غاية المرام في رجال البخاري إلى سيد الأنام

الحسن بن علي بن أبي طالب

          252 # الحَسَنُ بنُ عليِّ بنِ أبي طالب، الصَّحابيُّ ابنُ الصَّحابيِّ، أبو محمَّد، سِبْطُ النَّبيِّ صلعم، وأمُّه فاطمةُ، سيِّدةُ نساء العالَمين في الجنَّة.
          وهو سيِّد شباب أهل الجنَّة، ريحانةُ النَّبيِّ صلعم، وشبهه، سمَّاه: الحَسَنَ، وعقَّ عنه يومَ السَّابع، وحَلَق شَعرَه، وأمر أن يُتَصدَّق بزِنَته فضَّةً، وهو رابع أهل الكِسَاء.
          قال أبو أحمد(1) العسكريُّ: لم يكن يُعرف هذا الاسم في الجاهليَّة.
          وروى ابن الأعرابيِّ، عن المفضَّل: أنَّ الله حجَبَ اسم الحسن والحسين، حتَّى سمَّى(2) النَّبيُّ صلعم سِبْطَيْهِ بهما. قال: فقلت له: فاللذِين في اليمن؟ قال: ذلك حَسْن، ساكنة السِّين، وحَسِين، بفتح المهملة، وكسر السِّين.
          قال الزُّهريُّ: وُلد الحسنُ بن عليٍّ في النِّصف من رمضان، سنة ثلاث من الهجرة، وقيل: من شعبان، وقيل: بعد أُحُد بسنة(3) ، وقيل: بسنتين، وبين(4) الهجرة وأُحُد سنتان ونصف شهر.
          عن قابُوس بن المِخْرَاق، قال: قالت أمُّ الفَضل: يا رسول الله، رأيتُ كأنَّ عُضْواً من أعضائك في بيتي. قال: «خَيراً رأيتِ، تلدُ فاطمةُ غلاماً، فتُرضِعينَه بلَبنِ قُثَم». ابنٍ لها، فولدت فاطمةُ الحسنَ، وأرضعته بلبن ابنها قُثَم(5) .
          قال عليُّ بن أبي طالب: لمَّا وُلد الحسنُ، جاء رسول الله صلعم، فقال: «أَرُوني ابني، ما سمَّيتمُوه؟» قلت: سمَّيته حَرْباً. قال: «بل هو حَسَن». وهكذا لمَّا وُلد الحُسين، فقال: «بل هو حُسين». وهكذا لمَّا ولد مُحَسِّن، سمَّيته حَرْباً، فقال: «بل هو مُحَسِّن». ثمَّ قال: «سمَّيتُهم بأسماء وَلَد هارونَ: شَبَر، وشُبَير، ومُشَبِّر»(6) .
          قال ابن حَزم: روى الحَسَنُ ثلاثةَ عشرَ حديثاً.
          وقال ابن الأثير(7) : روى عنه عائشةُ، والشَّعْبيُّ، وسُوَيْدُ بن غَفَلَةَ، وشَقِيْقُ بنُ سَلَمَةَ أبو وائل، وإسحاق بنُ يَسَار، ومحمَّد بن سِيْرِيْنَ(8) ، وغيرهم.
          روى أبو الحَوْرَاء _بالحاء والرَّاء المهملتَين، وهو فَردٌ في الأسماء، قاله كمال الدِّين الدَّمِيْرِيُّ(9)_: قال حَسَنُ بن عليٍّ: علَّمَني رسولُ الله صلعم كلماتٍ أقولُهنَّ في الوِتر: «اللَّهمَّ اهدِني فيمَن هدَيتَ... » إلى آخرها(10) . /
          وسَهَا مَن(11) نقل هذا القنوتَ عن الحُسين أخيه مصغَّراً، كما فعل ابنُ الرِّفْعَةِ.
