غاية المرام في رجال البخاري إلى سيد الأنام

الحسين بن علي بن أبي طالب

          270 # الحُسَيْنُ بنُ علي بن أبي طالب، القرشيُّ، الهاشميُّ، الصَّحابيُّ بن الصَّحابيِّ، أبو عبد الله، ريحانة النَّبيِّ صلعم.
          وقد مضى في ترجمة الحَسَن ما يتعلَّق بالحُسَين هذا، فراجعها، وهكذا يأتي في هذه التَّرجمة ما يتعلَّق بالحَسَن، فاستفِد، كما سيأتي إن شاء الله تعالى في ترجمة والدهما ما يتعلَّق بهما، فتنبَّه(1).
          كان أشبهَ النَّاس برسول الله صلعم من الصَّدر إلى ما سَفَل منه.
          ولمَّا وُلد أَذَّن النَّبيُّ صلعم في أُذُنه(2) ، وهو سيِّد شباب أهل الجنَّة، وخامس أهل الكِسَاء.
          أمُّه فاطمة سيِّدة نساء العالَمين إلَّا مريمَ.
          وُلد الحُسين لخمس ليالٍ خَلَوْنَ من شعبان، سنة أربع، قال جَعْفر بن محمَّد: لم يكن بين وَضْع الحَسنِ والحَمل بالحسين إلَّا طُهْرٌ واحد، [بعد ولادة الحسن] .
          وقال قَتَادة: وُلد الحُسين بعد الحَسَن بسنة وعشرة أشهر، فولدته لستِّ(3) سنين، وخمسة أشهر، ونصف شهر، من الهجرة. قاله ابن الأثير(4) .
          وقد ذكرنا اختلافَهم في ولادة الحَسَن في ترجمته.
          روى عن رسول الله صلعم ثمانيةَ أحاديث.
          قال الحُسين بن عليٍّ: سمعتُ رسولَ الله صلعم يقول: «ما مِن مُسلمٍ ولا مُسلِمةٍ تُصيبُه مُصيبةٌ، وإن قَدُمَ عهدُها، فيُحْدِث لها استِرجاعاً، إلَّا أَحْدَثَ الله عندَ ذلك، وأعطاه ثوابَ ما وَعَده بها يومَ أُصيب»(5) .
          وعن الحُسين بن عليٍّ قال: قال رسول الله صلعم: «أَمَانُ أمَّتي من الغَرق إِنْ رَكِبوا في البَحر أن يقولوا: { بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ }» [هود:41](6) . /
          عن أبي هريرة: أنَّ الحسن والحسين كانا يَصْطَرِعان بين يدَي رسول الله صلعم، ورسول الله صلعم يقول: «هِيْ حَسَن، هِيْ حَسَن». قالت فاطمة: يا أبتِ، لِمَ تقول: هِيْ حَسَن؟ قال: «لأنَّ جبريل يقول: هِيْ حُسَين»(7) .
          عن عبد الرَّحمن بن أبي نُعْمٍ: أنَّ رجلاً من أهل العراق سأل ابنَ عُمر عن دم البَعُوض يُصيب الثَّوب، فقال ابن عمر: انظُروا إلى هذا؛ يسأل عن دم البعوض، وقد قَتَلوا ابنَ بنتِ رسول الله صلعم ؟! وسمعتُه(8) يقول: «الحسن والحسين رَيحانتَايَ من الدُّنيا»(9) .
          وروى البخاريُّ نحوَ هذا، عن أبي هريرة ☺ أيضاً(10) .
          عن يَعْلَى بن مُرَّةَ قال: قال رسول الله صلعم: «حُسَيْن مِنِّي وأنا من حُسَيْن، أحبَّ الله من أحبَّ حسيناً، حسين سِبْطٌ من الأَسْباط»(11) .
          وعن عليٍّ ☺ قال: الحَسَنُ أشبه برسول الله صلعم ما بين الصَّدْر إلى الرَّأس، والحُسَينُ أشبه به ما كان أَسْفَلَ من ذلك(12) .
          قال أنس بن مالك: أُتي برأس الحُسين إلى عُبيد الله بن زياد، فجُعل في طَسْتٍ، فجَعل يَنْكُتُ عليه، وقال في حُسْنِه شيئاً، فقال أنس: كانَ أشبهَهم برسول الله صلعم، وكان مَخْضوباً بالوَسْمَةِ. قال ابن الأثير(13) : هذا حديث صحيح، متَّفق عليه.
