غاية المرام في رجال البخاري إلى سيد الأنام

حسان بن ثابت

          238 # حَسَّان بن ثابت _بالمثلَّثة والموحَّدة بعد الألف_ بن المُنذِر بن حَرَام بن عمرو، الخَزْرَجِيُّ، الصَّحابيُّ، الأنصاريُّ، أبو الوَليد، وأبو عبد الرَّحمن، وأبو الحُسَام، كُنِّي بذلك لمناضلته عن رسول الله صلعم وتقطيعِه(1) أعراضَ المشركين.
          وأمُّه الفُرَيْعَةُ(2) بنت خالد الأنصاريَّة.
          يقال له: شاعر رسول الله صلعم، ووصفت عائشةُ رسولَ الله صلعم فقالت: كان والله كما قال حَسَّانُ بن ثابت(3) ، وهو من البحر الطَّويل:
متى يَبْدُ في الدَّاجِي البَهِيْمِ جبينُه                     يَلُحْ مثلَ مِصْباحِ الدُّجَى المُتَوَقِّدِ
فمَنْ كان أو مَنْ ذا يكونُ كأحمدٍ                     نِظامٌ لِحَقٍّ أو نَكَالٌ لمُلْحِدِ
          وقد كان رسول الله صلعم يَنْصُبُ له منبراً في المسجد، يقوم عليه قائماً، يفاخر عن رسول الله صلعم، وهو يقول: «إنَّ الله يُؤيِّد حَسَّاناً بروح القُدُس ما نافَحَ عن رسول الله صلعم »(4) .
          ورُوي أنَّ الذين كانوا يَهجُون رسولَ الله صلعم من مُشرِكي قريش، كهُبَيْرة بن أبي وَهْب المَخْزُوميِّ، وأبي عَزَّةَ عَمرو بن عبد الله الجُمَحِيِّ، وأُميَّةَ بنِ أبي الصَّلْتِ، تكلَّموا بالكَذِب، وقالوا: نقول مثلَ ما يقول محمَّد. فقالوا / [الشِّعر] ، واجتمع عليهم الغُوَاةُ حين هَجَوا(5) النَّبيَّ صلعم، فأنزل الله تعالى: { وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ } [الشعراء:224] ، أيْ: الشَّياطين والسُّفهاء، ولذا قال النَّبيُّ صلعم: «لأَنْ يَمتلئ جوفُ أحدِكم قَيْحاً خيرٌ من أن يَمتلئ شِعراً»(6) . ثمَّ استثنى الله تعالى شعراءَ المسلمين الذين كانوا يُنافِحون عن رسول الله صلعم ويَهْجُون الكفَّار، كحَسَّان بن ثابت، وعبد الله بن رَوَاحَةَ(7) ، والكَعْبَيْنِ: كَعْب بن مالك، وكَعْب بن زُهير؛ حيث قال: { إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } الآية [الشعراء:227] .
          ورَوى كَعْبُ بن مالك: أنَّه قال للنَّبيِّ صلعم: قد أنزِل [الله] في الشُّعراء ما أنزِل. فقال النَّبيُّ صلعم: «إنَّ المؤْمنَ يُجاهِد بسَيفِه ولِسانه، والذي نفسي بيده، لكأنَّما تَرمُونَهم به نَضْحُ النَّبْلِ»(8) .
          عن البراء بن عازِب قال: قال رسولُ الله صلعم [لحسَّان] : «اُهْجُهُمْ _أو هَاجِهِمْ_ وجِبْريلُ معك»(9) .
