غاية المرام في رجال البخاري إلى سيد الأنام

الحارث بن ربعي

          209 # الحارثُ بنُ رِبْعِيِّ بنِ بَلْدَمَة(1) _قال أبو عُمر(2) : يقولون: بَلْذَمَةُ، بالفتح، وبالذَّال المعجمة، وبالضمَّ._ أبو قَتَادة الأنصاريُّ، الخزرجيُّ، الصَّحابيُّ، فارس رسول الله صلعم.
          وقال محمَّد بن إسحاق، وهشام بن الكَلْبيِّ: اسمه نُعْمَانُ بنُ رِبْعِي.
          قال الواقديُّ: وهو أثبتُها.
          وقال الهَيثمُ بن عَدِيٍّ: اسمه عَمْرو بن رِبْعِي. قاله الكَلاباذيُّ(3) .
          وقال ابن الأثير(4) : الحارثُ أكثر.
          وأمُّه كَبْشَةُ بنتُ مُطَهَّر.
          اختُلف في شهوده بدراً، وشَهد أُحُداً وما بعدَها من المشاهد كلِّها.
          عن أبي قَتَادة: أنَّ النَّبيَّ صلعم كان إذا عَرَّس بليلٍ اضطَجَع على شِقِّه الأيمنِ، وإذا اضطجع قَبل الصُّبح نَصَب ذراعَه، ووضع رأسه على كَفِّه(5) .
          روى عبد الله بن أبي قَتَادة، عن أبيه قال: أَدرَكَني النَّبيُّ صلعم يوم ذي قَرَد، فنظر إليَّ، وقال: «اللَّهمَّ بارك في شَعَره وبَشَره». وقال: «أَفلَحَ وجهُك يا أبا قَتَادة». قلت: ووجهُك يا رسول الله. قال: «قَتَلت(6) مَسْعَدة؟» قلت: نعم. قال: «فما هذا الذي بوجهك؟» قلت: سَهم رُميتُ به. قال: «ادْنُ». فدنوت منه، فَبَصَقَ عليه، فما ضَرَبَ عَليَّ قطُّ، ولا قاح(7) .
          قلت: وكم له من معجِزاتٍ باهِراتٍ، من ذلك ما روى النَّسائيُّ(8) عن عثمان بن حُنَيْفٍ: أنَّ أعمًى قال: يا رسول الله! ادعُ الله أن يكشفَ لي عن بصري. قال له: «انطَلِق فتوضَّأ، ثمَّ صلِّ ركعتين، ثمَّ قُل: اللَّهمَّ إنِّي أسألك، وأتوجَّه إليك، بنَبيِّك محمَّد نبيِّ الرَّحمة، يا محمَّد! إنِّي أتوجَّه بك إلى ربِّك، أنْ يَكشف (لي) عن بصري، اللَّهمَّ شفِّعْه فيَّ». قال: فرجع، وقد كشف الله عن بصره.
          وذكر العُقَيْلِيُّ، عن حَبيب بن فُوَيْك _بالواو، ويقال: بالدَّال_ أنَّ أباه ابيضَّتْ عيناه، فكان لا يُبصِر بهما شيئاً، فنَفَث رسول الله صلعم / في عينيه، فأبصر. قال: فرأيته يُدخِل الخيطَ في الإبرة، وهو ابن ثمانين(9) .
          ورُمي (كُلْثُومُ) بنُ الحُصَيْن يوم أُحُد في نحره، فبصق رسول الله صلعم (عليه) فَبَرَأَ.
          وتفل على شَجَّةِ عبد الله بن أُنيس، فلم تَدْمَ(10) .
          وستسمع لهذه المعجزات نظائر، إن شاء الله تعالى، فإنَّا نزهِّر كتابَنا كالرِّياض بمعجزاته صلعم كلَّ وقت، تشنيفاً للمسامع، ورفعاً للحجاب عن القلوب والطَّوابع.
          روى أبو قَتَادة عن النَّبيِّ صلعم مئةً وسبعين حديثاً، روى منها البخاريُّ ثلاثة عشر حديثاً.
          روى عنه: ابنه عبد الله، وأبو سَلَمة بن عبد الرَّحمن، وعَمرو بن سُلَيم، ونافع مولاه.
