الجمع بين الصحيحين للحميدي مع تعقبات الضياء المقدسي

حديث: ألم تري أن قومك حين بنوا الكعبة

          3169- التَّاسع عشرَ: عن [سالم](1) عن عبد الله بنِ محمَّدِ بن عبد الرحمن بن أبي بكرٍ الصديق _ويُعرف بأبي بكرِ بن أبي عَتيق_ أنَّه أَخبر عبد الله بنَ عمرَ عن عائشَةَ زوجِ النَّبي: أنَّ النَّبيَّ قال لها: «ألم تَرَي أنَّ قومَك حين بَنَوا الكعبةَ اقتصروا عن(2) قواعدِ إبراهيمَ؟ فقلت: يا رسولَ الله؛ ألا تَردُّها على قواعدِ إبراهيمَ؟ فقال رسول الله: لولا حِدْثانُ(3) قومِك بالكفر لفعلتُ».
          فقال عبد الله بنُ عمرَ: لئنْ كانت عائشةُ سمعت هذا من رسول الله ما أُرى أنَّ رسول الله تركَ استلامَ الرُّكنينِ اللَّذين يَليانِ الحِجْرَ، إلَّا أنَّ البيتَ لم يُتمَّم(4) على قواعدِ إبراهيمَ. [خ¦1583]
          وفي حديث بُكيرِ بن الأشجِّ عن نافع إنَّها قالت: سمعتُ رسول الله يقول: «لولا أنَّ قومَك حديثُو عهدٍ بجاهلية _أو قال: بكفر_ لأَنفقتُ كنزَ الكعبة في / سبيل الله، ولجعلتُ بابَها بالأرض، ولأدخلتُ فيها من الحِجْر».
          وأخرجاه من حديث هشامِ بن عروَةَ عن أبيه عن عائشَةَ قالت: قال لي رسول الله: «لولا حَداثةُ عهدِ قومِك بالكفر لَنقَضتُ الكعبةَ، ثم لبنَيتُه على أساسِ إبراهيمَ، فإنَّ قريشاً استَقصرتْ بناءَه وجعَلتْ له خلفاً». قال هشامٌ: يعني باباً. [خ¦1585]
          وأخرجاه من حديث الأسودِ بن يزيدَ عن عائشَةَ قالت: «سألتُ النَّبيَّ عن الجَدْر(5) أمِنَ(6) البيتِ هو؟ قال: نعم. قلت: فما لهم لم(7) يُدخلوه في البيت؟ قال: إنَّ قومَك قَصَّرتْ بهم النفقةُ. قلت: فما شأنُ بابِه مُرتفعاً؟ قال: فعَل ذلك قومُك ليُدخلوا مَن شاؤوا ويمنعُوا من شاؤوا، ولولا أنَّ قومَك حديثٌ عَهدُهم بالجاهليَّة، فأخافُ أن تُنكِرَ قلوبُهم أن أُدخلَ الجَدْرَ في البيت وأن أُلصِق بابَه بالأرض(8)». [خ¦1584]
          وفي حديث شَيبانَ عن أشعثَ بنِ أبي الشَّعثاء: قالت: «سألتُ رسول الله عن الحِجْر...» وذكَره بمعناه، وفيه: فقلت: «ما شأنُ بابِه مرتفعاً لا يُصعد / إليه إلَّا بسُلَّم؟»، وفيه: «مخافةَ أن تَنْفِر قلوبُهم».