          ثمَّ اعلَمْ أنَّه يُستحبُّ للإمام أن يأتي بصيغة الجمع، وليس ذلك مخالفاً(12) للحديث؛ إذْ ورد عن رسول الله صلعم أنَّه رأى عُمر يدعو، فقال: اللَّهمَّ اغفِرْ لي وارحَمني. فضرب مَنْكِبَهُ، وقال له: «عَمِّمْ في دعائك، فإنَّ بين دعاء العامِّ والخاصِّ كما بين السَّماء والأرض»(13) . وأيضاً، كما روى أبو هريرة: أنَّ النَّبيَّ صلعم سمع رجلاً يقول: اللَّهمَّ اغفِرْ لي. فقال: «وَيحَكَ! لو عَمَّمْتَ لاستُجيبَ لك». وقال: «لا يَؤُمَّ عبدٌ قوماً، فيخصَّ نفسَه بدعوةٍ دونَهم، فإنْ فعل ذلك فقد خانَهم»(14) .
          وعن أبي الحَوْرَاءِ أيضاً: قلت للحُسن(15) : ما تَذكُر من رسول الله صلعم ؟ قال: أذكُرُ عنه أنِّي أخذتُ تَمرةً من تَمر الصَّدقة، فتركتها في فمي، فنزعها بلُعابِها، وجعلها في تمر الصَّدقة، فقيل: يا رسول الله! ما كان عليكَ من هذه التَّمرة؟ قال: «إنَّا آلُ محمَّد لا تحلُّ لنا الصَّدقة». وكان يقول: «دَعْ ما يَرِيْبُكَ إلى ما لا يَرِيْبُك، فإنَّ الصِّدقَ طُمأنينة، وإنَّ الكذبَ رِيْبَةٌ». وكان يعلِّمنا هذا الدُّعاء. وذَكَر القُنوتَ(16) .
          قال الحسن: [سمعت] رسول الله صلعم يقول: «مَن صلَّى صلاةً [الغداة] ، فجلس في مُصَلَّاه، حتَّى تطلعَ الشَّمس، كان له حِجَابٌ أو سترٌ من النَّار»(17) .
          عن أبي سعيد الخُدْريِّ قال: قال رسول الله صلعم: «الحَسَنُ والحُسَيْنُ سيِّدا شباب أهل الجنَّة، إلَّا ابنَي الخَالةِ: يحيى وعيسى ♂ »(18) .
          قال أسامةُ بن زيد: طرقتُ النَّبيَّ صلعم ذاتَ ليلةٍ في حاجَة، فخرج إليَّ، وهو مُشْتَمِلٌ على شيءٍ، لا أدري ما هو، فلمَّا فرغت من حاجتي، قلت: ما هذا الذي أنت مشتملٌ عليه؟ فكشفه، فإذا هو الحَسَنُ وحُسَينٌ على ركبته، فقال: «هذان ابنايَ، وابنا بِنتي، اللَّهمَّ إنِّي أحبُّهما فأحبَّهما، وأحبَّ مَن يحبُّهما»(19) .
          عن أبي بَكْرَةَ قال: صعد النَّبيُّ صلعم (على) المنبر، فقال: «إنَّ ابنِي هذا سيِّدٌ، ولعلَّ الله يُصلِحُ به بين فئتَين عظيمتَين من المسلِمين»(20) .
          قيل: وظَهَر مضمون هذا الحديث في قصَّته مع معاوية، وصَونِ دماء المسلمين في ذلك الجمع العظيم.
          عن عبد الله بن بُريدة، عن أبيه قال: كان النَّبيُّ صلعم يخطُبنا، إذ جاء الحسنُ والحسينُ، عليهما قميصان أحمران، يَمشيان ويَعثُران، فنزل رسول الله صلعم من المنبر، فحملهما، ووضعهما بين يديه، ثمَّ قال: «صَدَق الله: / { أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ } [الأنفال:28] ، نظرتُ إلى هذين الصَّبيَّين يمشيان ويَعْثُران، فلم أصبر حتَّى قطعتُ حديثي ورفعتُهما»(21) .
          قال أنس بن مالك: لم يكن أحد أَشْبَهَ برسول الله صلعم من الحسن(22) .
          قلت(23) : قد مرَّ في ترجمة جعفر أنَّه قال [له] : «أشبهتَ خَلْقي وخُلُقي». فتأمَّل.
          عن ابن عبَّاس ☻ قال: كان النَّبيُّ صلعم حاملَ الحسن على عاتقه، فقال رجل: نِعْمَ المَركبُ ركبتَ يا غلام. فقال النَّبيُّ صلعم: «ونِعْمَ الرَّاكبُ هو»(24) .