          عن عائشة ♦: أنَّ رسول الله صلعم قال: «اهجُوا قريشاً؛ فإنَّه أَشدُّ عليهم من [رَشْقِ] النَّبْل». فأَرسَلَ إلى ابن رَوَاحة(10) ، فقال: «اُهْجُهم». فهجاهم، فلم يَرْضَ، فأرسَلَ إلى كَعْبِ بن مالك، فكذلك، ثمَّ أرسل إلى حَسَّان بن ثابت، [فلمَّا دخل عليه قال حسَّان: قد آنَ لكم أن تُرسلوا إلى هذا الأسد الضَّارب بِذَنَبه، ثمَّ أَدْلَعَ لسانه يُحَرِّكُه،] فقال: والذي بعثَك بالحقِّ، لأَفْرِيَنَّهم فَرْيَ الأَديم. فقال صلعم: «لا تَعجَلْ، فإنَّ أبا بكر أعلمُ قريشٍ بأَنسابها، وإنَّ لي فيهم نَسَباً، حتَّى يُخَلِّص لك نَسَبي». فأتاه حَسَّان، ثمَّ رجع، فقال: يا رسول الله! لقد تَخَلَّص لي نسبُك، والذي بعثك بالحقِّ، لأَسُلَّنَّكَ منهم، كما تُسَلُّ الشَّعرة من العجين. قالت عائشة: فسمعتُ رسول الله صلعم يقول: «هجَاهم حَّسَّان فشَفَى واشتَفَى». قال حَسَّان بن ثابت(11) ، من البحر الوافر:
هَجَوْتَ محمَّداً فأجبتُ عنهُ                     وعندَ الله في ذاك الجَزاءُ
هجوتَ محمَّداً بَرًّا حَنيفاً                     رسولَ الله شيمتُه الوفاءُ
فإنَّ أبي ووالدتي وعِرْضي                     لعِرْضِ محمَّدٍ منكم وِقَاءُ
ثَكِلْتُ بُنيَّتي إنْ لم تَرَوها                     تُثيرُ النَّقْعَ من كَنَفَيْ كَدَاءِ
تُبَارِينَ الأَعِنَّةَ مُصْعِداتٍ                     على أكتافها الأَسَلُ الظِّمَاءُ
تظلُّ جيادُنا مُتَمَطِّراتٍ                     تُلَطِّمُهُنَّ بالخُمُر النِّساءُ /
فإن أَعْرضْتُمُ عَنَّا اعتمرنا                     وكان الفتحُ وانكشَفَ الغِطَاءُ
وإلَّا فاصبروا لضِرَابِ يومٍ                     يُعِزُّ اللَّهُ فيهِ مَنْ يَشاءُ
وقال الله قد أرسلتُ عبداً                     يقول الحقَّ ليس به خَفَاءُ
وقال الله قد نَشَّرْتُ جُنْداً                     همُ الأنصارُ عُرْضَتُها اللِّقاءُ(12)
تلاقي كلَّ يومٍ من مَعَدٍّ                     سِبَابٌ أو قِتَالٌ أو هِجَاءُ(13)
فمَن يهجو رسولَ الله منكم                     ويمدحُه وينصُرُه سَواءُ
وجبريلٌ رسولُ الله فينا                     وروحُ القُدْسِ (ليس) له كِفَاءُ
          وقال قائل لعليِّ بن أبي طالب: اُهْجُ القومَ الذين يهجوننا. فقال: إنْ أَذِن رسولُ الله صلعم فعلتُ. فقال النَّبيُّ صلعم: «إنَّ عليًّا ليس عندَه ما يُرادُ من ذلك». ثمَّ قال: «ما يَمنع القومَ الذين نَصروا رسولَ الله بأَسيافهم أن ينصروه بأَلسِنَتهم؟!» فقال حَسَّان: أنا لها. وأخذ بطَرَف(14) لسانه، فقال صلعم: «كيف تهجوهم، وأنا منهم؟ وكيف تهجو أبا سفيان بن الحارث، وهو ابن عمِّي؟» فقال: يا رسول الله، لأَسُلَّنَّكَ منهم كما تُسَلُّ الشَّعرة من العجين. قال: «ائتِ أبا بكر، فإنَّه أعلم بأنساب القوم منك». فكان يمضي إلى أبي بكر ليَعرِف أنسابَهم، وكان يقول له: كُفَّ عن فلانة وفلان، واذكُرْ فلانة وفلاناً. فجعل يهجوهم، فلمَّا سمعت قريشٌ شعرَ حَسَّان قالوا: هذا شعر ما غاب عنه ابنُ أبي قُحَافَةَ.
