الجمع بين الصحيحين للحميدي مع تعقبات الضياء المقدسي

حديث: تحاجت الجنة والنار، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين

          2450- الثَّاني الثَّمانون بعد المئتين: عن همَّام بن منبِّهٍ عن أبي هريرةَ قال: قال رسول الله صلعم: «تحاجَّتِ الجنَّةُ والنَّار، فقالت النَّار: أوثِرتُ(1) بالمتكبِّرينَ والمتجبِّرينَ، وقالت الجنَّة: فما لي لا يدخُلُني إلَّا ضعفاءُ(2) النَّاس وسَقَطُهم(3) / _زاد في رواية محمَّد بن رافعٍ(4) : وغِرَّتُهُم(5)_ فقال الله ╡ للجنَّة: أنتِ رحمتي أرحمُ بك من أشاءُ من عبادي، وقال للنار: إنَّما أنتِ عذابي أعذِّبُ بكِ من أشاءُ من عبادي، ولكلِّ واحدةٍ منهما مِلْؤُها، فأمَّا النَّار فلا تَمتلِئ حتَّى يضعَ رِجلَه _وفي رواية محمَّد بن رافعٍ: حتَّى يضعَ الله تباركَ وتعالى رِجلَه_ فتقول: قَطْ قَطْ قَطْ(6)، فهنالك تَمتلئُ ويُزوى بعضُها إلى بعضٍ(7)، ولا يظلمُ الله مِن خلقِه أحداً، وأمَّا / الجنَّةُ فإنَّ الله يُنشئُ لها خلقاً». [خ¦4850]
          وأخرجه البخاريُّ من حديث صالحِ بن كَيسانَ عن الأعرج عن أبي هريرةَ عن النَّبيِّ صلعم قال: «اختصمتِ الجنَّةُ والنَّارُ، فقالت الجنَّة: يا ربِّ، ما لها لا يدخلُها إلَّا ضعفاءُ النَّاس وسقَطُهم، وقالت النَّار(8)...(9) فقال للجنة: أنتِ رحمتي، وقال للنار: أنتِ عذابي أصيبُ بك مَن أشاءُ، ولكلِّ واحدةٍ منهما ملؤها، قال: فأمَّا الجنَّةُ فإنَّ الله لا يظلِمُ من خلقِه أحداً، وإنَّه يُنشئُ للنار من يشاءُ(10)، فيُلقَون فيها، فتقول: هل من مزيدٍ؟ ويُلقَون فيها، فتقول: هل من مزيدٍ حتَّى يضعَ قدَمه فيها(11)، / فتمتلِئَ ويُزوى بعضُها إلى بعضٍ وتقولَ: قَطْ قَطْ قَطْ» [خ¦7449].
          وأخرج أيضاً طرفاً منه من حديث محمَّد بن سيرينَ عن أبي هريرةَ ورفَعَه _وكان كثيراً ما يقفه أبو سفيانَ الحميَريُّ أحدُ رواتِه_ قال: «يقال لجهنَّمَ: هل امتلأتِ؟ وتقول: هل من مزيدٍ؟ فيضعُ الرَّبُّ قدمَه عليها فتقولُ: قَطْ قَطْ». [خ¦4849]
          وأخرجه مسلمٌ بنحو حديث همَّامٍ من حديث سفيانَ وورقاءَ عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرةَ. وانتهى حديثُ سفيانَ إلى قوله: «ولكلِّ واحدةٍ منهما ملؤها». وقال في روايةِ ورقاءَ: «فما لي لا يدخلُني إلَّا ضعفاءُ النَّاس وسقَطُهم وعجَزُهم». وفي آخره: «فأمَّا النَّارُ فلا تمتلئُ، حتى يضعَ قدَمه عليها، فهنالك تمتلئُ ويُزوى بعضُها إلى بعضٍ». لم يزد.
          وأخرجه مسلمٌ أيضاً بعدَ حديث ورقاءَ من حديث محمَّد بن سيرينَ عن أبي هريرةَ: أنَّ النَّبيَّ صلعم قال: «احتجَّتِ الجنَّةُ والنَّارُ». ثمَّ قال مسلمٌ: واقتصَّ الحديثَ بمعنى حديث أبي الزِّناد.