          وفي حديث عبيد الله بنِ موسى عن إسرائيلَ عن أبي إسحاقَ أنَّ الأسودَ قال: قال لي ابنُ الزُّبير: كانت عائشةُ تُسِرُّ إليك كثيراً، فما حدَّثَتْك في الكعبة؟ قلت: قالت لي: قال النَّبيُّ: «يا عائشةُ؛ لولا أنَّ قومَك حديثٌ عهدُهم _قال ابنُ الزُّبير: بكُفرٍ_ لَنقضتُ الكعبةَ فجعلتُ لها بابين، بابٌ يدخلُ النَّاسُ منه، وبابٌ يخرجون». ففعله ابنُ الزُّبير. [خ¦126]
          وأخرجه البخاريُّ من حديث أبي رَوْح يزيدَ بنِ رُومانَ عن عُروَةَ عن عائشَةَ: أنَّ النَّبيَّ قال لها: «يا عائشةُ؛ لولا أنَّ قومَك حديثُ عهدٍ بجاهلية لأمَرتُ بالبيت فهُدِم، فأدخَلت فيه ما أخرِجَ منه، وألزقتُه بالأرض، وجَعَلت له بابَين: باباً شرقيَّاً، وباباً غربيَّاً، فبلَغتُ به أساسَ إبراهيمَ».
          فذلك الَّذي حمل ابنَ الزُّبيرِ على هَدمِه، قال يزيدُ: وشهِدت ابنَ الزُّبير حين هدمَه وبناه وأدخَل فيه من الحِجْر، وقد رأيتُ أساسَ إبراهيمَ __ حجارةً كأسنِمةِ الإبلِ.
          قال جريرُ بن حازمٍ: فقلتُ له _يعني ليزيد بنِ رُومان_ : أين موضعُه؟ فقال: أُرِيكَه الآنَ، فدخلتُ معه الحِجْر فأشار إلى مكانٍ، فقال: ها هنا، قال جريرُ: فحَزَرْتُ من الحِجْر ستَّةَ(9) أذرُعٍ أو نحوَها. [خ¦1586]
          وأخرجه مسلمٌ من حديث سعيدِ بنِ مِيناءَ قال: سمعتُ عبد الله بنَ الزُّبير / يقول: حدثَتْني خالَتي _يعني عائشةَ_ قالت: قال رسول الله(10) : «يا عائشةُ؛ لولا أنَّ قومَكِ حديثُو عهدٍ بشركٍ لَهدمتُ الكعبةَ فألزَقتُها بالأرض، وجعَلتُ لها بابَين: باباً شرقيَّاً، وباباً غربيَّاً، وزدتُ فيها ستَّةَ أذْرعٍ من الحِجْر، فإنَّ قريشاً اقتَصرتْها حيث بَنَتِ الكعبةَ».
          ومن حديث عطاءِ بن أبي رباحٍ _بأطولَ من هذا_ قال: لمَّا احترقَ البيتُ زمَن يزيدَ بنِ معاويةَ حين غزاها أهلُ الشَّام، فكان من أمره ما كان، تركَه ابنُ الزُّبير حتى قدِم النَّاسُ الموسمَ، يريد أن يُجرِّئَهم _أو يُحرِّبَهم(11)_ على أهلِ الشَّام، فلمَّا صدَر الناسُ قال: يا أيُّها النَّاسُ؛ أشيروا عليَّ في الكعبة، أَأَنقُضُها ثم أبني بناءَها، أو أُصلح ما وَهَى منها؟.
          قال ابنُ عبَّاسٍ: فإنِّي قد فُرِق(12) لي رأيٌ فيها، أرى أن تُصلِح ما وَهَى منها، وتدَعَ بيتاً أسلمَ الناسُ عليه، وأحجاراً أسلم النَّاسُ عليها، وبُعِث عليها النَّبيُّ.
          فقال ابنُ الزُّبير: لو كان أحدُكم احترَق بيتُه ما رضِيَ حتى يُجِدَّه، فكيف بيتُ ربِّكم؟ إني مستخيرٌ ربِّي ثلاثاً ثم عازمٌ على أَمرِي.
          فلما مضى الثَّلاثُ أجمَع رأيَه على أن يَنْقُضَها، فتَحاماه الناسُ(13) أن يَنزِل / بأوَّلِ الناس، يَصعَد فيه أمرٌ من السَّماء، حتى(14) صَعِده رجلٌ، فألقى منه حجارةً، فلما لم يَرَه النَّاسُ أصابَه شيءٌ تتابعوا، فنَقضُوه حتى بلغوا به الأرض، فجعَل ابن الزُّبير أعمدةً، فسَتَّر عليها السُّتورَ حتى ارتفع بناؤه.
