139- قولها: (كان يومًا⁽¹⁾ عندي يَلْعَبُ السُّودَانُ بِالدَّرَقِ وَالْحِرَابِ...) الحديث⁽²⁾. [خ¦2907]
          ظاهر الحديث⁽³⁾ يدلُّ على⁽⁴⁾ الأزمنة الفاضلة والأيام الفاضلة تُشغل بأعظم الطاعات وأجلِّها وأوجبها⁽⁵⁾؛ لأنَّ يوم العيد فيه مِن الفضل ما فيه فعملوا فيه ما هو أفضل الأشياء في وقتهم بل هو المتعيِّن، والكلام عليه⁽⁶⁾ مِن وجوه:
          الوجه⁽⁷⁾ الأول: قولها: (كَانَ يَوْمُ عِيدٍ عندي⁽⁸⁾ يَلْعَبُ السُّودَانُ بِالدَّرَقِ وَالْحِرَابِ) إنما أطلقت اللعب عليه مجازًا، وإلا فهو في الحقيقة فرض متعيِّن بسبب تعيُّن فرض الجهاد عليهم، ومِن ذلك قوله ╕: «لعب المؤمن في ثلاث»، والثلاث عبادة لا شكَّ فيها.
          وفيه⁽⁹⁾ دليل على أنَّ ما يُفعَل في هذا الزمن⁽¹⁰⁾ مِن بطالة الأوقات الفاضلة مِن البدع الحادثة المخالفة لفعل السلف، ألا ترى أنَّ يوم العيد يوم فاضل⁽¹¹⁾ فشغلوه بالتدريب⁽¹²⁾ على أفعال القتال، إذ إنَّها المتعيِّنة⁽¹³⁾ في الوقت كما تقدَّم، ولذلك قال صلعم لعائشة ♦ : (تَشْتَهِينَ⁽¹⁴⁾ أَنْ تَنْظُرِي؟) وعلى رواية: (كان يومًا عندي⁽¹⁵⁾) معناه: بقرب منزلي؛ لأنَّ العرب تسمِّي الشيء بما قاربه، وكان لعب السودان في المسجد ومنزلها ومنازل أزواج النبي صلعم و╢⁽¹⁶⁾ كان في حائط المسجد، فلمَّا أن كان السودان بقرب منزلها أضافتهم إلى نفسها.
          الثاني: أنَّ اللعب في المسجد على ما هو ظاهر الحديث ليس على العموم لِمَا عارضه مِن الآي والحديث⁽¹⁷⁾ والأثر.
          أمَّا الآي، فقوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ...} [النور:36]، قال العلماء: معناه أنَّها تُغلَق ولا تُفتَح إلا عند الصلوات، والصلاة هي المراد بالذكر في الآية، والرفع: عبارة / عن الغَلق والصيانة، وأمَّا الحديث فقوله ◙ : «إنما المساجدُ لِمَا بينت له، فمَن نَشَد ضالة فقولوا: لا جبرها⁽¹⁸⁾ الله عليه⁽¹⁹⁾» فالحديث موافق للآي في المعنى.
          وأمَّا الأثر، فما روي عن عُمر ☺ أنَّه بنى رحبة خارج المسجد تُسَمَّى البطحاء وقال : مَن أراد أن ينْشُدَ ضالةً أو يُنْشِد شعرًا فليخرج إلى هذه الرَّحبة. وقد كان ابن مسعود ☺ إذا رأى أحدًا في المسجد يريد أن يبيع دعاه فسأله: ما معك وما تريد؟ فإن أخبره أنَّه يريد أن يبيع، قال: عليك بسوق الدنيا، فإنما هذا سوق الآخرة. فلم يبقَ أن يكون اللعب في المسجد إذ ذاك إلا للضرورة لضيق المدينة وضيق البيوت، ولعب الثِّقاف لا بد منه في وقتهم ذلك لضرورة التدريب للقتال، فإذا كانت ضرورةٌ مثلُ هذه جاز وإلا فلا.
          وقد اختلف العلماء في تدريس العلم في المسجد الذي هو أفضل مِن الجهاد نفسه على ما ورد بالنص فيه وليس فيه لعب وهو نفس الطاعة على قولين: فمن رأى أنَّه مِن الدين أجاز، ومَن رأى أنَّه مِن كلام البشر وهو مؤدٍ إلى ارتفاع الأصوات في المسجد منع، فكيف بهم في لعب إنما كان طاعة بحسب النيَّة فيه ولِمَا يؤول أمره وقد يكون للهو لا غير⁽²⁰⁾ فمِن باب أَوْلَى [أن]⁽²¹⁾ يمنعوه⁽²²⁾ مِن غير خلاف بينهم إذا عدمت للضرورة التي أشرنا إليها⁽²³⁾.