          وروى واثِلةُ بن الأَسْقَعِ قال: جِيء برأس الحُسين، فلَعَنه رجلٌ من أهل الشَّام، ولعن أباه، فقال واثلة: واللهِ لا أزال أُحِبُّ عليًّا والحُسين والحَسَنَ وفاطمةَ؛ بعد أن سمعتُ رسولَ الله صلعم يقول فيهم ما قال، لقد رأيتُني ذاتَ ليلةٍ، وقد جئتُ النَّبيَّ صلعم في بيت أمِّ سَلَمَةَ، فجاء الحَسَنُ، فأجلسه على فخِذه اليمنى، وقبَّله، ثمَّ جاء الحُسين، فأجلسه على فخِذه اليسرى، وقبَّله، ثمَّ جاءت فاطمة، فأجلسها بين يديه، ثمَّ دعا بعليٍّ، ثمَّ قال: «{ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا }» [الأحزاب:33] . قيل لواثلة: ما الرِّجْسُ؟ قال: الشَّكُّ في الله ╡ (14) .
          قال أبو أحمد العَسْكَرِيُّ: يُقال: إنَّ الأَوْزاعيَّ لم يَرْوِ في الفضائل حديثاً سوى هذا. قال: وكذلك الزُّهْرِيُّ، لم يَرْوِ فيها إلَّا حديثاً واحداً، كانا يخافان بني أُميَّة.
          قال الزُّبَيْرُ بنُ بَكَّار: حَجَّ الحُسين خمساً وعشرين حجَّة ماشياً.
          فعلى هذا يكون قد حجَّ وهو بالمدينة قبل دخول العراق، فإنَّه لم يَحُجَّ من العراق، وجميع ما عاش بعد مفارقة العراق تسعَ عشرةَ(15) سنة وأشهراً، فإنَّه عاد إلى المدينة من العراق سنة إحدى وأربعين، وقُتل أوَّل سنة إحدى وستِّين.
          وكان الحُسين كارهاً لِمَا فعلَه أخوه الحَسَن من تسليم الأمر إلى معاوية، قال: يا أخي، أَنْشُدُكَ أنْ تُصدِّق أُحْدوثةَ معاوية، وتُكذِّبَ أُحْدوثةَ أبيك. /
          فقال له الحَسَن: اسكُتْ، أنا أعلَمُ بهذا الأمر منك.
          وكان الحُسين فاضلاً، كثيرَ الصَّوم والصَّلاة والحجِّ والصَّدقة وأفعال الخير جميعها.
          وكان سبب قتلِه ☺: أنَّ معاويةَ بن أبي سفيان لمَّا مات، كاتَبَ كثيرٌ من أهل العراق إلى الحُسين؛ ليأتيَهم ليبايعوه، وكان قد امتنع للبيعة ليزيد بن معاوية لمَّا بايع له أبوه بولاية العهد، وامتنع معه ابن عُمر، وابن الزُّبير، وعبد الرَّحمن بن أبي بكر، فلمَّا توفِّي معاوية لم يبايِع أيضاً، وسار من المدينة إلى مكَّة، فأتاه كُتب أهل الكوفة، وهو بمكَّة، فتجهَّز للمَسير، فنهاه جماعة، منهم: أخوه محمَّد ابن الحَنَفيَّة، وابن عمر، وابن عبَّاس، وغيرهم، فقال: رأيتُ رسولَ الله صلعم في المنام، وأَمَرني بأمر، وأنا فاعل ما أَمر.
          فلمَّا أتى العراقَ، كان يزيد قد استعمل عُبيد الله بن زياد على الكوفة، فجهَّز الجيوشَ إليه، واستعمل عليهم عُمَر بنَ سَعْد بن أبي وقَّاص، ووعده إمارة الرَّيِّ، فسار أميراً على الجيوش، وقاتلوا حُسيناً بعد أن طَلَبوا منه أن ينزِل على حُكْم عُبيد الله بن زياد، فامتنَع، وقاتل حتَّى قُتل، هو وتسعةَ عشرَ من أهل بيته.
          قتلَه سِنَانُ بنُ أنس النَّخَعيُّ، وقيل: قتله شِمْر بن ذي الجَوْشَن(16) ، وأجهز عليه خَوْلِيُّ بنُ يزَيْد الأَصْبَحِيُّ، وقيل: قتله (عُمَر بن سَعْد، وليس بشيء. قاله ابن الأثير(17) .
