، ولو نظر إلى فرج أم امرأته بشهوة؛ حرمت عليه امرأته، ولو نظر إلى فرج امرأته التي طلقها رجعيًّا؛ يصير مراجعًا، ولا تفسد صلاته في الوجوه كلها عند الإمام الأعظم، كما في «الخانية»، وقال الصاحبان: تفسد صلاته كما في «النوازل»، وقال إمام الشَّارحين: (وجه مطابقة هذا للترجمة من حيث إن الركبة إذا كانت عورة؛ فالفخذ بالطريق الأولى؛ لأنَّه أقرب إلى الفرج الذي هو عورة إجماعًا) .
          وزعم الداودي أن هذه الرواية المعلقة عن أبي موسى وَهم، وإنما هي ليست من هذا الحديث، وقد أدخل بعض الرواة حديثًا في حديث: إنَّما أتى أبو بكر إلى رسول الله صلعم وهو في بيته منكشف فخذه، فلما استأذن عثمان؛ غطى فخذه، فقيل له في ذلك، فقال: «إن عثمان رجل حيي، فإن وجدني على تلك الحالة؛ لم تبلغ حاجته»، ورده إمام الشَّارحين فقال: (قلت: الذي ذكرناه من رواية عاصم يرد عليه بيان ذلك أنا قد ذكرنا أن في حديث عائشة ♦: «كاشفًا عن فخذيه أو ساقيه»، وعند أحمد بلفظ: «كاشفًا عن فخذه» من غير شك، وعنده من حديث حفصة مثله، فقد ظهر من ذلك أن البخاري لم يدخل حديثًا في حديث، بل هما قضيتان متغايرتان في إحداهما(8) كشف الركبة، وفي الأخرى كشف الفخذ، ورواية أبي موسى التي علقها البخاري في كشف الركبة، ورواية عائشة في كشف الفخذ، ووافقتهما حفصة، ولم يذكر البخاري روايتهما، وإنما ذكر مسلم رواية عائشة، كما ذكرنا) انتهى.
          (وقال زيد بن ثابت) : هو الأنصاري النجاري كاتب وحي النبيِّ الأعظم صلعم، وجامع القرآن العظيم في عهد أبي بكر الصديق الأكبر ☺، وأمره ◙ بتعلم كتب اليهود والسريانية، فتعلم كتب اليهود في نصف شهر، والسريانية في سبعة عشر يومًا، وكان من علماء الصحابة ♥، وقال النبيُّ الأعظم صلعم في حقه: «أفرضكم زيد»، رواه أحمد بإسناد صحيح، وتوفي سنة اثنتين أو ثلاث أو خمس وأربعين، ودفن غربي دمشق بباب السريجة بمسجد معلوم على ما قيل، وهو مشهور بذلك في ديارنا الشريفة الشامية.
          وقال أبو هريرة حين توفي زيد: مات حبر هذه الأمة، وعسى الله أن يجعل في ابن عباس منه خلفًا رضي الله عنهم أجمعين، وفي «عمدة القاري»: وهذا تعليق، وطرف من حديث وصله البخاري في (تفسير سورة النساء) في نزول قوله تعالى: {لاَ يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ...}؛ الآية، [النساء:95] وأخرجه في (الجهاد)، وأخرجه الترمذي في (التفسير)، وقال: (حسن صحيح)، وأخرجه النسائي في (الجهاد)، انتهى.
          (أنزل الله) ╡ (على رسوله صلعم)؛ أي: قوله تعالى: {لاَ يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ... }؛ الآية (وفخذه على فخذي) : جملة اسمية حالية بالواو، ولأبي ذر: بدونها، (فثَقُلت)؛ بفتح الثاء المثلثة، وضم القاف؛ أي فخذه ◙ (عليَّ)؛ بفتح التحتية؛ أي: من ثقل الوحي النازل على رسوله ◙، (حتى خفِت)؛ بكسر الخاء المعجمة؛ أي: ظننت (أن تُرَض)؛ بضم المثناة الفوقية، وفتح الراء، وتشديد الضاد المعجمة على صيغة المجهول، ويجوز أن يكون على صيغة المعلوم أيضًا، كذا قاله إمام الشَّارحين.
