الجمع بين الصحيحين للحميدي مع تعقبات الضياء المقدسي

حديث: هل تمارون في القمر ليلة البدر ليس

          2228- السِّتُّون: عن الزهريِّ قال: أخبرَني سعيدُ بن المسيَّب وعطاءُ بن يزيدَ اللَّيثيُّ: «أنَّ أبا هريرةَ أخبرهما: أنَّ النَّاسَ قالوا: يا رسولَ الله؛ هل نرى ربَّنا يومَ القيامة؟ قال: هل تُمارُون(1) في القمرِ ليلةَ البدرِ ليس دونَه سحابٌ؟ قالوا: لا / يا رسول الله، قال: فهل تُمارُون في الشَّمسِ ليس دونَها سحابٌ؟ قالوا: لا، قال: فإنَّكم ترونَه كذلك، يُحشرُ النَّاسُ يومَ القيامةِ فيقول: مَن كانَ يعبدُ شيئاً فليتَّبِعْ، فمنهم من يتَّبعُ الشَّمسَ، ومنهم من يتَّبعُ القمرَ، ومنهم من يتَّبعُ الطَّواغيتَ(2)، وتبقى هذه الأمَّةُ فيها منافِقوها، فيأتِيهمُ اللهُ فيقول: أنا ربُّكم، فيقولون: هذا مكانُنا حتَّى يأتيَنا ربُّنا، فإذا جاء ربُّنا عرَفْناه، فيأتِيهمُ الله فيقول: أنا ربُّكم، فيقولون: أنتَ ربُّنا! فيدْعوهم ويُضرَبُ الصِّراط(3) بين ظَهرانَي جهنَّمَ(4)، فأكونُ أوَّلَ من يجوزُ من الرُّسل بأمَّته، ولا يتكلَّمُ يومئذٍ أحدٌ إلَّا الرُّسلُ، وكلامُ الرُّسلِ يومئذٍ: اللَّهمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ، وفي جهنَّمَ كلاليبُ(5) مثلُ شَوكِ السَّعْدانِ، هل رأيتم شوكَ السَّعدان؟ قالوا: نعم، قال: فإنَّها مثلُ شَوكِ السَّعدان، غير أنَّه لا يعلمُ قدْرَ عِظَمِها / إلَّا اللهُ، تخطَفُ(6) النَّاسَ بأعمالهم، فمنهم من يُوثَق بعملِه(7)، ومنهم من يُخَردَلُ ثمَّ ينجو(8)، حتَّى إذا أراد اللهُ رحمةَ من أراد من أهل النَّار أمرَ الملائكةَ أن يُخرِجوا مَن كان يعبدُ الله، فيُخرِجونَهم، ويعرِفونَهم بآثار السُّجود، وحرَّم الله على النَّار أن تأكلَ أثرَ السُّجود، فيخرُجون من النَّار وقد امْتُحِشُوا(9)، فيُصَبُّ عليهم ماءُ الحياة(10)، فينبُتونَ كما تنبُتُ الحِبَّة(11) في حَميلِ السَّيل(12)، ثمَّ يفرُغ الله من القصاصِ بين العبادِ، ويبقى رجلٌ بين الجنَّة والنَّار، وهو آخرُ أهلِ النَّار دخولاً الجنَّةَ، مُقبِلٌ بوجهِه قِبَلَ النَّار، فيقول: يا ربِّ؛ اصرِفْ وجهي عن النَّار، قد / قشبني ريحُها(13)، وأحرقَني ذَكاؤها(14). فيقول: هل عسَيتَ إنْ أفعلْ ذلك أن تسألَ غيرَ ذلك؟ فيقول: لا وعزَّتِك، فيُعطِي اللهَ ما شاء من عهدٍ وميثاقٍ، فيصرِفُ الله وجهَه عن النَّار، فإذا أقبَل به على الجنَّة رأى بَهجتَها(15)، سكتَ ما شاءَ اللهُ أن يسكُتَ، ثمَّ قال: يا ربِّ قدِّمني عندَ باب الجنَّة! فيقول الله له: أليسَ قد أعطيتَ العهودَ والميثاقَ ألَّا تسألَ غيرَ الَّذي كنتَ سألتَ؟! فيقول: يا ربِّ؛ لا أكون أشقى خلقِكَ، فيقول: فما عسَيتَ إن أُعْطيتَ ذلكَ أن تسألَ غيرَه؟ فيقول: لا وعزَّتك؛ لا أسألُكَ غيرَ هذا، فيعطِي ربَّه ما شاءَ من عهدٍ وميثاقٍ، فيقدِّمُه إلى بابِ الجنَّة، فإذا بلغ بابَها فرأى زهرَتَها(16) وما فيها من النَّضرةِ(17) والسُّرورِ».