          وقال: الأصحُّ الأوَّل، وأمَّا مَن قال: قتله) شِمْر وعُمْرُ بنُ سَعْد. لأنَّ شِمْراً هو الذي حرَّض على قتله، وحمَل بهم إليه، وكان عُمر أميرَ الجيش، فنُسب القَتلُ إليهما(18) .
          ولمَّا أجهز عليه خَوْليٌّ حمل رأسه إلى عُبيد الله بن زياد، وقال مُنشِداً _من البحر الرَّجز_:
أَوْقِرْ رِكَابِي فضَّةً وذهبا                     فقد قتلتُ السيِّدَ المُحَجَّبَا
قتلتُ خيرَ النَّاسِ أُمَّاً وأَبَا                     وخَيْرَ هم إذ تُنسَبون نَسَبَا
          وقيل: إنَّ سِنَانَ بن أنس لمَّا قتله، قال له النَّاس: قتلت الحُسين بن عليٍّ، ابنَ فاطمة، أعظمَ العرب خَطَراً، أراد أن يزيلَ ملك هؤلاء، فلو أعطوكَ بيوت أموالهم لكان قليلاً. فأقبل على فرسه، وكان شجاعاً، فوقف على باب فُسْطَاطِ عُمر بن سَعْد، وأنشده الأبياتَ المذكورة، فقال عُمَر: أشهدُ أنَّك لمجنون. وحذفه(19) بقضيب، وقال: أتتكلَّم بهذا الكلام؟! واللهِ لو سمعه عُبيد الله بنُ زياد لقتلك.
          ولمَّا قُتل الحُسين، أمَر عُمر بنُ سَعْد نفراً، فيركبون خيولهم، فيوطئون الحُسين بها.
          وكان عِدَّةُ من قُتل معه اثنين وسبعين رجلاً.
          ولمَّا قُتل أَرسل عُمر رأسَه ورؤوسَ أصحابه إلى عُبيد الله بن زياد، فجمعَ النَّاسَ، وأحضر / الرُّؤوسَ، وجعل يَنْكُتُ بقضيب بين شَفَتَي الحُسين، فلمَّا رآه زيدُ بنُ أَرْقَمَ لا يرفع قضيبَه، قال (له): اعْلُ بهذا القضيب، فو (اللهِ) الذي لا إله إلَّا هو، لقد رأيتُ شَفَتَي رسول الله صلعم على هاتين الشَّفتين يقبِّلهما. ثمَّ بكى، فقال له عُبيدُ الله بن زياد: أَبْكَى الله عينَيك، فوالله لولا أنَّك شيخ قد خَرِفْتَ لضربتُ عنقك. فخرج وهو يقول: [أنتم] يا معشر العرب [عبيدٌ](20) بعدَ اليوم؛ قتلْتُم الحُسينَ ابن فاطمة، وأَمَّرتم ابنَ مَرْجاَنَةَ، فهو يقتل خِيارَكم، ويستقدم(21) شِرارَكم.
          قال ابن الأثير(22) : وأَكْثَرَ النَّاسُ فيه المراثي، وممَّا قيل فيه، ما قاله سُليمانُ بنُ قَتَّةَ(23) الخُزَاعِيُّ _من البحر الطَّويل_:
مَررتُ على أبياتِ آلِ محمَّدٍ                     فلم أَرَها أمثالَها حينَ حُلَّتِ
فلا يُبْعِد اللَّهُ البيوتَ وأهلَها                     وإن أصبحتْ منهم بِرَغْمِي تَخَلَّتِ
وكانوا رجاءً ثمَّ عادوا رَزِيَّةً                     لقد عَظُمتْ تلك الرَّزايا وجَلَّتِ
أولئك قومٌ لم يَشِيْمُوا سُيوفَهمْ                     ولم تُنْكِ في أعدائهم حينَ سُلَّتِ
وإنَّ قَتيلَ الطَّفِّ من آل هاشمٍ                     أَذَلَّ رقاباً من قُريش فَذَلَّتِ
ألم تَرَ أنَّ الأرضَ أضحتْ مَريضةً                     لفَقْدِ حُسينٍ والبلادَ اقْشَعَرَّتِ
وقد أَعْوَلَتْ تَبكي السَّماءُ لفَقْدِهِ                     وأَنْجُمُها ناحَتْ عليه وصَلَّتِ
          وهي أبيات كثيرة، اقتصرتُ على هذه.