[1] آثرتُ الرجل أُوثِره إيثاراً؛ إذا خصصتَه وقدَّمتَه.
[2] الضَّعيفُ الذي خُصت الجنةُ به: من ضعُف في أمر دنياه وقوي في أمر آخرته.
[3] السَّقَط: في الأصل المُزدرَى به، والسَّقَط رديء المتاع.
[4] قال الحافظ المقدسي رحمه اللهُ عن هذه الزيادة عن محمد بن رافع والآتية: وهاتان لمسلم.اهـ.قلنا: هي فيه برقم: ░2846▒.
[5] الغَرَارةُ: كالفَعَالة، والغِرُّ: الذي لم يُجرب الأمور، وهذا كله فيما احتجت به الجنة في الحقيقة في حيّز المدح لا في حيّز الذم، والازدراء لا معنى له إلا أن يكون بحق، ومن آثر الخمول وإصلاح نفسه والتزود لمعاده ونبَذَ أمور الدنيا فليس غِرّاً فيما قصد له ولا سَقَطاً ولا مذموماً بنوع من الذم، وفي الأثر: «أكثر أهل الجنة البُلْه».لأنهم أغفلوا أمر دنياهم فجهلوا حذق التصرف فيها والاصطياد لها، وأقبلوا على آخرتهم فأتقنوا مساعيها وشغلوا أنفسهم بها، وليس من عجز عن اكتساب الدنيا وتخلف في الحذق بها وأعرض عنها إلى اكتساب الباقيات الصالحات مذموماً، وهؤلاء هم الذين خُصّت الجنة بهم رحمة من الله رحمهم بها إذ وفقهم لها، كما خُصَّت النار بالمتكبرين ومن ذُكر معهم، والمتكبر والمتجبر الذي يستحقر الناس ويزدريهم ولا يرى لهم قدراً ويرفع نفسه ويعظمها، وعلى ذلك فمن خُتم له بالإسلام وإخلاص النية بالتوحيد فالنجاةُ حاصلةٌ له وإن ناله ما ناله.
[6] قَطْ قَطْ: في قول النار بمعنى حَسْبُ، والحَسْب الكفاية، ومنهم من رواه قَطْني: أي؛ حسبي ساكنة الطاء، قال: قَطْكَ هذا؛ أي: حَسبُك هذا، وقَطاط بمعنى حسبي أيضاً، وقَطُّ مشددة لنفي الأمر، تقول ما رأيته قطُّ ولا أظنني أراه قطُّ.
[7] ويُزوى بعضُها إلى بعض: أي؛ يُجمَع، والانزِواءُ الاجتماع والانقباض والانضمام، ويقال: انزوت الجلدة في النار إذا تقبَّضت واجتمعت، ومنه «زُوِيت ليَ الأرضُ»: أي؛ جُمعت حتى أمكنه رؤية ما رأى منها، وزاوية البيت سميت للاجتماع في ناحية منه.
[8] سقط قوله: (النار) من (الحموي).
[9] سقط قولُ (النار): (أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين) من جميع نسخ البخاري وهو محفوظ في الحديث، ذكره مسلم والدارقطني في «غرائب مالك».«فتح الباري» 13436.
[10] قال عياض: قال بعض المتعقبين: هذا وهم والمعروف في الإنشاء إنما هو للجنَّة، قال القاضي: ولا يُنكر هذا، وأشهر التأويلات أنهم قوم تقدم في علم الله أنه يخلقهم لها.«مشارق» 2642.
[11] القَدمُ الذي يضع الله ╡ في النار: هم الذين قدَّمهم من شرار خلقه ليكونوا فيها وأثبتهم لها، فهم قدم الله للنار، كما أن المسلمين قدم الجنة؛ أي: مثبتون لها في ما قدم من حكمه، حكى ذلك الهروي عن الحسن البصري، وقال أبو العباس ثعلب: القدم كل ما قدمت، قال الله تعالى: {أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ} [يونس:2] أي: سابقة من الخير نالوا بها المنازل الرفيعة، وأصل القدم الشيء تقدمه قدامك؛ ليكون عُدَّةً لك إذا قدمت عليه، ومنهم من قال في قوله «حتى يضع رجله» شيئاً نحو هذا، ويحتج بما حكاه أهل اللغة أن العرب تقول: كان ذلك على رجل فلان؛ أي: في زمانه وعهده ووقته، فقال: يحتمل أن يضع فيها ما يقدره الله ويخلقه في ذلك الوقت والحين فيها، والصواب عند أهل التحقيق ترك الخوض في هذا؛ لأنه لا يعلم إلا بوحي مع الإقرار بأنه لا علم لنا إلا ما علمنا مع حفظ القلب من أن يلم وجه من وجوه التشبيه الذي قد نفته الأدلة الجلية وشفاؤنا منه قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] والسلامة بهذا مضمونة، والجراءة فيه والاقتحام عليه غير مأمون، وبالله التوفيق.