          وفي حديث إبراهيمَ بن سعدٍ: «فإذا قام إلى بابِ الجنَّة انفَهقَتْ له الجنَّة(18)، فرأى ما فيها من الحَبْرَةِ(19) والسُّرور، فسكت ما شاء الله أن يسكُتَ، فيقول: يا ربِّ أدخِلْني الجنَّةَ! فيقول الله: ويحَك يا بن آدمَ ما أغدرَكَ! أليسَ قد أعطيتَ العهودَ ألَّا تسألَ غيرَ الَّذي أُعطيتَ؟! فيقول: يا ربِّ؛ لا تجعلني أشقى خلقِك، فيضحكُ الله منه، ثمَّ يأذَنُ له في دخولِ الجنَّة، فيقول: تَمَنَّ، فيتمنَّى حتَّى إذا انقطعت أمنيتُه، قال الله: تَمَنَّ مِن كذا وكذا / _يذكِّرُه ربُّه_ حتَّى إذا انتهت به الأمانيُّ قال الله: لك ذلك ومثلَه معَه». [خ¦806]
          قال أبو سعيدٍ الخدريِّ لأبي هريرةَ: إنَّ رسولَ الله صلعم قال: «قال الله: لك ذلك وعشرةُ أمثالِه». قال أبو هريرةَ: لم أحفَظْ من رسول الله صلعم إلَّا قولَه: «لك ذلك ومثلُه معَه». قال أبو سعيدٍ: إنِّي سِمعتُه يقول: «لك ذلك وعشرةُ أمثالِه». [خ¦806]
          وأخرجاه من حديث إبراهيمَ بن سعدٍ عن الزهريِّ عن عطاءِ بن يزيدَ وحدَه عن أبي هريرةَ بنحو ما تقدَّم عنهما. [خ¦7437]
          وذكر أبو مسعودٍ أنَّ مسلماً أخرجَه في كتاب الإيمانِ من حديث إسماعيلَ بن جعفرٍ عن سهيلٍ عن أبيه عن أبي هريرةَ مسنداً.


[1] المِراءُ والمُماراةُ: الجِدالُ، والمراء أيضاً من الامتِراء وهو الشَّكُّ، قال ابن الأنباري: وأصله في اللغة الجدال، وهو استخراجُ الرجل من مُناظرِه كلاماً ومعانيَ من خصومةٍ أو غيرها، من قولك: مرأتُ الشاةَ: أي حلبتها واستخرجتُ لبنَها، فمن روى تُمارون، جعله من المراء، أي هل يخالفُ بعضكم بعضاً في القمر ليلة البدر، ومن روى: تَمارون بمعنى تتمارون، فيكون بمعنى تشكُّون في ذلك.
[2] الطَّاغُوت: الصَّنَم، وقال أبو حاتِم: العرب تجعل الطَّاغوت واحداً وجمعاً، وفي التنزيل في التأنيث {اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا} [الزمر:17] ، وفي التذكير {وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ} [النساء:60] وجمعه طواغيتٌ، وفي الحديث الصحيح: «ومنهم من يتَّبع الطواغيت» وكل متجاوزِ الحدِّ في عصيانه أو العصيان به إذا جاوز ما جرت العادةُ به فإنه يُسمَّى باسم مأخوذ من الطغيان، يقال: طغى طُغياناً فهو طاغٍ، ويقال: طغى السيل: إذا جاء بماء كثيرٍ تجاوز بما جرت العادةُ به، وطغى البحر: هاجت أمواجه كذلك، وطغى الدم: تبيَّغ وثار، وقال الخليل: الطُّغوان والطَّغوان أيضاً لغة، والفعل طغَيت وطغَوت، ومن ذلك قوله: {فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} [الحاقة:5] بالذنوب العظيمة التي تجاوزُ الحدَّ فيها، وأفرطوا في المبالغة بها و{كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا} [الشمس:11] أي بظلمها المفرِط.