          وكان منزلها ومنازل أزواج النبي صلعم ╢⁽²⁴⁾ شارعة إلى المسجد، فلمَّا أن كان السودان قرب⁽²⁵⁾ منزلها أضافتهم إلى نفسها:⁽²⁶⁾ (يَوْمًا عِنْدِي).
          وقد اختلف علماؤنا ⌠ في لعب السودان هل كان في المسجد أو خارجًا عنه بقربه؟
          فقال الشيخ أبو الحسن اللخميُّ في ((تبصرته)): إنَّ لعب الحبش في العيد في المسجد منسوخ⁽²⁷⁾، ونقل⁽²⁸⁾ ابن عطاء الله في ((البيان والتقريب)) له عن سندٍ أن مالكًا ⌂ كَره لعبَهم⁽²⁹⁾ في المسجد، ويُحْمل⁽³⁰⁾ الحديث على أنَّها كانت في المسجد تراهم⁽³¹⁾.
          الثالث: قولها⁽³²⁾: (فإمَّا سَألتُ رَسُولَ / اللهِ صلعم وَإمَّا قَالَ: تَشْتَهينَ أَنْ تَنْظُرِي⁽³³⁾) يُروى:⁽³⁴⁾ (تنظرين) و(تنظري)⁽³⁵⁾ وكلاهما بمعنى واحد، وقولها⁽³⁶⁾: (إمَّا.. وإمَّا) شكٌّ منها في أيِّهما كان الواقع مِن الكلام.
          الرابع: قولها: (فَأَقَامَنِي وَرَاءَهُ خَدِّي عَلَى خَدِّهِ) فيه دليل على تواضعِ النبيِّ صلعم وحسنِ خلُقه، وفيه دليل لِمَا ذهب إليه⁽³⁷⁾ العلماء مِن⁽³⁸⁾ جواز نظر النساء إلى الرجال إذا كنَّ مستترات⁽³⁹⁾ وأَمِنَّ⁽⁴⁰⁾ مِن الفتنة، وفيه دليل على أنَّ النظر في اللعب إذا قصد به الطاعة طاعة؛ لأنَّه لَمَّا⁽⁴¹⁾ كان لعب السودان بنيَّة التدريب⁽⁴²⁾ للقتال ترك النبي صلعم عائشة ♦ تنظر إليهم؛ ولوكان النظر إليهم غير طاعة لم يكن هو⁽⁴³⁾ صلعم ينظر إليهم ولا يترك أهله لذلك⁽⁴⁴⁾، إذ إنَّه ◙ وأهل بيته محالٌّ في حقِّهم التصرُّف في اللهو والنظر إليه، بل كثير مِن الأولياء ليس لهم تصرُّف إلا في واجب أو مندوب، فكيف بهم أهل بيت النبوة الذين منهم يورث ذلك وهم الأصل فيه وغيرهم فرع عنهم وتبع لهم؟
          ومما يشهد لهذا ما روي عنه ◙ أنَّه مرَّ بموضع كان بعض الصحابة يتعانون فيه الرمي، فنزع نعليه ومشى فيه⁽⁴⁵⁾ حافيًا ثم قال: ((روضةٌ مِن رياض الجنَّةِ))، ومعناه: أنَّ العمل الذي عُمِل فيها يوجب روضة مِن رياض الجنة وما كان مِن فعل يُوجب روضة مِن رياض الجنة فالنظر / إليه عبادة، ولعلَّ ببركة⁽⁴⁶⁾ الحضور معهم يعمُّ الخير على الكُل مَن لعب ومَن نظر.
          الخامس: قوله ◙ : (دُونَكُمْ بَنِي⁽⁴⁷⁾ أَرْفِدَةَ) بنو أرفدة: قبيلة مِن قبائل السودان، فكان ╕ يحرِّضهم بقوله ذلك على الشِّدَّة والنهضة فيما هم بسبيله؛ لأنَّ تحريضه ◙ لهم يُحدث لهم قوَّةً وهممًا⁽⁴⁸⁾ ليست عندهم قبلُ.
          وفيه دليل على التعاون في أفعال البر كيفما أمكن بكلام أو فعل أو غيره⁽⁴⁹⁾؛ لأنَّ كلام النبيِّ صلعم لهؤلاء عونٌ لهم على التعلُّم، ومثل هذا أيضًا ما روي أنَّ الحسن والحسين⁽⁵⁰⁾ ☻ كانا يومًا يتسابقان في الرمي، فقال النبي صلعم : «اِرمِ يا حسينُ وأنا معك»، فأمسكَ الحسنُ، فقال له النبي صلعم : «لِمَ لَمْ تَرْمِ؟» فقال: كيف أرمي وأنت معه؟ فقال: «اِرمِ وأنا معكما». كلُّ هذا ندب⁽⁵¹⁾ لتعلم القتال للجهاد.
