الجمع بين الصحيحين للحميدي مع تعقبات الضياء المقدسي

حديث: لا عدوى ولا صفر، ولا هامة

          2257- التَّاسع والثَّمانون: عن الزهريِّ عن أبي سلمةَ بن عبد الرَّحمن وغيرِه: أنَّ أبا هريرةَ قال: إنَّ النَّبيَّ صلعم قال: «لا عَدْوى(1)، ولا صَفَرَ(2)، ولا هامَةَ(3). فقال أعرابيٌّ: يا رسولَ الله؛ فما بالُ إبلٍ تكون في الرَّمل كأنَّها الظِّباءُ، فيأتي البعيرُ الأجْربُ فيدخل فيها فيُجرِبُها؟ فقال: فمَنْ أَعْدَى الأوَّلَ؟». قال البخاريُّ: ورواه الزهريُّ عن أبي سلمةَ وسنانِ بن أبي سنانٍ. / [خ¦5717]
          وأخرجاه أيضاً من حديث سنانِ بن أبي سنانٍ وحدَه من رواية الزهريِّ عنه بنحوِ ذلك. [خ¦5775]
          وعن أبي سلمةَ أنَّه سمعَ أبا هريرةَ بعدُ يقول: قال النَّبيُّ صلعم: «لا يُورَِدُْ ممْرِضٌ على مُصِحٍّ» وأنكر أبو هريرةَ حديثَه الأوَّل. قلنا: ألم تحدِّثْ أنَّه: «لا عَدْوى». فرَطَنَ بالحبشيَّةِ(4)، قال أبو سلمةَ: فما رأيتُه نسيَ حديثاً غيرَه. [خ¦5771]
          وفي حديث أبي الطَّاهر وحرملةَ عن ابن وهبٍ عن يونسَ: أنَّ رسولَ الله صلعم قال: «لا عَدْوى». ويحدِّثُ أنَّ رسولَ الله صلعم قال: «لا يُورَِدُْ ممرِضٌ على مُصِحٍّ».
          قال الزهريُّ: قال أبو سلمةَ: كان أبو هريرةَ يحدِّثُ بهما كليهما عن رسول الله صلعم، ثمَّ صمتَ أبو هريرةَ بعدَ ذلك عن قوله: «لا عَدْوى». وأقام على أن: «لا يُورَِدُْ ممرِضٌ على مُصِحٍّ». قال: فقال الحارثُ بن أبي ذُبابٍ وهو ابن عمِّ أبي هريرةَ: قد كنت أسمعُك يا أبا هريرةَ تحدِّثُنا مع هذا الحديثِ حديثاً آخرَ قد سَكَتَّ عنه، كنتَ تقول: قال رسول الله صلعم: «لا عَدْوى». فأبى أبو هريرةَ أن يعرفَ ذلك وقال: «لا يُورِدْ ممرِضٌ على مُصِحٍّ». فمَارَاهُ(5) الحارثُ في ذلك حتَّى غضِبَ أبو هريرةَ فرطَنَ بالحبشيَّة، فقال للحارث: أتدري ماذا قلتُ؟ قال: لا، قال أبو هريرةَ: إنِّي قلتُ: أبيتُ، قال أبو سلمةَ: ولعَمْري لقد كان أبو هريرةَ / يحدِّثُنا أنَّ رسولَ الله صلعم قال: «لا عَدْوى». فلا أدري أنسيَ أبو هريرةَ، أو نسخَ أحدُ القولينِ الآخرَ(6).
          وأخرجاه من حديث عُبيد الله بن عبد الله بن عُتبةَ: أنَّ أبا هريرةَ قال: سمعتُ رسول الله صلعم يقول: «لا طِيَرةَ، وخيرُها الفألُ. قيل: يا رسولَ الله؛ وما الفأل؟ قال: الكلمةُ الصَّالحةُ يسمَعُها أحدُكم». [خ¦5754]
          وأخرجه البخاريُّ من حديث أبي حَصينٍ عثمانَ بن عاصمٍ عن أبي صالحٍ عن أبي هريرةَ: أنَّ النَّبيَّ صلعم قال: «لا عَدْوى، ولا طِيَرةَ، ولا هامَةَ، ولا صَفَرَ». [خ¦5757]
          زاد أبو مسعود: [«والمعدِنُ جُبارٌ...» الحديث].