          قلت: والأول أظهر، كما لا يخفى؛ ومعناه: الكسر؛ لأنَّه من الرض؛ وهو الدق، وكل شيء كسرته؛ فقد رضضته، وقوله: (فخذي)؛ بالرفع بضمة مقدرة على صيغة المجهول، أو بالنصب بفتحة مقدرة على صيغة المعلوم، لكن الأول أظهر؛ لصحة المعنى والسياق؛ فافهم.
          قال إمام الشَّارحين: (وإيراد البخاري هذا الحديث هنا ليس له وجه؛ لأنَّه لا يدل على أن الفخذ عورة، ولا يدل على أنه ليس بعورة أيضًا، فأي شيء مال إليه لا يدل عليه على أنه مال إلى أن الفخذ عورة)، قال: (وحديث جرهد أحوط، نعم؛ لو كان فيه التصريح بعدم الحائل؛ لدل على أنه ليس بعورة، إذ لو كان عورة في هذه الحالة؛ لما مكن ◙ فخذه على فخذ زيد) انتهى.
          وزعم ابن حجر أن الظاهر أن المؤلف تمسك بالأصل، ورده في «عمدة القاري» فقال: (لم يبين ما مراده من الأصل، وعلى كل حال لا يدل الحديث على مراده صريحًا) انتهى.
          قلت: ومراده بالأصل إنَّما هو المس؛ يعني: يحمل الحديث على المس بدون حائل؛ لأنَّه الأصل، وهو يفيد أن الفخذ ليس بعورة؛ لأنَّ مس العورة بدون حائل حرام؛ كالنظر إليها، ورد بأنه لو كان فيه تصريح بعدم الحائل؛ لدل على أنه ليس بعورة، ولم يكن في الحديث / ذكر عدم الحائل لا صريحًا ولا دلالة على أن الغالب أنه ◙ كان ساترًا فخذه، وكذلك زيد بن ثابت كان ساترًا الفخذ، وهو بالأولى أدبًا مع النبيِّ الأعظم صلى الله عيه وسلم، واستحياءً منه، وهذا هو الظاهر، فإن المؤلف لم يعلم ما مراده بإيراد هذا الحديث، وقد يقال: إن الحديث يدل على أن الفخذ ليس بعورة؛ لأنَّه لا يخلو من كشف عورته غالبًا؛ بسبب الانتقال من جانب إلى آخر، وتصريح زيد بالفخذ يدل على أن فخذه ◙ قد كشف، لكن يبقى النظر في أنه ◙ هل أقر على الكشف أم نهى وستر عليه؟ وقد يقال: إن الحديث يدل على أن الفخذ عورة؛ لأنَّ الفخذ على الفخذ لا يكون إلا مستورًا بينهما بساتر، ووجود الساتر على الفخذ يدل عليه القرائن من الأحوال، فإنه ◙ من عادته ألَّا يكشف عورته ولا فخذه، فإن القرينة الحالية والمقالية يدلان على أن قوله: (فخذه على فخذي)؛ أي: مع وجود الساتر بينهما لا مكشوف، كما ظهر لنا؛ فتأمل، والله أعلم.


[1] في الأصل: (في)، وليس بصحيح.
[2] في الأصل: (فضلة)، ولعله تحريف.
[3] في الأصل: (راويه...مجهول)، و لعل المثبت هو الصواب.
[4] في الأصل: (ذراعيها)، والمثبت هو الصواب.
[5] في الأصل: (إجماعًا)، ولعل المثبت هو الصواب.
[6] في الأصل: (الازدحال)، وهو تحريف .
[7] في الأصل: (التقاء)، وهو تصحيف.
[8] في الأصل: (إحديهما)، ولعل المثبت هو الصواب.