          قال عُمر بن أبي سلمةَ، رَبِيْبُ النَّبيِّ صلعم: نَزَلت هذه الآية: { إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } [الأحزاب:33] ، في بيت أمِّ سلَمةَ، فدعا رسول الله صلعم فاطمةَ وحسناً وحسيناً، فجلَّلهم بكساء، وعَليٌّ خلفَ ظهره، ثمَّ قال: «اللَّهمَّ هؤلاء أهلُ بيتي، فأَذهِبْ عنهم الرِّجْسَ وطهِّرْهم تطهيراً». قالت أمُّ سلَمةَ: وأنا معهم يا رسول الله؟ قال: «أنتِ على مكانِكِ، أنتِ على خير»(25) .
          قال زيدُ بنُ أَرْقَمَ: قال رسول الله صلعم: «إنِّي تاركٌ فيكم ما إنْ تمسَّكتم به لن تَضِلُّوا، أحدُهما أعظمُ من الآخَر: كتابُ الله، حَبْلٌ ممدود من السَّماء إلى الأرض. وعِتْرَتي(26) أهل بيتي، ولن يتفرَّقا حتَّى يَرِدَا عَليَّ الحوضَ، فانظروا كيف تَخْلُفوني فيهما»(27) .
          قال رسول الله صلعم: «أحبُّوا الله؛ لِمَا يَمنَحكم من نِعَمِهِ، وأحبُّوني؛ لحُبِّ الله، وأحبُّوا أهلَ بيتي؛ لِحُبِّي»(28) .
          قال ابن الأثير(29) : حجَّ الحسنُ [عدّة] حَجَّاتٍ، كلُّها ماشٍ، وكان يقول: إنِّي لأستَحيِي من ربِّي أن ألقاه ولم أمشِ إلى بيته.
          قال: وقاسَمَ الله تعالى ثلاثَ مرَّاتٍ.
          أيْ: تَصدقَ بنصف ماله.
          قال: فكان يَترك نَعْلاً ويأخذ نعلاً، وخرَج من ماله كلِّه مرَّتين، وقال صلعم: «حَسَنٌ سِبطٌ من الأسباط»(30) .
          وكان حليماً كريماً ورعاً، دعاه ورعُه وفضلُه إلى أن ترك المُلكَ والدٌّنيا؛ رغبةً فيما عند الله، وكان يقول: ما أحبُّ أنْ أَلِيَ أَمرَ أمَّةِ محمَّد صلعم على أن يُهرَاقَ في ذلك مِحْجَمُ دمٍ.
          وكان من المبادرين إلى نُصْرَةِ عثمان بن عفَّان، ووَلِي الخلافةَ بعد قتل أبيه، وكان قَتلُ عليٍّ لثلاثَ عشرةَ بقيتْ من رمضان، سنة أربعين _كما سيجيء إن شاء الله تعالى في ترجمته_ وبايَعه أكثرُ من أربعين ألفاً، كانوا بايَعوا أباه عليًّا على الموت، وكانوا أطوعَ للحسن، وأحبَّ له، وبقي نحوَ سبعة أشهر خليفةً بالعراق وما وراءه من خُراسان / والحجاز واليمن، وغير ذلك.
          ثمَّ سار إليه معاويةُ من الشَّام، فلقيه بجَمْعِه، فلمَّا تَقَاربَا علم أنَّه لن تغلب إحدى الفئتَين حتَّى تَقتُل أكثرَ الأُخرى، فأرسل إلى معاوية يبذل له تسليم(31) الأمر إليه، على أن تكون (الخلافةُ له بعدَه، وعلى أن لا يَطلبَ أحداً من أهل المدينة والحجاز والعراق بشيء ممَّا كان أيَّام أبيه، وغير) ذلك من القواعد، فأجابه معاويةُ إلى ما طلب، فظهرت المعجزة النَّبويَّة في قوله صلعم: «إنَّ ابنِي هذا سيِّد، يصلح الله به بين فئتين من المسلمين». وأيُّ شرف أعظم من شرف مَن سمَّاه رسول الله صلعم سيِّداً؟!