          وزاد أبو بكرٍ البَرقانيُّ مع المعدن: [«والبئر جبارٌ(7)، وفي الرِّكاز الخمُس»]. قال: وزاد مكِّيُ بن إبراهيمَ: [«والعجماءُ جبارٌ»]. قال: وحديث ابن ناجيةَ إلى قوله: [«ولا هامَةَ»]. وليس في كتاب البخاريِّ بهذا الإسناد إلَّا ما ذكرْنا فيما رأينا من النُّسَخ.
          وأخرجه البخاريُّ أيضاً تعليقاً من حديث سعيدِ بن مِيناءَ عن أبي هريرةَ: أنَّ رسولَ الله صلعم قال: «لا عَدْوى، ولا طِيَرةَ، ولا هامَةَ، ولا صَفَرَ، وفِرَّ / من المجذومِ كما تفرُّ من الأسدِ». [خ¦5707]
          وأخرجه مسلمٌ من حديث إسماعيلَ بن جعفرٍ عن العلاء بن عبد الرَّحمن بن يعقوبَ عن أبيه عن أبي هريرةَ: أنَّ رسولَ الله صلعم قال: «لا عَدْوى، ولا هامَةَ، ولا نَوْءَ(8)، ولا صَفَرَ».
          ومن حديث محمَّد بن سيرينَ عن أبي هريرةَ قال: قال رسول الله صلعم: / «لا عَدْوى، ولا هامَةَ، ولا طِيَرةَ(9)، وأُحبُّ الفألَ الصَّالحَ».


[1] لا عَدوى: هو أن يكون ببعيرٍ جربٌ أو بإنسانٍ برصٌ أو جُذامٌ، فتتَّقى مخالطَته ومؤاكلَته خوفاً من أن يعدوَه ما به إلى من يخالطُه، أي يجاوزَه إليه ويتعلَّقَ به، ويقال: أعداهُ الداءُ، وقد أبطل الإسلامُ ذلك بقوله صلعم: «لا عدوى» والحكم لله وحدَه.
[2] ولا صَفَرَ: يقال: كانت العربُ ترى أنَّ في البطن حيةً تصيب الإنسانَ إذا جاع وتؤذيه، وذلك مذكورٌ في أشعارهم، وقيل: إنَّ معنى ذلك تأخيرُهم تحريمَ المحرَّمِ إلى صفرَ، وفي المجمَل: إنَّ الصَّفرَ دابةٌ في البطن تصيب الماشيةَ والناسَ، يقال: منها رجلٌ مصفورٌ.
[3] ولا هامَةَ: قال أبو عبيدٍ: كانت العرب تقول: إنَّ عظامَ الموتى تصير هامةً فتطير، وكانوا يسمُّون ذلك الطائرَ الذي زعموا أنه يخرج من هامةِ الميِّت إذا بليَ: الصَّدى، وقال ابن الأعرابيِّ: كانوا يتشاءمون بها، فجاء النصُّ بنفي ذلك، أي لا تشاءَموا، ويقال: أصبح فلانٌ هامةً إذا مات، وكانوا يقولون: إنَّ القتيلَ تخرج من هامتِه هامَةٌ فلا تزال تقول: اسقوني اسقوني حتى يُقتلَ قاتلُه، ويقال أيضاً بالزاي: ازقوني ازقوني.
[4] رَطَنَ بالحَبَشيَّة: أي تكلَّم بها، وكلُّ كلامٍ لا تفهمه العرب من كلام العجَم تسميه رَطانةً.
[5] المراء والمماراة: مصدران، يقال: ماراه يماريه مماراةً ومِراءً، وهي المراجعةُ والمجادَلةُ والمخالَفةُ.
[6] قال الحافظ المقدسي رحمه اللهُ، وهذه لمسلم.اهـ.قلنا: هي فيه برقم: ░2221▒.
[7] سقط قوله: (جبار) من (ت).