          روى عنه البخاريُّ بالواسطة في مواضع، أوَّلها: في باب النَّهي عن الاستنجاء باليمين، في كتاب الوضوء [خ¦153] .
          توفِّي بالمدينة، سنة أربع وخمسين، وله أربع وسبعون سنة.
          وقيل: بل بالكوفة، سنة أربعين، في خلافة عليٍّ، وصلَّى عليه، وكبَّر سبعاً. وقال الشَّعْبيُّ: كبَّر سِتًّا.
          وشهد مع عليٍّ مشاهدَه كلَّها.
          - قصَّة غزوة ذي قَرَد التي دعا رسول الله صلعم فيها لأبي قَتَادة.
          ويقال لهذه الغزوة: غزوة الغابة. وكانت في ربيع الأوَّل، سنة ستٍّ من الهجرة. قاله محمَّد بن سعد(11) .
          وقال محمَّد بن إسحاق: لمَّا قدم رسول الله صلعم المدينة، فلم يُقم بها إلَّا ليالي قلائل، حتَّى أغار عُيينةُ بنُ حِصْن الفَزَاريُّ _وكان إذ ذاك كافراً_ على لِقَاح رسول الله صلعم، وكانت عشرين بالغابة، وفيها رجل من غِفَار وامرأتُه، فقَتلوا الرَّجل، واحْتَمَلوا المرأة في اللِّقاح، وكان أوَّل من بَدَرَهم(12) سَلَمَةُ بنُ الأَكْوَع، غدَا يُريد الغابةَ متوشِّحاً قوسَه ونَبْلَه، ومعه غلامٌ لطَلْحَةَ بنِ عُبيد الله، معه فرس له يقوده، حتَّى إذا علا ثَنيَّة الوداع نظر إلى خيولهم، فأشرف إلى ناحيةِ سَلْعٍ، ثمَّ صرخ: واصباحاه. ثمَّ خرج يشتدُّ في آثار القوم، وكان مثل السَّبُع، وكان يَسبق الخيلَ عَدْواً ورَكْضاً، حتَّى لحق القوم، وجعل يرميهم بالنَّبل، ويقول إذا رَمَى:
خُذْها وَأنا ابنُ الأَكوَعِ
واليومُ يومُ الرُّضَّعِ
          ولمَّا توجَّهت الخيل نحوَه انطلق هارباً، ثمَّ عارضهم، فإذا أمكنه الرَّميُ رماهم، حتَّى استنقذ منهم ما استنقذ.
          قال إياسُ بن سَلَمَةَ بنِ الأكوع(13) : قال أبي: فما زلتُ أفعل بهم هكذا، حتَّى ما خلق الله شيئاً من ظَهْر(14) النَّبيِّ صلعم إلَّا جعلتهُ وراء ظهري، ثمَّ لم أزل أَرميهم، حتَّى أَلقَوا أكثرَ من ثلاثين رمحاً، / وثلاثين بُرْدَةً، يستخِفُّون منها، ولا يُلْقُون من ذلك شيئاً إلَّا جعلت عليه حجارةً، وجمَّعته على طريق رسول الله صلعم، وأَجْليتُهم عن ماء ذي قَرَد(15) ، وخلَّصْت منهم فرسَين، فجئت بهما إلى رسول الله صلعم أسوقُهما.
          وكان قد بلغَ رسولَ الله صلعم صياحُ ابن الأَكْوَع، فصُرِخ بالمدينة: الفزع الفزع. فنُودِي: يا خيلَ الله اركَبي. وكان أوَّلَ ما نُودي بها.
          قلت: لكن نودي بها في وقعة بني قُريظة أيضاً، وهي قبلَها على رواية ابن سعد، فتأمَّل(16) .
          فركب رسول الله صلعم، فخَرج غداة الأربعاء مقنَّعاً في الحديد، فوقف، وكان أوَّلَ مَن أَقبل إليه المِقْدادُ، وعليه المِغْفَر والدِّرْع، شاهراً سيفَه، فعقد له رسول الله صلعم لواءً في رمحه، وقال: «امضِ حتَّى تَلحقَك الخيل». وخلَّف سعدَ بن عُبادة في ثلاث مئة من قومه، يحرُسون المدينة، وذهب الصَّريِخُ إلى بني عَمْرو بن عَوْفٍ، فجاءت الأَمداد، ولم تزل الخيل والرِّجال(17) .