          وفيه دليل على تعلُّم أنواع⁽⁵²⁾ الخير، وإن لم يكن المتعلِّم بها مكلَّفًا؛ لأنَّ نظر عائشة ♦ إلى لعب الثِّقاف قد يحصل لها به التعلُّم، وليس النِّساء مكلَّفين بالجهاد حتى يحتَجْنَ إلى تعلم الثِّقاف لكن مَن عرفه منهنَّ يحصل لهنَّ⁽⁵³⁾ في معرفته الأجر، وقد يحتجن إليه في بعض الأوقات كما احتَجْنَ إليه يومَ اليرموك⁽⁵⁴⁾ في فتح الشام حتى دفعنَ عن أنفسهن، وتلاحقت بهنَّ المسلمون ونجَوا بذلك مِن يد العدو وعاد النصر للمسلمين / على ما ذكره أهل⁽⁵⁵⁾ التاريخ.
          ومثال ذلك مَن⁽⁵⁶⁾ كان مشتغلا بطلب العلم وأخذ منه ما يجزئه لفرضه، فما زاد⁽⁵⁷⁾ على ذلك فهو مِن المرغَّب فيه، وإن كان لم يحتَج إليه في وقته ذلك، وله الأجر في تعلُّمه، وقد يعلِّمه لمن يجب عليه تعليمه⁽⁵⁸⁾، وقد يحتاج إليه في وقت مِن الأوقات⁽⁵⁹⁾ مثل الفقير يقرأ كتاب الزكاة ويُحكمِه، ثمَّ يرجع مليًّا وما أشبه ذلك.
          السادس: قولها⁽⁶⁰⁾: (حَتَّى إِذَا مَلِلْتُ قَالَ: حَسْبُكِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ قَالَ: فَاذْهَبِي) فيه⁽⁶¹⁾ جواز الحكم على الباطن بما يظهر في الظاهر؛ لأنَّ النبيَّ صلعم استدلَّ على أنها ملَّت بما ظهر له⁽⁶²⁾ مِن حالها لكن الحكم بذلك مطلقًا⁽⁶³⁾ لا يجوز حتى يستيقن ذلك مِن صاحبه؛ لأنَّ النبيَّ صلعم أعرفُ الناس بذلك الشأن، ثمَّ لم يحكُم به حتى استفهمها⁽⁶⁴⁾ فأجابت بتحقيق ما ظهر له.
          السابع: فيه دليل على أنَّ التعلُّم إنما يكون على⁽⁶⁵⁾ الباعث مِن المتعلِّم، وإن عُدِم الباعث منه فالترك إذ ذاك لكي تَجُمَّ النفس ثم تأخذه⁽⁶⁶⁾ بأُهْبة؛ لأنَّه ╕ لَمَّا أن ظهر له مِن عائشة ♦ أنَّها ملَّت قال لها: (حَسْبُكِ)؟
          يزيد هذا إيضاحًا قولُه ╕: «روِّحوا القلوبَ ساعةً بعدَ ساعةٍ»؛ ولأنَّ⁽⁶⁷⁾ التعلُّم مع الكسل قلَّ أن يتأتَّى منه المقصود.
          الثامن: أنَّه لا يُقتصر بالحديث على ما جاء فيه لا غير، بل هو عامٌّ في كلِّ الأمور الدنيوية، إذا قصد بها الآخرة عادت بالقصد⁽⁶⁸⁾ ندبًا وإن كان ظاهرها مباحًا؛ لأنَّ اللعب ظاهره لهو، فلمَّا أنَّ كان القصد به تعلُّم الثِّقاف لأجل الجهاد كان طاعة، كذلك⁽⁶⁹⁾ كلُّ فعل قصد به الله تعالى أو الدار الآخرة، وإن كان / مِن أفعال الدنيا فهو يحسن النيَّة فيه⁽⁷⁰⁾، مما يتقرَّب به إلى الله تعالى ويُثَاب صاحبه عليه كما يُثَاب على الأفعال التي ليست تعمل إلا للآخرة⁽⁷¹⁾، ومِن ذلك ما روي عن عمر ☺ حيث قال: «إني لأطأ⁽⁷²⁾ النِّساء وما لي إليهنَّ شهوة⁽⁷³⁾، فقيل⁽⁷⁴⁾: ولِمَ يا أمير المؤمنين؟ قال: رجاء أن يخرج اللهُ مِن ظهري ما يَكثُر به محمَّد صلعم الأممَ يوم القيامة». والله الموفق.