          فمن قول حَسَّان في أبي سفيان بن الحارث، ثمَّ أَسلَم، من البحر الطَّويل، دخله الثَّلْم:
وإنَّ سَنامَ المجدِ من آل هاشمٍ                     بَنُو بنتِ مَخْزومٍ ووالدُكَ العَبدُ
ومَن وَلَدتْ أبناءُ زُهرةَ منهمُ                     كِرامٌ ولم يَقْرَبْ عجائزَك المجْدُ
ولستَ كعبَّاسٍ ولا كابنِ أمِّهِ                     ولكنْ لئيمٌ لا يُقامُ له زَنْدُ
وإنَّ امرَءاً كانت سُميَّةُ أُمَّهُ                     وسَمْراءُ مَغْمورٌ إذا بَلَغَ الجَهْدُ
          فلمَّا بلغ هذا الشِّعْرُ أبا سفيان قال: هذا شِعْرٌ لم يَغِبْ عنه ابن أبي قُحَافة.
          قال ابن الأثير(15) : يريد حَسَّانُ بقوله: «بنت مَخزوم»، فاطمةَ بنتَ عَمْرو بن عائذ(16) بن عِمْران بن مَخْزوم. أمُّ أبي طالب وعبد الله والزُّبير بني عبد المطَّلب، (وبقوله): «ومَن وَلَدت ابناءُ زُهرة منهم»، يعني: حمزة، وصفيَّة، أُمُّهما: هالةُ بنتُ وُهَيب بن عبد مَنَاف بن زُهْرةَ، وبقوله: «عبَّاس وابن أمَّه»، هو ضِرَار بن عبد المطَّلب، أُمهُّمَا: نُتَيْلَةُ(17) امرأة من النَّمِرِ بنِ قَاسطِ، وسُمَيَّة أُمُّ أبي سفيان، وسَمْراء / أُمُّ أبيه الحارث. انتهى.
          قال محمَّد بن سِيْرِيْنَ: انتُدِب لهجو المشركين ثلاثةٌ من الأنصار: حسَّانُ، وكَعْبُ بن مالك، وعبدُ الله بن رَوَاحة، فَكان حسَّان وكعب يعارضانهم مثلَ قولِهم، في الوقائع والمآثر، ويذكرون مثالبهَم، وكان عبد الله يعيِّرهم بالكفر، وبعبادة ما لا يَسْمع ولا ينفع، فكان قولُه أهونَ القول عليهم، فلمَّا أسلموا وفقِهوا، كان قولُ عبدِ الله أشدَّ القول عليهم.
          ونهى عمر ☺ عن إنشادِ شيء من مناقضةِ الأنصار ومشركي قريش، وقال: في ذلك شَتْمُ الحيِّ والميِّت، وتجديد الضَّغائن، وقد هدم الله تعالى أمرَ الجاهليَّة بما جاء من الإسلام.
          وعن أبي عُبيدة قال: فَضَلَ حسَّانُ الشُّعراءَ بثلاثٍ: كان شاعرَ الأنصار في الجاهليَّة، وشاعرَ النَّبيِّ صلعم في حياته، وشاعرَ اليمن كلِّها في الإسلام.
          قال أبو عُبيدة: اجتمعت العربُ على أنَّ أشعرَ أهل المَدَر أهلُ يَثْرِب، ثمَّ عبدُ القَيْس، ثمَّ ثَقِيْف، وعلى أنَّ أشعرَ أهلِ المَدَر حسَّان.