[8] النَّوْء: في الأصل النهوض، يقال: ناء البعير بحِمله إذا نهض، وبذلك سمِّي النَّوء من أنواء المطر؛ لأنه كأنَّه ينهض بثِقَلٍ في رؤية العينِ، وفي الخبر: لا نوءَ، وجمعه أنواءٌ، قال أبو عبيد: هي ثمانيةٌ وعشرون نجماً معروفةُ المطالع في أزمنة السنةِ، يسقط في كلِّ ثلاثَ عشرةَ ليلةً نجمٌ من المغرب مع طلوع الفجر، ويطلُعُ آخَرُ يقابله من ساعته في المشرق، وانقضاء هذه الثمانية والعشرين مع انقضاء السنة، وكانت العرب في جاهليَّتها إذا سقط منها نجمٌ وطلع آخَرُ قالوا: لا بدَّ أن يكونَ عند ذلك مطرٌ، وينسبون كلَّ مطرٍ يكون عند ذلك إلى النجم، فيقولون مطرُنا بنَوء كذا، قال: وإنما سمِّي نَوءاً لأنه إذا سقط الساقطُ منها بالمغرب ناء الطالعُ بالمشرق، ينوء نَوءاً، وذلك النهوضُ هو النَّوء فسمِّيَ النجمُ به، قال: وقد يكون النَّوء السقوط، قال غيره: لا تستنيءُ العرب بها كلّها إنما تذكُرُ بالأنواء بعضَها، وقال ابن الأعرابي: لا يكون نَوءٌ حتى يكونَ معه مطرٌ وإلا فلا نوءَ، وإنما ورد التغليظُ في ذلك لأنَّ العربَ كانت تقول: إنما هو فِعلُ النجمِ ولا يجعلونه سُقيا من الله ╡، وأما من قال: مُطِرنا بنَوء كذا، ولم يُرِدْ هذا المعنى، وإنما أراد: مُطِرنا في هذا الوقت بفضل الله ورحمةِ الله فليس بمذمومٍ، وقد جاء عن عمرَ رضي اللهُ عنه أنه استسقى بالناس ثم قال للعباس: كم بقي من نَوء الثريا؟ فقال: إن العلماءَ بها يزعمون أنها تعترضُ في الأفق سبعاً بعد وقوعها، قال الرَّاوي: فوالله ما مضت تلك السبعُ حتى غِيثَ الناسُ، فأراد عمرُ كم بقي من الوقت الذي جرتِ العادةُ أنه إذا تمَّ أتى الله بالمطر في الأغلب، حكى ذلك الهرويُّ.
[9] الطِّيَرة: التطيُّر من الشيء والتشاؤم به والكراهية له، واشتقاقه من الطَّير كالغراب وما أشبهَه مما كانت العربُ تتشاءمُ به، وترى أن ذلك مانعٌ من الخير فنفى الإسلامُ ذلك فقال: «ولا طيرةَ» في جملة ما نفى، وفي الخبر: «وخيرُها الفأل»، وأصله الهمز ويخفَّف، وكان الأزهريُّ يقول: الفألُ فيما يحسُن ظاهرُه، ويُرجى وقوعُه بالخير ويسُرُّ، والطيرةُ لا تكون إلا فيما يسوءُ ويسيء الظنَّ، وإنما أحبَّ النبي صلعم الفألَ لأنَّ الناس إذا أمَّلوا فائدةً من الله ورجَوا عائدته عند كل سببٍ ضعيفٍ أو قويٍّ فهم على خيرٍ وإن لم يدركوا ما أمَّلوا، فقد أصابوا في الرجاء لله وطلبِ ما عنده، ففي الرجاءِ لهم خيرٌ مستعجِلٌ، ألا ترى أنهم إذا قطعوا أملَهم ورجاءهم من الله ╡ كان ذلك من الشر؟ فأما الطّيرة فإنَّ فيها سوءَ الظنِّ، وقطعَ الرجاء وتوقُّعَ البلاء، وقيل: الفأل أن يكونَ الإنسان مريضاً فيسمع قائلاً يقول: يا سالمُ، أو يكون طالباً ضالَّة فيسمع من يقول: يا واجد، فيقع في ظنِّه أنه يبرأُ من مرضه، أو يجدُ ضالَّته، ويتوقَّعُ صحة هذه البشرى، وينفَّس نفَسُه بذلك الرجاء المتوقَّع وقوعُه؛ لأنه وقع من القائل على جهة الاتفاق، وقد جُمعَ الفألُ: فُؤولٌ.