          وأوَّل مَن لحق بعد المِقْداد عَبَّادُ بن بِشْرِ، وسعدُ بن زَيد، وأُسيد بن (حُضير)، وعُكَّاشة بن مِحْصَن، وأبو قَتَادة، وأمَّر عليهم رسولُ الله صلعم سعدَ بن زيد، ثمَّ قال: «اخرُجْ في طلب القوم، حتَّى أَلحَقَك بالنَّاس». وأوَّل فارس لحق بالقوم مُحْرِزُ بنُ نَضْلَةَ الأَخْرم، ويقال: قُمَير.
          ومن تقادير الله تعالى: لمَّا وقع الفزع، جال فرسٌ لمحمود بن مَسْلَمَة حين سمع صَهيل الخيل، فقال نساءٌ من بني الأشهل: هل لك يا قُمير أن تَركب هذا الفرس؟ فإنَّه كما ترى يَجُول، ثمَّ تلحق برسول الله وبالمسلمين. قال: نعم. فركب ولحق القوم، وصاح بهم أَنْ: قِفُوا يا معشر بني اللُّكَيعة؛ حتَّى يلحق بكم مَن وراءكم من المهاجرين والأنصار. فحمل عليه رجل، فقتله، وجال الفرس حتَّى وقف على مَعْلَفةٍ في بني الأَشْهَل، ولم يُقتَل من المسلمين سواه، وقيل: قُتل وقَّاص بن مُحْرِز أيضاً.
          فلمَّا تلاحقت الخيل قَتَلَ أبو قَتَادة حَبيبَ بنَ عُيينة بن حِصْن، وغشَّاه بِبُرْدِهِ، ثمَّ لحق بالنَّاس، وأقبل رسول الله صلعم في المسلمين، واستعمل على(18) المدينة ابنَ أمِّ مَكْتُوم، فيما قال ابن هشام(19) ، خلافَ ما مرَّ، فلمَّا رأوا حَبِيْبَاً مسجًّى استرجع القومُ، وقالوا: قُتل أبو قَتَادة. فقال رسول الله صلعم: «ليس بأبي قَتَادة، لكنَّه قَتيلٌ لأبي قتادة، وَضَع عليه بُردَه / لتعرفوا أنَّه صاحبَه».
          وأدرك عُكَّاشةُ رجلاً وابنه، وهما على بعير واحد، فانتظمهما بالرُّمح، فقتلهما جميعاً، واستنقذوا عشراً من اللِّقَاح، وأخذ القوم عشراً.
          قلت: وهذا خلاف ما ذكر إياس بن سَلَمَة، كما مرَّ.
          ونزل رسول الله صلعم بالخيل من ذي قَرَدٍ، ولحقه النَّاس، وأقام بها يوماً وليلة، فقال سلمة بن الأكوع: لو سَرَّحْتني في مئة رجل لاستنقذتُ بقيَّة السَّرْح(20) ، وأخذت بأعناق القوم. فقال رسول الله صلعم: «خيرُ فُرساننا اليومَ أبو قتادة» _ودعا له كما ذكرنا_ «وخيرُ رَجَّالتنا سَلَمَةُ بنُ الأَكْوَعِ».
          قال سَلَمة: وأعطاني رسول الله صلعم سَهْمَ(21) الرَّاجلِ والفارسِ جميعاً، فقلت: يا رسول الله! قد حَمَيْتُ القومَ الماءَ، وهم عِطَاش، فابعَثْ إليهم السَّاعةَ. فقال: «يا ابن الأكوع، ملكتَ فَأَسْجِحْ». فسهم(22) رسول الله صلعم في أصحابه، في كلِّ مئة رجلٍ جزوراً.
          وقال ابن عُقبة: كان رئيسُ القومِ المشركينَ مَسْعَدَةَ الفَزَارِيُّ. قال: وهو قَتيل أبي قَتَادة المُسَجَّى.