          قال أبو بكر بن دُريد: قامَ الحسنُ بعدَ موت أبيه أمير المؤمنين، فقال بعدَ حمدِ الله تعالى: أنا واللهِ ما يؤخِّرني عن أهل الشَّام شكٌّ ولا ندم، وإنَّما كنَّا نقاتل أهلَ الشَّام بالسَّلَامة والصَّبر، فسُلِبت السَّلامةُ بالعداوة، والصَّبرُ بالجَزَع، وكنتم في مُنتَدَبكم إلى صِفِّين، ودِينُكم أَمَامَ دُنياكم، فأصبحتم اليوم ودُنياكم أَمَامَ دِينكم، أَلَا وإنَّا لكم كما كنَّا، ولستم لنا كما كنتم، أَلَا وأصبحتم بين قَتيلٍ بصفِّين(32) تبكون عليه، وقَتيلٍ بالنَّهْرَوانِ تطلبون بثأره، فأمَّا الباقي فخاذل، وأمَّا الباكي فثائر(33) ، أَلاَ وإنَّ معاويةَ دعانا إلى أمر ليس فيه عِزٌّ ولا نَصَفَةٌ، فإن أردتم الموت رددناه (عليه)، وحكَّمناه(34) إلى الله تعالى بِظُبا السُّيوف، وإن أردتم الجاهَ قبلناه، وأخذنا لكم الرِّضَا. فناداه القوم(35) من كلِّ جانب: البَقِيَّةَ، البَقِيَّةَ(36) . فلمَّا أَفرَدوه أمْضَى الصُّلحَ.
          قال يوسف بن سعد _كما قال ابن الأثير_: قام رجلٌ إلى الحَسَن بعدما بايع معاويةَ، فقال: سَوَّدْتَ وجوهَ المؤمنين. أو قال: يا مُسَوِّدَ وجوهِ المؤمنين. فقال: لا تؤنِّبْني(37) ، رحمَكَ الله، فإنَّ النَّبيَّ صلعم أُرِي بني أُميَّة على منبره، فساءَه ذلك، فنزلت: { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } إلى قوله: { لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ }، تَملِكُها بَعدي بنو أُميَّة(38) . انتهى.
          قلت: وذكر الزَّمَخشريُّ(39) في قوله تعالى: { وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ } [الإسراء:60] عن بعضهم: أنَّ النَّبيَّ صلعم رأى في المنام أنَّ وَلَدَ الحكم _يعني والد مروان_ يتداوَلون مِنبرَه، كما يتداوَل الصِّبيانُ الكُرةَ.
          قال ابن الأثير(40) : اختُلِف في الوقت الذي / سلَّم الحسنُ الأمرَ فيه إلى معاوية، فقيل: النِّصف من جُمادى الأُولى. وقيل: لخمس بَقِين(41) من ربيع الأوَّل. وقيل: في ربيع الآخِر. سنة إحدى وأربعين، فخلافته [هي] ستَّة أشهر، بلا خلاف، وزِيدت إلى نحو ثمانية أشهر، ومَن قال: سلَّم(42) الأمرَ إلى معاوية سنة أربعين، فقد وهم.
          ولمَّا بايع الحسنُ معاويةَ خطبَ النَّاسَ قبل دخول معاوية الكوفة، فقال: أيُّها النَّاس، إنَّما نحن أمراؤكم وضِيفانُكم(43) ، ونحن أهل بيتكم الذين أذهبَ الله عنهم الرِّجسَ وطهَّرهم تطهيراً. وكرَّر ذلك حتَّى ما بقي إلَّا مَن بكى حتَّى سُمِع نَشيجُه(44) .
          ولمَّا دخَل معاويةُ الكوفةَ، وبايعه النَّاس، قال عَمْرو بن العاص لمعاوية: لتأمر(45) الحسنَ ليخطب. قال: لا حاجَةَ بنا إلى ذلك. فقال عمرو: ولكنِّي أُريدُ ذلك ليَبْدُوَ عِيُّه(46) ؛ فإنَّه(47) لا يدري هذه الأمور. فقال معاوية: قُمْ يا حسن، فكلِّم النَّاس فيما جرى بيننا. فقام الحسنُ في أمرٍ(48) لم يُرَوِّ فيه، فحمد الله تعالى، وأثنى عليه، ثمَّ قال في بَديهته: أمَّا بعد، أيُّها النَّاس، فإنَّ الله هداكم بأوَّلنا، وحقَنَ دماءَكم بآخِرنا، أَلَا إنَّ أَكْيَسَ الكَيْسِ التُّقَى، وإنَّ أَعْجَزَ العَجْزِ الفُجُور، وإنَّ هذا الأمرَ الذي اختلفْتُ أنا ومعاوية فيه، إمَّا أن يكون أَحقَّ مِنِّي به، وإمَّا أن يكون حقِّي تركتُه لله تعالى، ولإصلاح أمَّة محمَّد صلعم وحَقنِ دمائكم. ثمَّ التفَتَ إلى معاوية، وقال: { وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ } [الأنبياء:111] . فأمَره معاوية بالنُّزول، (فنزل)، وقال لعمرو: ما أردتَ(49) إلَّا هذا؟!