[3] الصِّراط: الطَّريق.
[4] ويُضرَب الصِّراطُ بين ظهرانَي جهنَّمَ: أي على وسطِها، يقال: نزل بين ظهرَيهم وظهرانَيهم بفتح النون، أي نزل في وسطهم وتمكُّناً بينهم لا في أطرافهم، ولا يقال: ظهرانِيهم بكسر النون أصلاً.
[5] الكَلاليبُ: جمع كَلُّوب، وهو محدَّد الطَّرَف، كالشَّوك الذي شبِّه به.
[6] الخَطْف: الاستِلاب وأخذ الشيء بسرعةٍ لا فترةَ معها، يقال: خطفَه واختطفه.
[7] فمِنهُم مَن يوبَقُ بعملِه: أي يهلكُ، وقال ابن عرفة: يحبَس، قال: يقال أوبقه إذا حبسه، قال الله تعالى: {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا} [الشورى:34] أي يحبس السفنَ فلا تجري عقوبةً بذنوبهم.
[8] ومنهم مَن يُخردَل ثَمَّ ينجو: المخردَل: المصروع المرميُّ المنقطع، يقال: لحمٌ خراديلُ إذا كان قِطَعاً، المعنى أنه تُقطِّعه كلاليب الصراط، حتى يكادَ أن يهويَ إلى النار، وأصل الخردلة التفريقُ والتقطيعُ.
[9] امتُحِشوا: أي احتَرقوا، يقال: امتُحِش الخبز أُحرِق، وقيل: المَحشُ: ما يتناولهم من اللهب، فيُحرق الجلد ويبدي العظم، حكاه الهرويُّ وغيره.
[10] ماءُ الحياةِ: التي نحيا بها حياةً أبديةً لا موتَ معها، ويقال: إنه عين في الجنة.
[11] الحِبَّة: بذور البقول التي لا تكاد تُعرَف أنواعُها، قال أبو عمر: وهو نبتٌ ينبت في الحشيش صغيرٌ، وقال الكِسائيُّ: حَبُّ الرياحين الواحدةُ حِبَّة، فأما الحنطة ونحوه، فالحَب بفتح الحاء لا غير، وقال النضر بن شُمَيل: الحِبَّة اسم جامع لحبوب البقول التي تنتثر إذا هاجت، ثم إذا مُطرت من قابلٍ نبتت.
[12] حَميل السَّيل: هو كل ما حمله السَّيل، وكلُّ محمول فهو حميلٌ، فعيل بمعنى مفعول، كما يقال: قتيل بمعنى مقتول، ويقال: حميل السيل كل ما حمله السيل من طين أو غُثاءٍ، فإذا اتفق فيه الحِبةُ واستقرت على شطِّ مجرى السيل نبتت في يومٍ وليلةٍ، وهي أسرع نابتةٍ نباتاً، وإنما أخبر بسرعة نباتِهم وتعجيل خلاصهم، وقربِ رجوع نضارتهم.
[13] قشَبنِي ريحُها: أي اشتدَّ بي ألمُها، وخفتُ الهلاكَ بلهبها، والقِشْب: السمُّ المهلك، وكلُّ مسموم قشيبٌ ومقشَبٌ، وكل ما أفرطَ استكراهه قَشْبٌ، ومنه قول عمرَ: قشبَك المالُ، أي ذهب بعقلك وغيَّر حالَك.
[14] وأحرَقَني ذَكاؤها: أي اشتعالُها وإفراطُ حرِّها.
[15] البَهجةُ: الحسنُ، ومنه: {حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} [النمل:60] أي ذاتُ حسن.
[16] زهرةُ كلِّ شيءٍ حُسنُه، وزهرةُ الدنيا جمالُها وزينتُها.
[17] النَّضْرة والنَّضارة: النِّعمة والحسن والرَّونَق {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ} [القيامة:22] أي ناعمة.
[18] انفَهقَت له الجنَّةُ: انفتحت واتَّسعت، وانكشف له ما فيها.
[19] الحَبْرة: الفرح والسُّرور.