          قال الكِرْمَانيُّ(24) : سلَّط الله إبراهيمَ بنَ الأَشْتَرِ النَّخَعِيَّ، فعسكر أيامَ المختار، وقَتل عُبيدَ الله بن زياد بالموصل سنة ستٍّ وستِّين. وانتَقم الله منه.
          قال بعضُهم: دخلتُ على أمِّ سَلَمَةَ وهي تبكي، فقلت: ما يبكيك؟ قالت: رأيتُ رسولَ الله صلعم في المنام، وعلى رأسِه ولحيته التُّراب، فقلت: ما بالُك يا رسول الله؟ قال: «شهدتُ قَتْلَ الحُسين آنِفاً»(25) .
          وقال ابن عبَّاس: رأيتُ رسول الله صلعم فيما يَرى النَّائمُ، نِصْفَ النَّهار، وهو قائم أشعَثَ أغْبرَ، بيده قارورةٌ فيها دَم، فقلت: بأبي أنت وأمِّي يا رسول الله! ما هذا الدَّم؟ قال: «هذا دم الحُسين، لم أزل أَلتقِطه منذ اليوم». فَأُرِّخ، وإذا به قد قُتل في ذلك اليوم(26) .
          روى عُمارة بن عُمير(27) قال: لمَّا جِيء برأس عُبيد الله بن زياد وأصحابِه، نُضِّدَتْ في المسجد، فانتهيتُ إليهم، وهم يقولون: قد جاءَتْ، قد جاءَتْ. فنظرتُ، فإذا حَيَّة قد جاءت تَخَلَّلُ الرُّؤوس، حتَّى دخلت في مِنْخَرِ عُبيد الله بن زياد، فمكثتْ هُنَيْئَةً، ثمَّ خرَجت، فذهبتْ حتَّى تغيَّبتْ، ثمَّ قالوا: قد جاءت، قد جاءت(28) . ففعلتْ ذلك ثلاث مرَّات.
          قال التِّرمذيُّ: هذا حديث حسن صحيح. قاله ابن الأثير(29) .
          وقال(30) : قُتل الحُسين يومَ الجمعة، أو السَّبت، يومَ عاشوراء، سنة إحدى وستِّين، بكَرْبَلاء / من العراق، وقبرُه مشهور يُزار.
          وقال الكَلاَباذيُّ(31) : سمع الحُسين أباه عليًّا، وروى عنه ابنه عليُّ بن الحُسين الأصغر، روى عنه البخاريُّ بالواسطة في مواضع، في التَّهجُّد [خ¦1127] ، والخُمس [خ¦3091] ، وغيرهما.
          قال: وكان بين عُلُوقِ فاطمةَ بالحُسين، وبين ولادة الحَسَن خمسون ليلةً. [وفيه مُبَايَنة لما مضى عن ابن الأثير] ، وقُتل يوم عاشوراء، يوم الأربعاء، سنة إحدى وستِّين، وهو ابن ستٍّ، أو خمس وأشهر، أو سبع، أو ثمان وخمسين. وقيل: في صفر. ☺ وعن والدَيه.
          - مهمَّة من أعظم المهمَّات:
          قال حجَّة الإسلام الغزاليُّ: يَحْرُم على الواعظ وغيرِه روايةُ مقتل الحُسين وحكاياته، وما جرى بين الصَّحابة من التَّشاجر والخصام، فإنَّه مُهَيِّجٌ على بُغض الصَّحابة والطَّعن فيهم، وهُم أعلام الدِّين، تلقَّى الأئمَّةُ منهم، ونحن من الأئمَّة، فالطَّاعن فيهم مطعون، طاعن في نفسه ودينه. قال النَّبيُّ صلعم: «أصحابي كالنُّجوم، بأيِّهم اقتديتُم اهتديتم»(32) . وقال: «ما من أرض يَموت بها أحدٌ من أصحابي إلَّا كان قائدَهم إلى الجنَّة»(33) . وقال: «اللهَ اللهَ في أصحابي(34) ، لا تتَّخذوهم غَرَضاً، فمَن أحبَّهم، فبحبيِّ أحبَّهم، ومن أبغضهم، فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم، فقد آذاني، ومن آذاني، فقد آذى الله، (ومن آذى الله)، يوشك أن يأخذه الله»(35) . وقال: «أكرموا أصحابي، فإنَّهم خياركم»(36) . وقال: «لا تَسبُّوا أصحابي، فلو أنَّ أحدَكم أنفق مثلَ أُحُدٍ ذهباً ما بلغ مُدَّ أَحدِهم ولا نَصِيفَه»(56). '>(37) .