          وكان الحسن ☺ متواضعاً.
          ذكر الغَزاليُّ في إحيائه(50) : أنَّ الحسن مرَّ بقوم من المساكين، يسألون النَّاسَ على قارعة الطَّريق، وقد نثَروا على الأرض كِسَراً في الرَّمل، وهم يأكلون، وكان راكباً على بغلته، فسلَّم عليهم، فقالوا: هَلُمَّ الغَداءَ يا ابنَ رسول الله صلعم. فقال: نعم، إنَّ الله لا يحبُّ المتكبِّرين. فنزل، وقعد معهم على الأرض، وأكل معهم، ثمَّ سلَّم عليهم، وركب، وقال: قد أجبتكم فأجيبوني. فوعدهم وقتاً معيَّناً، فحضروا، فقدَّم إليهم فاخِرَ الطَّعام، وجلس يأكل معهم.
          وكان مِطْلاقاً، قال الحسن: واللهِ، ما أَصبح رجلٌ يُطيع امرأتَه إلَّا كبَّه الله في النَّار على وجهه.
          قال الغزاليُّ(51) : ولذا قال عُمر: خالِفوا النِّساء، [فإنَّ في] خلافهنَّ بَرَكةٌ. وقال رسول الله صلعم: / «تَعِسَ عبدُ الزَّوجة».(52) وإنَّما قال ذلك؛ لأنَّه إذا أطاعها في هواها، فهو عبدُها، وقد تعس، فإنَّ الله ملَّكه إيَّاها، فملَّكها نفسَه، فعكَس الأمرَ، وأطاع الشَّيطانَ.
          وكان مِنْكاحاً، كما كان مِطلاقاً، وجَّهَ ذاتَ يوم بعضَ أصحابه بطلاق امرأتَين من نسائه، وقال: قُلْ لهما: اعتَدَّا. وأمَرَه أن يدفَع إلى كلِّ واحدةٍ عشرةَ آلاف درهم، ففعل، فلمَّا رجع قال: ما فعلتا(53) ؟ فقال: أمَّا إحداهما(54) فنكَّست رأسَها وسكتت، وأمَّا الأُخرى، فبكت وانتحَبَت، فسمعتُها تقول(55) : (الطَّويل)
          متاعٌ قليلٌ من حَبيبٍ مُفارِقِ
          فأطرَقَ الحسنُ ساعةً، وترحَّم لها، وقال: لو كنتُ مُراجِعاً امرأة بعدما أُفارِقها لراجعتُها.
          ودخل الحسنُ ذاتَ يومٍ على عبد الرَّحمن بن الحارث بن هِشام، فقيه المدينة ورئيسها _قال الغزاليُّ (في إحيائه)(56) : ولم يكن له بالمدينة نظير، فدخل عليه في بيته_ فعظَّمه عبدُ الرَّحمن، وأجلسه في مجلسه، وقال: أَلَا أَرسلْتَ إِليَّ فكنتُ أَجيئُك؟ فقال الحسن: الحاجَةُ لنا. فقال: وما هي؟ قال: جئتُك خاطباً ابنتَك. فأطرق عبد الرَّحمن، ثمَّ رفع رأسَه، وقال: واللهِ، ما على وجه الأرض أحدٌ أعَزَّ عَليَّ منك، ولكنَّك تعلَم أنَّ ابنتي بَضْعَةٌ مِنِّي، وأنت مِطْلاق، فأخاف أن تطلِّقها، فأخشى أن يتغيَّر قلبي عليكَ في محبَّتك، وأكره أن يتغيَّر قلبي عليك؛ لأنَّك بَضْعَةٌ من رسول الله صلعم، فإن شرطتَ أن لا تطلِّقها، زوَجتُك. فسكت الحسن، ثمَّ خرج، فسمع بعضُ أهل الدَّار الحسنَ يقول: ما أراد عبد الرَّحمن إلَّا أن يجعل ابنتَه طَوْقاً في عنقي.