          قال الأَصْمَعيُّ: الشِّعرُ يَقْوَى في الشَّرِّ ويَسْهُل، فإذا دخل في الخير يَضْعُف؛ لأنَّ حسَّان كان من فحول الشُّعراء في الجاهليَّة، فلمَّا أَسلم سقط شِعْرُه.
          وقيل لحسَّان: لانَ شِعرُك وهَرِمَ، يا أبا الحُسام!؟ فقال: يا أخي، إنَّ الإسلام يحجُزُ عن الكَذِب.
          يعني: الإجادة في الشِّعر هو الإفراطُ في الذي يقوله، وهو كذب يمنع الإسلامُ منه، فلا يجيء الشِّعرُ جيِّداً.
          روى هشام بن(18) عُروة، عن أبيه: أنَّ رسولَ الله صلعم جَلَد الذين قالوا لعائشة ما قالوا ثمانينَ ثمانينَ، حسَّان بن ثابت، ومِسْطَح بن أُثَاثة، وحَمْنَة بنت جَحْش.
          قلت: هذا الحديث مُنقَطع؛ لأنَّ عُروة لم يَلقَ النَّبيَّ صلعم، كما سيجيء في ترجمته، ولهذا(19) أَنكَر قومٌ خَوْضَ حسَّان في الإِفك، وإقامةَ الجَلْد عليه، وقالوا: إنَّ عائشةَ كانت في الطَّواف، ومعها أمُّ حَكِيْم [بنت خالد بن العاص، وأمُّ حَكيم] بنتُ عبد الله بن أبي رَبيعة، فذكرتا حسَّاناً وسبَّتاه(20) ، فقالت عائشة: إنِّي لأرجو أن يُدخِلَه الله الجنَّةَ بذَبِّه عن رسول الله صلعم بلسانه، أليس هو القائل _ [الوافر]_:
فإنَّ أبي ووالدتي وعِرْضِي                     لعِرْض محمَّدٍ منكم وِقَاءُ؟!
          وبرَّأتْه / من أن يكون ممَّن افتَرى عليها، فقالتْ: أَلم يقل فيكِ؟ فقالت: لم يقلْ شيئاً، ولكنَّه قال _أيْ من البحر الطَّويل_:
حَصَانٌ رَزَانٌ ما تُزَنُّ بِرِيْبَةٍ                     وتُصبح غَرْثَى من لُحوم الغَوَافِلِ
فإنْ كان ما قد قِيْلَ عَنِّيَ قُلْتُهُ                     فلا رَفَعَتْ سَوْطِي إليَّ أَنَامِلِي
          قال ابن الأثير(21) : كان حسَّان من أجبنِ النَّاس، وأخوفِهم في الحرب، حتَّى إنَّ النَّبيَّ صلعم جعله مع النِّساء في الآطام يومَ الخندق.
          قالت صَفيَّةُ: كان معنا حسَّان في الحِصْن، مع النِّساء والصِّبيان، حين خَندَقَ النَّبيُّ صلعم، [قالت:] فمَرَّ بنا رجلٌ من يَهود، فجعل يُطيف بالحصن، قالت له صفيَّة: يا حسَّان، إنَّ هذا اليهوديَّ، كما ترى، يُطِيف بالحصن، ولا آمَنُه أن يَدُلَّ على عورتنا مَنْ وراءنا من اليهود، وقد شُغل المسلمون، فانزلْ إليه، واقتُلهْ. فقال: يغفر الله لكِ يا بنتَ عبد المطَّلب! لقد عرفتِ ما أنا بصاحبِ هذا. قالت: فلمَّا لم أَرَ عندَه شيئاً، احتجزتُ، وأخذت عموداً، فنزلت من الحصن إليه؛ فضربته بالعمود حتَّى قتلتُه، ثمَّ رجعت إلى الحصن، فقلت: يا حسَّان! انزِلْ إليه فاسلُبْه، فإنَّه يَمنعني من ذلك أنَّه رجل. فقال: ما لي بسَلَبِه(22) من حاجةٍ يا بنت عبد المطَّلب!