          قلت: وهذا الخطاب النَّهي إنَّما هو مع خالد بن الوليد سيف الله، في قصَّته مع عبد الرَّحمن بن عوف، كما سيجيء إن شاء الله، فإذا كان هذا التَّأكيد مع سيِّدٍ من سادات الصَّحابة، فكيف مع غيره؟! فيا مَن بيده الخير والشَّرُّ! لا منجا ولا مَلجأ(38) (منك) إلَّا إليك، فاعصمنا يا كريم.
          وما وقع بينهم من المنازعات، فيُحمل على مَحامِلَ صحيحةٍ، تُؤجَر الطَّائفتان بذلك، وذلك لخطأٍ في الاجتهاد، لا لطلب الرِّئاسة أو الدُّنيا، وقد قال صلعم: «من اجتهَد وأصاب، فله أجران، ومن اجتهَد وأخطأ، فله أجر واحد»(39) . فالقاتل والمقتول _كما قال الكِرْمَانيُّ(40)_ من الصَّحابة في الجنَّة؛ إذ(41) كان قتالهم في الاجتهاد الواجب عليهم، وأجمَعَ العلماءُ على أنَّه لا يجوز للمجتهد التَّقليد، ولو تحيَّر(42) .
          واعلَمْ أنَّ سَبَّهم، والطَّعنَ فيهم _ممَّا يخالف الأدلَّة القَطعيَّة_ كُفْرٌ، كَقَذْفِ عائشةَ، وإلَّا فبدعةٌ، وفسقٌ، وضلالٌ.
          وبالجُملة: لم يُنقل عن أحد من السَّلف المجتهدين، والعلماء الصَّالحين، جوازُ اللَّعن على معاوية وأحزابه(43) ، ولا الطَّعن فيه، فإنَّه كاتب / الوحي، من أكابر الصَّحابة _كما سيأتي إن شاء الله تعالى_ وإنَّما أخطأ في اجتهاده، وغاية أمره البَغْيُ والخروجُ على الإمام الحقِّ عليِّ بن أبي طالب، وذلك لا يوجب اللَّعن، فتنبَّهْ، ورُدَّ النَّفس عن غَيِّها في هواها، { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ } [الجاثية:23] وناهيك هذه زاجرة.
          - تتمَّة:
          إن قلتَ: هل يجوز لعنُ يزيد؟ فإنَّك إنما بيَّنْتَ أمرَ الصَّحابة فقط، ويزيد تابعيٌّ، ولد زمنَ عُمر ☺.
          قلتُ: الصَّحيح الذي عليه الجماهير أنَّه لا يجوز لَعْنُه، ولا لعنُ أحدٍ بخصوصه من أهل القِبلة؛ إذ لا نكفرِّ أحداً من أهل القِبلة، كما قاله إمامنا أبو الحَسَنِ الأَشْعَرِيُّ عند آخر أمره في مرض موته، قال: أُشهِدكم أنِّي لا أكفِّر أحداً من أهل القبلة، فإنَّهم كلَّهم يشيرون إلى معبود واحد. انتهى.
          فلا يجوز لعنُ يزيد، ولا تكفيرهُ(44) ؛ لأنَّه مرتكب الكبيرة، لكنْ أيُّ كبيرةٍ؟! كبيرةٌ أكبرُ من كبائر، فلا حول ولا قوَّة إلَّا بالله، وأَمرُه إلى الله، فإنَّه من جملة المؤمنين، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه.
          كيف؟ وقد قال في الخُلاصة: لا يجوز اللَّعنُ على يزيد، ولا على الحَجَّاج؛ لأنَّ النَّبيَّ صلعم نهى عن لعن المصلِّين(45) ومَن كان من أهل القِبلة.
          وأمَّا لعنُ النَّبيِّ صلعم بعضَهم؛ فَلِمَا كان يعلَم من أحوال الخَلق ما لا نَعْلَمه، فالأمر موكول إليه.
          هذا وقد قال ابن خلِّكان: [إنَّ] عِدَّةُ من قَتَله الحَجَّاجُ صبراً مئة ألف وعشرون ألفاً، [وتوفِّي] وفي حبسه خمسون ألف رجل، وعشرون ألف امرأة. ومع هذا [كلِّه] ، فلا يجوز لعنُه، فكيف لعن يزيد؟!