          وكان عليٌّ ☺ يضجرَ من كثرة تطليقه، وكان يعتذر منه على المنبر، ويقول في خطبته: إنَّ حسناً مِطلاق، فلا تُنْكِحوه. حتَّى قام رجل من هَمْدانَ، فقال: واللهِ يا أمير المؤمنين، لنُنْكِحنَّه ما شاء، فإن أحبَّه أَمسَكَ، وإن أحبَّه تَركَ. فَسُرَّ بذلك [عليٌّ] ، وقال: لو كنتُ بوَّاباً على باب الجنَّة لقلت لهَمْدانَ: ادخُلِي بسَلام.
          وكان سبَبُ موتِه: أنَّ زَوجتَه جَعْدَةَ بنتَ الأَشْعث بن قَيْس سقته السُّمَّ، فكان يُوضَع تحتَه الطَّسْتُ، ويُرفع الأُخرى نحواً من أربعين يوماً، فرَضي الله عنه، كان حتفُه في غرامه، أعني النِّساء.
          ولمَّا اشتَدَّ مرضُه قال لأخيه الحُسين: يا أخي، سُقِيتُ السُّمَّ ثلاثَ مرَّات، لم أُسْقَهُ مثلَ هذه، إنِّي لأضع كبدي. قال الحسين: مَن سقاك يا أخي؟ قال: ما سؤالُك عن هذا؟! أتريد أن تقاتِلَهم(57) ؟! إنِّي أَكِلُهم إلى الله.
          ولمَّا حضرت(58) الوفاةُ أرسل إلى عائشة يطلب منها / أن يُدفَن مع النَّبيِّ صلعم، فأجابته إلى ذلك، فقال لأخيه: إذا متُّ، فاطلب إلى عائشة أن أُدفن مع جدِّي، فلقد كنتُ طلبتُ منها، فأجابت إلى ذلك، فلعلَّها تستحي مِنِّي، فإن أَذِنتْ فادفنِّي معه، وما أظُنُّ القومَ _يعني بني أميَّة_ إلَّا سيمنعونَك، فإذا(59) فعلوا، فلا تُراجِعهم في ذلك، وادفنِّي في بقيع الغَرقَد.
          فلمَّا توفِّي، جاء الحُسين في ذلك إلى عائشة، فقالت: نَعَم، وكرامة. فبلغ ذلك مروانَ وبني أميَّة، فقالوا: والله لا يُدفَن هناكَ أبداً. فبلغ ذلك الحُسينَ، فلبس هو ومَن معه السِّلاح، ولبسه(60) مروان، فسمع أبو هريرة، فقال: واللهِ إنَّه لظُلمٌ، يَمنَع الحسنَ أن يُدفَن مع أبيه، والله إنَّه لابنُ رسول الله صلعم. ثمَّ أَتَى الحُسينَ، فكلَّمه وناشده الله، وقال: أليس قد قال أخوك: إن خِفتَ، فَرُدَّني إلى مقابر المسلمين؟! ففعل، فدُفِن في البَقيع.
          ولم يَشهَده أحدٌ من بني أُميَّة، إلَّا سعيد بن العاص؛ كان أميراً على المدينة، فقدَّمه الحُسينُ للصَّلاة عليه، وقال: لولا أنَّها السُّنَّة لما قدَّمتك.
          وقيل: حضر صلاةَ الجنازة خالد بن الوليد بن عُقْبة(61) بن أبي مُعَيْط، وسأل بني أُميَّة، فأذنوا له في ذلك.
          ووصَّى إلى أخيه الحُسين، وقال: لا أُرَى أنَّ الله يَجمَع لنا النُّبوَّةَ والخِلافةَ، فلا يستخِفَّنَّك أهلُ الكوفة ليُخرِجُوكَ.