          قال ابن الأثير(23) : ولم يَشهد شيئاً من المشاهد؛ لجُبْنِه، ووهب له رسول الله صلعم سِيْرِيْنَ أختَ ماريَّة، فأولدها عبدَ الرَّحمن بن حسَّان، فهو وإبراهيمُ ابنُ رسول الله صلعم ابنا خالة.
          روى عبد الرَّحمن بن حسَّان، عن أبيه، قال: «لَعَن رسولُ الله صلعم زوَّاراتِ القبور»(24) .
          لم يختَلِفوا في عمره أنَّه عاش مئةً وعشرين سنةً، وأنَّ منها ستِّين في الإسلام، وستِّين في الجاهليَّة. قاله ابن الأثير(25) .
          [وقال:] وكذلك عاش أبوه ثابت، وجدُّه المنذر، وأبو جدِّه حَرَام، عاش كلُّ واحدٍ منهم مئةً وعشرين سنة.
          قال: ولا يُعرف في العرب أربعةٌ تناسَلَوا من صُلْبٍ واحدٍ عاش كلٌّ منهم هكذا.
          ومن الغرائب: ما ذَكَره كمال الدِّين الدَّمِيْريُّ في دِيَات(26) شرح المِنهاج(27) : أنَّ لسانَ حسَّان بن ثابت كان يَصِل إلى جَبهته وإلى منْخَره(28) ، وكذلك كان أبوه وجدُّه، وابنه عبد الرَّحمن، وكان يقول: واللهِ، لو وَضَعتُه على صخر لفَلَقه، أو شَعرٍ لحَلَقه.
          ومن العجائب أيضاً: ما رَوى سعيدُ بن عبد الرَّحمن بن حسَّان: أنَّه ذُكِرَ (عندَ) أَبِي عُمُرُ أَبيه / وأجدادِه، فاستلقَى على فراشِه وضحك، فمات وهو ابنُ ثمانٍ وأربعين سنةً.
          قال الكَلاباذيُّ(29) : روى عنه أبو سَلَمَةَ بنُ عبدِ الرَّحمن، روى عنه البخاريُّ بالواسطة، في كتاب الصَّلاة [خ¦453] ، والأدب [خ¦6150] .
          قال ابن حجر(30) : روى عنه البخاريُّ حديثاً واحداً.
          قال الواقديُّ: توفِّي في خلافة معاوية بن أبي سفيان.
          يعني بعدَ الأربعين، وقيل: توفِّي قبل الأربعين، في خلافة عليٍّ ☺. وقيل: مات بالمدينة، سنةَ خمسين. وقيل: أربع وخمسين.
          - فائدة:
          وممَّن عاش مئةً وعشرين سنةً، ستِّين في الإسلام، وستِّين في الكفر، جماعةٌ، منهم مَن يأتي ترجمته، ومنهم من لا يأتي [ترجمته] ، فمن ذلك: حَكِيْمُ بنُ حِزَام، وحسَّان المذكور، وحُوَيْطِبُ بنُ عبد العُزَّى، وسعيدُ بن يَرْبُوع، وحَمْنَنُ(31) بن عَوْف، ومَخْرَمةُ بن نَوْفَل، كلُّهم من قريش ما خلا حسَّاناً. ذكره العراقيُّ(32) .
          وزاد بعضُهم جماعةً آخَرين(33) ، منهم: نَوْفَلُ بن مُعاوية، والنَّابغةُ الجَعْدِيُّ، ولَبِيْدُ بنُ رَبِيعة، وأَوْسُ بنُ مَعْمَر السَّعْدِيُّ، ورُبَيْعُ بن ضُبَيْعٍ(34) الفَزَارِيُّ، ولكن منهم مَن عاش أكثر من ذلك، حتَّى قيل: إنَّ نابغةَ عاشَ أربع مئة سنة.