          ويقال: إنَّ أبا قتادة قتل فَرَقَةَ امرأةَ مَسْعَدَةَ.
          قال ابن سعد(23) : والذي قتل حَبيبَ بن عُيينة، وفَرَقَةَ بنُ مالك بن حُذيفة بن بدر هو المِقَداد.
          قال: وكان أبو ذرٍّ في اللِّقاح، وقتلوا ابنَ أبي ذَرٍّ فيها.
          قال ابن سيِّد النَّاس(24) : وصلَّى رسول الله صلعم بأصحابه صلاةَ الخوف بذي قَرَد، وكانوا خمس مئة، ويقال: سبع مئة. وبعَث إليهم سعدُ بن عُبَادة بأحمال تمر، وبعشر جَزَائر، فوافت رسولَ الله صلعم بذي قرد.
          قال ابن سعد: والثَّبتُ أن سَعْدَ بنَ زيدٍ أمير هذه السَّريَّة، ولكنَّ النَّاس ينسبونها إلى المِقْداد.
          وكان غيبةُ رسول الله صلعم في هذه الغزوة خمس ليال، فخرج الأربعاء، ودخل الاثنين.
          وفي رواية: [أنَّ] الذي أغار على اللِّقَاح هو عبد الرَّحمن بن عُيينة.
          وتولَّى أبو قتادة(25) سريَّةً إلى أرض مُحَارِب، وكذلك تولَّى سريَّةً إلى بطن (إِضَم).
          - فائدة:
          قَرَد: مفتوح القاف والرَّاء، وحُكي الضمُّ فيهما.
          ومعنى قولِ سَلَمَةَ: اليومُ يومُ الرُّضَّع _بضمِّ الرَّاء، وشدَّة المعجمة_ أيْ: يوم هلاك اللَّئيم، من قولهم: لَئِيم راضع، يرضع الغَنَم، ولا يحلبها فيُسمَع صوتُ الحَلْب. وقيل غير ذلك.
          [والمعروف] سكونُ ضادِ نَضْلة، ورُوي فتحُها، ويُروى: ناضِل، ويقال: مُحْرِزُ بن عَوْن [بن] ناضلة(26) .


[1] في الأصول جميعها تصحيفاً (بلذمة)، والمثبت من المصادر.
[2] الاستيعاب:1/ 289.
[3] الهداية والإرشاد:1/187.
[4] أسد الغابة:6/ 263.
[5] مسلم (683).
[6] في (ن) تصحيفاً (فقلت)
[7] المغازي للواقديِّ:2/ 545.
[8] السنن الكبرى:6/ 169، برقم (10496).
[9] مصنَّف ابن أبي شيبة:5/ 45، و6/ 328.
[10] في غير (ن) (تُمدَّ)، وهو موافق لما في الإعلام بما في دين النَّصارى من الفساد والأوهام للقرطبيِّ:1/ 365، وفي سيرة ابن هشام 2/619: فلم تقح، ولم تؤذه، ويقال: وأَمَدَّ الجُرْحُ يُمِدُّ إمداداً، ومعناه التوسع والزيادة، لسان العرب (مد).
[11] الطبقات الكبرى:2/ 80.
[12] في غير (ن) (بدر بهم)
[13] رواية إياس في صحيح مسلم (1807).
[14] ظَهْر: يعني اللِّقاح.
[15] في (ن) تصحيفاً (عن ماء ورى قرد)
[16] انظر عيون الأثر لابن سيِّد النَّاس:2/ 128.
[17] كذا في كل الأصول ولعل كلمة سقطت هنا كـ(تتوافد).
[18] في (ن) (في) والمثبت أولى.
[19] سيرة ابن هشام 2/284.
[20] في (ن) تصحيفاً (السرع)
[21] سقطت (سهم) من (س).
[22] في غير (ن) (فقسم)
[23] الطبقات الكبرى:2/ 81.
[24] عيون الأثر:2/ 129.
[25] في (ن) (أبو قتادة وتولى).
[26] انظر عيون الأثر لابن سيد الناس:2/130، فهو ينقل عنه، و (بن) التي بين حاصرتين مستدرك منه.