          قال الفَضْلُ بنُ دُكَيْن: لمَّا اشتَدَّ بالحسن بن عليٍّ ☻ الألمُ، جَزَع، فدخل عليه رجل، فقال: يا أبا محمَّد، ما هذا الجَزَع؟! ما هو إلَّا أن تفارق روحُك جسدَك، فتَقدَمُ على أبوَيك: عليٍّ وفاطمةَ، وجدِّك جدَّتك(62) : النَّبيِّ صلعم، وخديجة، وعلى أعمامِك: حمزة وجعفر، وعلى أخوالِك: القاسم والطَّيِّب والطَّاهر وإبراهيم، وعلى خالاتِك: رقيَّة وأمِّ كُلثوم وزَينب. فَسُرِّيَ عنه.
          ولمَّا مات أقام نساءُ بني هاشم النَّوْحَ (عليه) شهراً، ولبسوا الحِدادَ(63) سنةً.
          قلت: ولن ينفعهُنَّ ذلك شيئاً، والصَّبر أَولى، والتَّفويض أحقُّ.
          قال كمال الدِّين الدَّمِيريُّ(64) : لمَّا مات الحسنُ بن الحسن(65) بن عليٍّ، ضَرَبت امرأتُه القُبَّةَ على رأسِه سنةُ، ثمَّ رَفَعت، فسَمِعوا صائحاً يقول: أَلَا هل وَجَدوا ما فَقَدوا؟ فأجابه آخَر: بل يَئِسوا فانقَلَبوا.
          فسبحان الذي لا يَجرِي في مُلكه إلَّا ما شاء، وسبحان مَن تنزَّه عن الفحشاء، قال النَّوويُّ ☼ (66) : مَن أيقَنَ هذا الحديث: «لله ما أَعطَى، ولله ما أخَذ»(67) ، هانَ(68) عليه كلُّ المصائب.
          قلت: وكان / الحسن _مع زهده وشرفه وقربه من رسول الله صلعم_ شديدَ الخوف، حتَّى [إنَّه لمَّا أراد أنْ يُحْرِم صارَ ميلاً ولم يُحرِم، مع أنَّ النَّاس قد أحرموا، فقيل له في ذلك، قال: أخاف أن أقول: لبَّيك وسعديك. فيقال لي: لا لبَّيك ولا سعديك. و] رآه شخص، وهو يبكي وينتحب، فقال: يا ابنَ رسول الله صلعم لم هذا كلُّه، وقد قال الله تعالى: { إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } [الأحزاب:33] ؟! قال: نعم، ولكن غفلتَ عن آيةٍ تذكَّرتُها، قال الله تعالى: { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ } [المؤمنون:101] . أو كما قال ☻.
          قلت: فانظُر ما أشدَّ خوفَه وعلمَه! فإنَّه كلَّما ازداد علم الرَّجل ازداد خوفه، قال الله تعالى: { إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء } [فاطر:28] . مع ما تُفيد «إنَّما» من الحصر. فتأمَّل.
          توفِّي ☺ مسموماً شهيداً، سنة تسع وأربعين، أو إحدى وخمسين.
          وكان يَخْضِب بالوَسْمَةِ. قاله ابن الأثير(69) .


[1] تصحَّف في الأصول كلِّها إلى: (أبو محمَّد).
[2] في (ن): (سمَّاهما).
[3] في (ن) تصحيفاً: (سنة) وكذلك (سنتين).
[4] في (ن) تصحيفاً: (وهي).
[5] المسند (26875)، وابن ماجه (3923).
[6] الأدب المفرد للبخاريِّ (823)، والمسند (769)، وصحيح ابن حبَّان (6958).
[7] أسد الغابة:2/16.
[8] في (ن) تصحيفاً: (محمد بن شبرمة).
[9] النجم الوهاج 2/140.
[10] المسند (1718)، وأبو داود (1425)، والتِّرمذي (464)، والنَّسائي (1745)، وابن ماجه (1178).
[11] في (ن) تصحيفاً: (عمن).
[12] سقطت (مخالفاً) من (س).
[13] رواه أبو داود في المراسيل (80)، والبيهقي في السنن الكبرى 3/114: من طريق حمَّاد بن سلمة حدَّثنا ثابت عن عمرو بن شعيب: أنَّ النَّبيَّ صلعم أتى عَليَّ بن أبي طالب ☺. وعمرو بن شعيب لم يدرك سيدنا عليا رضوان الله عليه.