          قال إمام الحرمَين: أمَّا يزيد بن معاوية، قال صاحب الغُنْيَة(46) : إنَّه مؤمن، وقال قوم: إنَّه مسلم، قالت الشِّيعة: إنَّه كافر، وقالت المعتزلة: إنَّه ليس بمؤمن؛ لمقاتلته الحسين.
          قلت: وأنت خبير في مبنى الخلاف أنَّ الكبيرة، هل يَخْرج مرتكبُها من الإسلام، أو لا؟ وهل يَدْخُل الكفر(47) ، أو لا؟ والصَّحيح لا يُخرجه من الإسلام(48) ، فضلاً عن أن تُدخلَه الكفر، لكن التَّكفير مشهور عن الخوارج، لا عن(49) الشِّيعة، فتأمَّل.
          ولما سُئل تلميذ إمام الحرمين الكِيَا الهرَّاسيُّ عن يزيد _كما نقله ابن خَلِّكان(50)_ فقال: أمَّا قول السَّلف، ففيه لأحمدَ قولان: تلويح وتصريح، ولمالك قولان: تلويح وتصريح، ولأبي حنيفة قولان: تلويح وتصريح، ولنا قول واحد: التَّصريح دون التَّلويح، وكيف لا يكون كذلك، وهو اللَّاعب بالنَّرْدِ، المدمنُ للخَمر، / المتصيِّد بالفهود(51) ؟!، وشِعره في الخمر معلوم، وهو القائل _من البحر الطَّويل_:
أقول لصَحْبٍ ضمَّتِ الكأسُ شملَهم                     وداعي صَبَابَاتِ الهَوَى يترنَّمُ
خُذوا بنصيبٍ من نَعيمٍ ولَذَّةٍ                     فَكُلٌّ وإنْ طالَ المَدَى يَتَصَرَّمُ
          وكتَب فصلاً طويلاً، ثمَّ قلب الورقة، وكتب: لو مُددت ببياضٍ، لمَددت العِنَان في مخازي هذا (الرَّجل). وكتب(52) فلان بن فلان. انتهى.
          قلت: لو تأمَّلتَ ما عَيَّبَه به لم تجد فيه شيئاً يقتضي الكفر، ولا أحدٌ يشكُّ في عِصْيانه، ولكنَّ السُّؤال إنَّما هو عن كُفْره.
          ولكنْ أطلق التَّفْتَازانيُّ شارحُ العقائدِ النَّسَفِيَّةِ اللَّعْنَ على يزيد، قال: لأنَّه كفَر حين أمَر بقتل الحسين، واتَّفقوا على جواز اللَّعْن على مَن قتله أو أمر بقتله، أو أجازه أو رضيه.
          قال: والحقُّ أنَّ يزيدَ رضيَ بقتل الحسين، واستبشارُه بذلك، وإهانتُه أهلَ بيتِ النَّبيِّ صلعم، ممَّا تواتر معناه، وإنْ كان تفاصيلُه آحاداً.
          ثمَّ قال: نحن لا نتوقَّف في شأنه، بل في إيمانِه، فلعنة الله عليه، وعلى أنصاره وأعوانه. انتهى كلامه(53) .
          قلت: وقد رَكِبَ التَّفتازانيُّ أَمْراً إمْراً، وتفوَّه شيئاً نُكْراً، ومِنْ أين نسلِّم له الاتَّفاق على جواز اللَّعن؟! ومن أين اطَّلَع على الرِّضا القَلبيِّ الذي لا يَطَّلع عليه إلَّا عالمُ الغيب والشَّهادة؟! وكثيراً ما يُظْهِر الرَّجلُ البِشْرَ لشيء يكرهه؛ لأمرٍ يُريده، ثمَّ ما كفَاه ذلك حتَّى لعن جميعَ أنصاره، وهذا أمر مُريع(54) ، وفعل شَنيع.
          والصَّواب ما بيَّناه أوَّلاً، والحقُّ ما نأتي به آخِراً، نقلاً عن الغزاليِّ حُجَّة الإسلام، في فتاواه بعبارته _كما نقله ابن خلِّكان، في ترجمة الكِيَا الهَرَّاسيِّ، قال(55)_: سُئل الغزاليُّ عمَّن صرَّح بِلَعْن يزيد، هل نحكم بفِسقه، أم هل يكون ذلك مرخَّصاً فيه؟ وهل كان يزيد مريداً قَتْلَ الحُسين؟ أم هل كان قَصْده الدَّفع؟ وهل يسوغ التَّرحُّم عليه، أم السُّكوت عنه أفضل؟ يُنعِم بإزالة الاشتباه مُثَاباً.