          ثمَّ اعلَمْ أنَّ معنى قولهم: ستُّون في الإسلام، أَيْ مِن حين ظهوره وانتشاره، لا من إسلام كلِّ واحدٍ منهم.
          - لطيفة:
          ذكر الزَّمَخْشَريُّ في تفسير قوله تعالى: { وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ } [الشعراء:224] ، والنَّسفيُّ في مداركه، وابنُ خَلِّكان في ترجمة الفَرَزْدق، واسمه هَمَّام، أو هُمَيْمُ، واللَّفظ لابن خَلِّكان(35) : أنَّ الفَرَزدق أنشدَ سُليمانَ بنَ عبدِ الملك قصيدةً ميميَّةً، فلمَّا انتهى منها _وهي من البحر الوافر_ إلى قوله:
ثلاثٌ واثنتان فهنَّ خمسٌ                     وسادسةٌ تَمِيْلُ إلى شِمَامِ
فَبِتْنَ بجَانِبَيَّ مُصَرَّعاتٍ                     وبتُّ أَفُضُّ أغلاقَ الخِتَامِ
كَأَنَّ مَفَالِقَ الرُّمَّانِ فيهِ                     وَجَمْرَ غَضَىً قَعَدْنَ عليه حامِ(36)
          فقال له سليمان: قد أقررتَ عندي بالزِّنا، وأنا إمام، ولا بدَّ من إقامة الحدِّ عليك. فقال الفَرزدق: من أين أوجبتَ يا أمير المؤمنين؟ قال: مِن قوله تعالى: { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا } الآية [النور:2] . قال الفرزدق: فإنَّ كتاب الله يدرؤه عنِّي، قال الله تعالى: { وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ* أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ* وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ } [الشعراء:224-226] ، فأنا قلتُ ما لم أَفعل. فتبسَّم سليمان، وقال: أَوْلَى لك، ما أظرفَك! /
          - مسألة:
          يُباح إنشاء الشِّعْرِ وإنشادُه؛ لأنَّه صلعم كان له شعراء يُصغي إليهم، وقد سمعتَ حَثَّه لذلك، وصنع(37) المنبر لحسَّان، وادَّعى ابن عبد البرِّ الإجماعَ على ذلك(38) .
          وفي حفظ دواوين العرب أبلغُ معونةٍ على دَرك أحكام(39) الكتاب والسُّنَّة، واللُّغة(40) والنَّحو، والمحسِّنات البديعيَّة، إلى غير ذلك، ولم يزل كانوا يستشهدون بأشعارهم.
          وقال الشَّيخ أبو إسحاق الشِّيرازيُّ: ما أَتَاني استشهادٌ في بيتٍ إلَّا حفظتُ القصيدةَ بتمامها.
          قال الشَّعبيُّ _كما نقل عنه مُحيي السُّنَّة في تفسير الآية المذكورة(41)_: كان أبو بكر يقول الشِّعر، وكان عمر يقول الشِّعر، وكان عليٌّ أشعرَ الثَّلاثة.
          ورُوي عن ابن عبَّاس: أنَّه كان يُنشِد الشِّعْرَ في المسجد، واستنشَدُه(42) ، فرُوي أنَّه دعا(43) عمرَ بن أبي رَبيعة المَخْزوميَّ، فاستنشَده (القصيدةَ) التي قالها _من البحر الطَّويل(44)_:
أَمِنْ آل نُعْمى أنت غادٍ فَمُبْكِرُ                     غَدَاةَ غَدٍ أمْ رائِحٌ فَمُهَجِّرُ
          فأَنشده القصيدةَ إلى آخرها، وهي قريب من سبعين بيتاً، ثمَّ إنَّ ابن عبَّاس أعاد القصيدة جميعَها، وكان حفظها بمرَّةٍ واحدة. قاله البَغَوِيُّ.