          وقال ابن الزُّبير: إنِّي سمعت عائشةَ تقول: إنَّ النَّبيَّ قال: «لولا أنَّ النَّاسَ حديثٌ عهدُهم بكفر، وليس عندي من النَّفقة ما يُقَوِّي على بنيانه، لكنت أدخَلت فيه من الحِجْر خمسَ أذرعٍ(15)، ولجعلتُ له باباً يدخُل الناسُ منه، وباباً يُخرَجُ منه».
          قال: فأنا اليومَ أجدُ ما أُنفق، ولست أخاف الناسَ، قال: فزاد فيه خمسَ أذرعٍٍ من الحِجْر، حتى أبدى أُسَّاً(16) نظر النَّاس إليه، فبَنى عليه(17) البناءَ، وكان طولُ الكعبة ثمانيةَ عشرَ ذراعاً، فلما زاد فيه استَقصرَه، فزاد في طوله عشرة أذرع، وجعَل له بابين أحدهما يُدخَل منه والآخر يُخرَج منه.
          فلما قُتل ابنُ الزُّبير كتب الحجَّاجُ إلى عبد الملك بنِ مروان يُخبره بذلك، ويخبرُه أنَّ ابنَ الزُّبير قد وضَع البناءَ على أسٍّ، نظَر إليه العدولُ من أهلِ مكَّةَ، فكتَب إليه عبدُ الملك: إنَّا لسنا من تلطيخِ ابن الزُّبير في شيءٍ، أمَّا ما زاد في طوله فأَقِرَّه، وأمَّا ما زاد فيه من الحِجْر فرُدَّه إلى بنائه، وسُدَّ البابَ الذي فتحه، فنقضَه وأعاده إلى بنائه. /
          ومن حديث عبد الله بن عُبيد بن عُميرٍ والوليدِ بن عطاءٍ عن الحارثِ بن عبد الله بنِ أبي ربيعةَ، قال عبد الله بن عبيد: وفَد الحارثُ على عبد الملكِ بن مروانَ في خلافته، فقال: ما أظنُّ أبا خُبيبٍ _يعني ابنَ الزُّبير_ سمع من عائشةَ ما كان يزعم أنَّه سمعه منها، قال الحارث: بلى! أنا سمِعتُه منها، قال: سمعتَها تقول ماذا؟.
          قال: قالت: قال(18) رسول الله: «إنَّ قومَكِ استَقصرُوا من بُنيانِ البيت(19)، ولولا حِدثانُ عهدِهم بالشِّرك أعدتُ ما تركوا منه(20)، فإن بدا لقومِك من بعدي أن يبنوه فهلُمِّي لأُريَك ما تركوا منه. فأَراها قريباً من سبعةِ أذرع».
          هذا حديثُ عبد الله بن عُبيد، وزاد عليه الوليدُ بن عطاء: قال النَّبيُّ: «ولَجعلتُ لها بابين موضوعين في الأرض شرقيَّاً وغربيَّاً، وهل تدرِين لم كان قومُك رفعوا بابَها؟ قالت: قلت لا، قال: تَعزُّزاً؛ ألا يدخلَها إلَّا من أرادوا، فكان الرَّجلُ إذا هو أراد أن يدخلَها يدعوه يرتقي حتى إذا كاد أن يدخُل دفعوه فسَقَط».
          قال عبدُ الملك للحارثِ: أنت سمعتَها تقول هذا؟ قال: نعم، قال: فنَكَتَ ساعةً بعَصاه ثم قال: ودِدتُ أنِّي تركتُه وما تحمَّل.