[14] المسند (22241)، وأبو داود (90)، والتِّرمذي (357)، وابن ماجه (923).
[15] في غير (ن): (للحُسين)، وهو تصحيف ظاهر.
[16] المسند (1727).
[17] مصنَّف ابن أبي شيبة:2/ 171، والمعجم الأوسط:9/ 182 برقم: (9483)، والمعجم الصَّغير للطَّبراني (1138)، بمعناه، وفيهنَّ: (صلاة الصُّبح).
[18] النَّسائي في سننه الكبرى (8169، 8528)، وصحيح ابن حبَّان (6959)، وهو في المسند (10999)، والتِّرمذي (3768)، بدون الاستثناء.
[19] الترمذي (3769)، وصحيح ابن حبَّان (6967).
[20] البخاري (2704).
[21] المسند (22995)، أبو داود (1109)، والتِّرمذي (3774)، والنَّسائي (1413)، وابن ماجه (3600).
[22] البخاري (3752).
[23] سقطت (قلت) من (س)، وحديث جعفرٍ ☺ في البخاريِّ (2699).
[24] التِّرمذي (3784)، وفيه: (الحسين)، والمؤلِّف ☼ ينقل لفظ أسد الغابة:2/ 18.
[25] التِّرمذي (3205، 3787).
[26] في (ن) تصحيفاً: (وعنزتي).
[27] التِّرمذي (3788)، وهو في المسند (21578) من حديث زيد بن ثابت ☺.
[28] التِّرمذي (3789).
[29] أسد الغابة:2/19-20.
[30] المعجم الكبير:3/ 20 برقم (2586).
[31] في (ن) تصحيفاً: (سليم).
[32] في (ن) تصحيفاً: (نصفين).
[33] في غير (ن): (فبائن).
[34] في غير (ن): (وحاكمناه).
[35] سقطت (فناداه القوم) من (س).
[36] في النسخ جميعها: (التقية التقية) والمثبت من أسد الغابة.
[37] في (س): (توبخني).
[38] التِّرمذي (3350)، وقال: غريب.
[39] الكشاف:2/676.
[40] أسد الغابة:2/20.
[41] سقطت (بقين) من (س).
[42] في غير (ن): (أسلم).
[43] في (ن) تصحيفاً: (وصبيانكم).
[44] في (ن) تصحيفاً: (نبيحه).
[45] في غير (ن): (مُر).
[46] في (ن): (ليبدو عنه) وفي (س) و(ه): (لنبدو عنه) والمثبت من أسد الغابة:2/21.
[47] في غير (ن): (لأنه).
[48] في غير (ن): (لأمر).
[49] في (ن) تصحيفاً: (نعم وما أردت).
[50] إحياء علوم الدِّين:2/ 13.
[51] إحياء علوم الدِّين:2/ 44.
[52] لا أصل له بهذا اللَّفظ، انظر الفوائد المجموعة للشَّوكانيِّ: ص175.
[53] في (ن): (فعلن).
[54] في (ن) تصحيفاً: (أحدهما).
[55] عجز بيت صدره: وفقت على قبر مقيم بقفرة.
والخبر في تهذيب الكمال:6/237، والبيت بتمامه في الكامل للمبرد:4/45 دون عزو.
[56] 2/338- 339.
[57] في (ن) تصحيفاً: (تعاملهم).
[58] في غير (ن): (حضره).
[59] في غير (ن): (فإن).
[60] في الأصول كلها: (وبلغه) والمثبت من أسد الغابة:2/21.
[61] في (ن) تصحيفاً: (خالد بن الوليد وعقبة).
[62] في غير (ن): (وحبيبك).
[63] في (ن) تصحيفاً: (ولبس حداد).
[64] النَّجم الوهَّاج:3/ 111، والخبر علَّقه البخاريُّ في الصَّحيح قبل الحديث رقم: (1330)، وعنه نقله الدَّميريُّ، فتأمَّل.
[65] في الأصول كلِّها: (بن أبي الحسن)، والتصحيح من مصدره.
[66] في غير (ن): (ولقد صدق النووي).
[67] البخاري (6602).
[68] في غير (ن): (هانت).
[69] أسد الغابة:2/21.