          وفي الحديث: «الشِّعْرُ كلامٌ، حَسَنُهُ حَسَنٌ، وقَبِيْحُهُ(45) قبيح». رواه الشَّافعيُّ مرسَلاً(46) .
          قال البخاريُّ في صحيحه، من حديث أُبيِّ بنِ كَعْب: «إنَّ من الشِّعر حكمةً» [خ¦6145] .
          وأمَّا قوله: «لأن يمتلئَ جَوْفُ أحدكم... » الحديث(47) ، كما مَرَّ، والآية المذكورة، (وغيرهما)، ممَّا يدلُّ على تهجين الشُّعراء ومتَّبعيهم ومبتغيهم، فالمرادُ: أن يَمتلئ شعراً فلا يَشتَغل بعِلمٍ سواه، ولا يذكر غيرَه. قاله البَيهقيُّ(48) وابن حزم.
          قال ابن المُلَقِّن: وهو أصحُّ ما قيل فيه.
          أو المرادُ بالشِّعر الهَجوُ، وبالشُّعراء(49) الذين (إذا) قالوا كذَبوا، وإذا عِيبُوا سَبُّوا.
          قال المَاوَرْديُّ(50) : الشِّعر ثلاثة أقسام: مستحبٌّ، ومباح، ومحظور، فالمستحبُّ: ما رغَّب في الآخرة، أو حثَّ على مكارم الأخلاق، والمباح: ما سَلِمَ من فُحش، وكذب، وهو نوعان: ما جلب نفعاً، أو دفع ضرًّا، والمحظور: ما فيه كذب أو فحش، وهو جرحٌ في قائله ومُنشِدِه إنْ حكاه [إخباراً، فإن حكاه] إنكاراً فلا.
          قال الرَّافعيُّ: ومِن المكروه: أشعارُ المولَّدين في الغزَل والبَطَالة.
          - تنبيه:
          يَحرُم هَجوُ المسلمِ في شِعره صادقاً كان أو كاذباً، وتُرَدُّ(51) به الشَّهادة، وليس إِثمُ حاكي الهجوِ مثل إثم منشئه.
          قال الرَّافعيُّ(52) : ويُشبه أن يكون التَّعريض هجواً كالتَّصريح، وقد يزيد بعضُ(53) التَّعريض على التَّصريح، لكن قال ابن (كَجٍّ): ليس التَّعريض هجواً.
          - خاتمة:
          لو كان يَمدَحُ، نُظِرَ: إن أمكَنَ حَملُه على ضَرب مبالغةٍ، / جاز، بل ذهَب بعضُهم إلى أنَّ المبالغةَ أَحسنُ، وعكَس بعضُهم، وفصَّل الباقون بين أن يُفضي إلى الخروج من الإمكان إلى الاستحالة أو لا، فإن لم يُمكِن حَملُه على نوع من المبالغة، فالصَّحيح وظاهرُ النَّصِّ أنَّه كَذِب(54) كسائر أنواع الكذب، حتَّى تُردُّ شهادتُه إن أكثر.
          وقال القَفَّالُ، والصَّيْدَلانيُّ: لا يُلحَق بالكذب؛ لأنَّ الكاذب يوهم الكذبَ صِدقاً، بخلاف الشَّاعر.
          قال الرَّافعيُّ(55) : هذا حَسَن بالغ.
          وقد قيل: أعذَبُه أكذبُه.


[1] في (ن) تصحيفاً: (وبقطيعة).
[2] في (ن) تصحيفاً: (الفرمعة).
[3] الأبيات مع الخبر في أسد الغابة:2/7، وهي في ديوانه: (101).
[4] المسند (24437)، وأبو داود (5015)، والتِّرمذي (2846)، وقال: حسن صحيح غريب.
[5] في (ن) (واجتمع عليه الغواة حتى هجوا).
[6] البخاري (6154)، ومسلم (2257-2259).
[7] في (ن): (وعبد الله بن أبي رواحة).