          هذه صورة الاستفتاء، فأجاب: لا يجوز لعنُ المسلم أصلاً، ومَن لعن مسلماً، فهو الملعون، وقد قال صلعم: «المُسلم ليس بلعَّان»(56) . وكيف يجوز لعن المسلم، ولا يجوز لعن البهائم؟! وقد ورد النَّهي عن ذلك، وحرمةُ المسلم أعظم من حرمة الكعبة، بنصِّ النَّبيِّ صلعم، ويزيدُ (صَحَّ) إسلامه، وما صَحَّ قتلُه الحسين، ولا أَمْرُه، ولا رِضَاهُ بذلك، ومهما لا يَصِحُّ ذلك منه لم يَجُزْ أن يُظَنَّ ذلك به، فإنَّ اشتباه(57) الظَّنِّ بالمسلم حرام، وقد قال تعالى: { اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ } [الحجرات:12] . وقال (النَّبيُّ) صلعم: «إنَّ الله حَرَّم من المسلم دَمَهُ ومالَه وعِرْضَه وأن لا يُظنَّ به ظَنُّ السَّوء»(58) . ومن زعم أنَّ يزيدَ أمر بقتل الحُسين ☺، أو رضيَ به، فينبغي أن / يعلَم أنَّه في غاية الحماقة، فإنَّ من قُتل من الأكابر والسَّلاطين والوزراء في عصره، لو أراد أن يعلَم حقيقة مَن الذي رضي بقتله، ومن الذي أمَر بقتله، ومن كرهه، لم يقدر على ذلك، وإن كان قد قُتل في جواره وزمانه، وهو يشاهده، فكيف بمَن(59) كان في بلد بعيد، وزمن بعيد قد انقضى؟! وقد تطرَّق [التَّعصيب في] التَّعصُّبِ في الواقعة، فكثرت فيه الأحاديث من كلِّ جانب، فهذا أمر لا يُعرف حقيقته أصلاً، وإذا لم يُعرَفْ وجب إحسانُ الظَّنِّ بكلِّ مسلم يمكن إحسانُ الظَّنِّ به، ومع هذا، لو ثبت على مسلم أنَّه قتل مسلماً، فمذهب أهل الحقِّ أنَّه لا يُكَفَّر، والقتل ليس بكفر، بل هو معصية، وإذا مات القاتل، فربَّما مات على توبة، والكافر لو تاب من كفره لم يجُز لعنُه، فكيف من تاب عن قَتْل؟! وبمَ يُعرف أنَّ قاتل الحسين مات قبل التوبة؟! وقد قال تعالى: { وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ } [الشورى:25] . فإذاً لا يجوز لعن أحد ممَّن تاب من المسلمين، ومَنْ لعنه كان فاسقاً (عاصياً لله تعالى)، ولو جاز لعنُه فسكت، لم يكن عاصياً بالإجماع، بل لو لم يلعن إبليسَ طولَ عمره، لا يقال له في القيامة: لِمَ لَمْ تلعن إبليس؟ ويقال للَّاعن: لِمَ لعنتَ؟ ومن أين عرفتَ أنَّه مطرود ملعون؟ والملعون: هو البعيد عن الله تعالى(60) ، وذلك غيب لا يُعرف إلَّا فيمن مات كافراً، فإنَّ ذلك عُلم بالشَّرع، وأمَّا التَّرحُّم عليه، فهو جائز مستحَبٌّ، بل هو داخل في قولنا في كلِّ صلاة: اللَّهمَّ اغفر للمؤمنين والمؤمنات. فإنَّه كان مؤمناً، والله تعالى أعلم. كتبه محمَّد الغزاليُّ. انتهى.
          قلت: هذا كلامه، وهذا هو الحقُّ الذي لا مَحِيْدَ عنه، وهو دِيْنِي الذي أَدِيْنُ الله به، وما سوى ذلك ضلال وباطل، فإيَّاك وإيَّاه.


[1] في (ن) تصحيفاً:(فنشبه).
[2] المعجم الكبير للطَّبرانيِّ:1/ 313 برقم: (926).
[3] في (س): (لستة) وهو خلاف القاعدة.
[4] أسد الغابة:2/26.
[5] المسند (1734)، وابن ماجه (1600)، بإسناد ضعيف جدًّا.
[6] مسند أبي يعلى (6781).