          ومن حديث حاتِمِ بن أبي صَغيرةَ عن أبي قَزَعةَ: أنَّ عبدَ الملك بن مَروانَ بينما هو يطوفُ بالبيت إذ قال: قاتل الله ابنَ الزُّبير! حيث يكذبُ على أمِّ المؤمنين، يقول: سمعتُها تقول: قال رسول الله: «يا عائشةُ؛ لولا حِدثانُ / قومِك بالكفر لنقضتُ البيتَ حتى أزيدَ فيه من الحِجْر، فإنَّ قومَك قصَّروا في البناء».
          فقال الحارث بن عبد الله بن أبي رَبيعةَ: لا تقل هذا يا أميرَ المؤمنين! فأنا سمعتُ أمَّ المؤمنين تحدِّث هذا، قال: لو كنتُ سمعتُه قبل أن أهدمَه لتركتُه على ما بنى ابنُ الزُّبير (21).


[1] وقع في الأصول: (نافعٍ)! وهو خطأ.
[2] في (ظ): (على)، وما أثبتناه موافق لما في «الصحيحين».
[3] بكسر الحاء.(هامش ابن الصلاح).
[4] في هامش (ابن الصلاح): (سع: لم يَتِمَّ).
[5] الجَدْرُ: أصل الحائط، وفي حديث بُنيان الكعبة ما يدل على أنه عَنَى بالجَدْر هنالك الحجرَ لما فيه من أصول الحيطان، والله أعلم.(ابن الصلاح نحوه).
[6] في (ت): (عن الجدار من) وهو خطأ!.
[7] سقط قوله: (لم) من (ت)، وما أثبتناه موافق لما في الصحيحين.
[8] كذا وقع محذوفَ جوابِ (لولا)، وتقديره: (لفعلت)، ولذلك استشكله في (ابن الصلاح).
[9] أشار في (ابن الصلاح) إلى اختلاف الروايات في عدد الأذرع، وقال ابن حجر: اجتمعت الروايات الصحيحة على أنها فوق الستة ودون السبعة.«فتح الباري» 3443.
[10] في هامش (ابن الصلاح): (سع: النبي).
[11] أراد أن يُحرِّبَهم: أي؛ أراد أن يزيد جُرأتهم عليهم، وعلى مطالبِتهم باستحلالهم حرق الكعبة، أو يُحربهم: أي؛ أن يزيد في غضبهم، يقال: حَرِب الرجل إذا غضب، وحرَّبتُه أنا: إذا حرشتُه وسلَّطتُه، وعرَّفتُه بما يغضب منه.(ابن الصلاح نحوه).
[12] الفَرَقُ: الفَزع والتخُّوف.(ابن الصلاح نحوه، مع بيان خطإ الحميدي في ضبطه هذا)، وقد أنكر المحققون على الحميدي ضبطه بفتح الفاء وغلَّطوه فيه، وصَحَّح ضبطها بضمِّ الفاء وكسر الراء؛ بمعنى: كُشِفَ وبُيِّنَ.انظر «فتح الباري» 992.
[13] فتحاماه الناس: أي تجنبوه، لم يتجاسَروا عليه.(ابن الصلاح).
[14] في (ت): (ثمَّ)، وما أثبتناه موافق لما في مسلم.
[15] في الذراع لغتان مشهورتان، التانيثُ والتذكير، والتأنيث أفصحُهما.انظر «شرح مسلم» للنووي 991.
[16] الأُسُّ: الأصل والقاعدة التي تستقر السماءُ عليها.
[17] في (ت): (على)، وما أثبتناه موافق لما في مسلم.
[18] في (ت): (قال: لي)، وما أثبتناه موافق لما عند مسلم.
[19] في (ظ): (الكعبة)، وما أثبتناه موافق لما عند مسلم.
[20] في هامش (ابن الصلاح): (سع: منها).
[21] في هامش (ظ): (آخر الجزء الخامس والخمسين)، وفي هامش (ابن الصلاح): (بلغوا سماعاً في المجلس الرابع عشر).