[8] المسند (27174)، وصحيح ابن حبَّان (5786).
[9] البخاري (3213)، ومسلم (2486).
[10] في (ن) (ابن أبي رواحة) وجاء في غيرها (اهجُ).
[11] الأبيات مع الخبر في صحيح مسلم، برقم (2490).
[12] في (ن) تصحيفاً: (الاتقاء).
[13] كذا الرواية عندنا: (سبابٌ أو قتالٌ أو هجاءُ) الشطر كله مرفوع، وحقه من حيث الصناعة النصب، وفي رواية مسلم:
~لنا في كل يوم من معد سبابٌ
[14] في (ن) (يظرف).
[15] الخبر كاملاً مع الأبيات في أسد الغابة:2/8، وفي ترجمة حسان، وديوانه:123، 124.
[16] في (ن): (عمرو بن عامر).
[17] في (ن): (بثيلة).
[18] في غير (ن) تصحفت إلى (عن).
[19] في غير (ن): (ولذا).
[20] في (ن): (فذكرنا حسان وسببناه).
[21] أسد الغابة:2/10، والشعر فيه مع الخبر الذي قَبله، وما بين الحاصرتين مستدرك منه.
[22] في (ن): (ما لي من سلبه).
[23] أسد الغابة:2/10.
[24] المسند (15657)، وابن ماجه (1574).
[25] أسد الغابة:2/11.
[26] في (ن): (زيادة).
[27] النَّجم الوهَّاج:8/ 492.
[28] في غير (ن): (نحره).
[29] الهداية والإرشاد:1/184.
[30] مقدمة الفتح: ص474.
[31] في (ن): تصحيفاً: (وحمير).
[32] شرح التَّبصرة والتَّذكرة:2/ 309-315.
[33] في (ن): (آخر).
[34] في (ن): (منيع)، وفي (س): (سبيع)، وفي (هـ): (تبيع)، وكلُّه تصحيف، والمثبت هو الملائم للرَّسم، وانظر كتاب المعمَّرين لأبي حاتم السجستاني: ص6، والإكمال:4/ 18. و وأوس بن معمر السعدي، لم أجد له ترجمة، فلعله مصحف.
[35] انظر الكشَّاف:3/ 348، وتفسير النَّسفيِّ:2/ 494، ووفيات الأعيان 6/94.
[36] في (ن): (كأن مغالق الزمان فيه.. وحمر غضى قعدن عليه حامي).
[37] في غير (ن): (حتى وضع).
[38] في غير (ن): (عليه).
[39] في غير (ن): (الأحكام).
[40] في (ن) تصحيفاً: (اللغو).
[41] انظر تفسير البغوي:6/138-139.
[42] في غير (ن): (ويستنشده).
[43] في (ن) تصحيفاً: (ادعى).
[44] في غير (ن): (البسيط).
[45] في (ن): (وقبحه).
[46] الأم:6/207، وذكَره من كلامه لا مُسنَدًا، وقد أخرجه البيقهي في السنن الكبير:5/ 68، من طريق الشَّافعيِّ، بإسناده إلى عروة بن الزُّبير، عن النَّبيِّ صلعم، وقال: وهذا منقطع. وأخرجه أبو يعلى في مسنده:8/ 200 برقم (4760) موصولًا، وقال محققه: إسناده حسن.
[47] البخاري (6154)، ومسلم (2257-2259).
[48] انظر معرفة السُّنن والآثار:14/ 341، والسُّنن الصَّغير:9/ 215، نقلًا عن أبي عُبيد القاسم بن سلَّام.
[49] في غير (ن): (والشعراء).
[50] الحاوي الكبير:17/209.
[51] في (ن): (ترد) بدون واو العطف.
[52] الشَّرح الكبير:13/ 17، نقلًا عن الرُّوْيانيِّ.
[53] في (ن): (مضض).
[54] في (ن): (فالصحيح ظاهر النص كذب).
[55] نفسه:13/ 18.