[7] معجم أبي يعلى رقم (196) ص171، وتاريخ مدينة دمشق:14/165.
[8] في (ن) تصحيفاً:(سمعت).
[9] التِّرمذي (3770)، وصحَّحه.
[10] أخرجه البخاريُّ (3753، 5994)، عن ابن أبي نُعمٍ أيضًا.
[11] المسند (17561)، والبخاري في الأدب المفرد (364)، والتِّرمذي (3775)، وابن ماجه (144).
[12] المسند (774)، والتِّرمذي (3779)، وصحَّحه.
[13] أسد الغابة:2/27، والحديث أخرجه البخاريُّ (3748).
[14] المسند (16988)، واللَّفظ هنا من أسد الغابة 2/28.
[15] جاء في الأصول: (تسعة عشر)، والصحيح ما أثبتناه.
[16] في (ن) تصحيفاً:(شمر بن أبي الجوشن).
[17] أسد الغابة 2/27- 28، والخبر مع الشِّعر فيه، وجاء في الأصول كلها: (خولي بن زيد) وهو تصحيف والمثبت من أسد الغابة وغيره.
[18] في غير (ن): (إليه).
[19] في غير (ن): (فصدفه).
[20] ما بين حاصرتين مستدرك من أسد الغابة:2/29.
[21] في غير (ن): (يستعبد).
[22] أسد الغابة:2/29، والأبيات أيضًا في تهذيب الكمال:6/447، وجاء في هامش أصل (هـ) ما نصه: الطَّفُّ: بفتح المهملة، اسم مكان بناحية الكوفة، من (صحاح).
[23] في الأصول تصحيفاً: (قبة) والتصويب من مصادر الترجمة، وجاء فيها التيميِّ لا الخزاعي، وجاء في (ن): (فلم أر) بدل (فلم أرها).
[24] شرح البخاريِّ:15/ 21.
[25] التِّرمذي (3771)، وقال: غريب.
[26] المسند (2165).
[27] في (ن) تصحيفاً: (عمارة بن عمر) وفيها (تصدَّت) بدل (نضدت).
[28] قوله (قد جاءت) في الموضعين غير مكررة في (ه).
[29] أسد الغابة:2/30، وانظر سنن التِّرمذي (3780).
[30] نفسه:2/ 28.
[31] الهداية والإرشاد:1/169-170.
[32] حديث منكر أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله:2/923.
[33] الترمذي: (3865) وقال: هذا حديث غريب.
[34] هذه الجملة مكررة في (ن).
[35] مسند أحمد (16803) والترمذي (3862) وقال: هذا حديث غريب.
[36] جامع معمر بن راشد (منشور كملحق بمصنف عبد الرزاق) (20710) 11/341 ورجاله ثقات.
[37] البخاري: (3673) ومسلم [56].
[38] في غير (ن): (لا ملجأ ولا منجى).
[39] البخاري (7352) ومسلم (1716) بلفظ «إذا حكم الحاكم فاجتهد..».
[40] شرح البخاريِّ:1/143.
[41] في (ن) تصحيفاً: (إذا).
[42] في (ن) تصحيفاً: (ولو تخيَّر).
[43] في غير (ن): (وأضرابه).
[44] في (ن): (ولا نكفِّره) والمثبت أليق بالسياق.
[45] في (ن): (المُضَلِّين).
[46] في (ن) تصحيفاً: (القنية).
[47] في غير (ن): (بالكفر).
[48] سقطت من (س) جملة: (أوْ لا، وهل يدخل بالكفر أوْ لا، والصحيح لا يخرجه من الإسلام).
[49] في الأصول: (من) والتصحيح لضرورة السياق.
[50] وفيات الأعيان:3/287.
[51] في (س) (بالفهد).
[52] في غير (ن): (وكتبه).
[53] انظر شرح العقائد النَّسفيَّة: ص103.
[54] في (ن): (بديع) والمثبت أولى.
[55] وفيات الأعيان:3/288، وكلام الغزالي مفصلاً في إحياء علوم الدين:3/123، في الآفة الثامنة: اللعن.
[56] أحمد (3839) والترمذي (1977) وقال: هذا حديث حسن غريب.
[57] في غير (ن): (إساءة).
[58] البيهقي في الكبرى (20794) 10/325.
[59] في (ن): (من).
[60] في (ن): (هو البعد من الله تعالى)، وفي (س): (هو المبعد من الله)، وهو موافق لما في مصدر النقل.