بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: إذا بال أحدكم فلا ياخذن ذكره بيمينه

          18- (عَنْ أَبِي قَتَادَةَ،(1) عَن النَّبِيِّ صلعم أنَّهُ قَالَ: إِذَا بَالَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَأْخُذَ(2) ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ...) الحديث(3). [خ¦154]
          ظاهرُ الحديثِ يدلُّ على ثلاثةِ أحكامٍ: (الأولُ): أنْ لا يَأخُذَ ذَكَرَهُ بيَمينِهِ، (الثاني): أن لا يَستَنْجِيَ بيَمينِهِ، (الثالثُ): أن لا يَتَنَفَّسَ في الإناءِ. والكلامُ عليهِ مِن / وجوهٍ:
          (الأولُ): هل هذا تَعبُّدٌ غيرُ معقولِ المَعنى أو هو(4) معقولُ المَعنى؟
          وقد(5) تقدَّمَ أن أمورَ الشَّرعِ كلها لا بُدَّ لها مِن معنى بمُقتضَى حِكمةِ الحَكيمِ، لكنْ منها مَا نعرِفُهُ ومنها ما لا نَعرِفُهُ، ونُخبَر عنهُ بالتَّعبُّدِ ليس إلَّا، فأمَّا هُنا بفضلِ الله فالمَعنى ظاهرٌ؛ لأنَّ اليَمينَ لمَّا جُعِلَ للأكلِ والشُربِ وما يَقرُبُ(6) منه جُعِلَ اليسارُ لضدِّ ذلكِ، وهي الفَضَلاتُ وما يتعلَّقُ بذلكَ وما يَقرُبُ منهُ، فمَسُّ الذَّكَرِ والاستنجاءُ مِن ذلكَ القَبيلِ، وأيضًا فلمَّا(7) كان أهلُ اليمينِ في الآخرةِ هم أَهلُ الجِنانِ والنعيمِ جُعِلَ في هذهِ الدارِ لذلكَ(8) النوعِ، ولمَّا كانَ أهلُ الشمالِ في الآخرةِ أهلُ المَعاصي والنَّكالِ جُعِلَ هُنا لِمَا يتولَّدُ عن(9) المعاصي وما شاكلَها؛ لأنه أولُ ما وقعتِ المعصيةُ مِن البشرِ تولَّد عنها الحَدَثُ(10)، وكذلكَ(11) المُعبِّرون للرؤيا يُعبِّرونَ لمن رأى شَيئًا مِن الأحداثِ أنَّها دالَّة على المعاصي.
          (الثاني): هنا إشارةٌ، وهي أنَّ المرادَ مِن المُكلَّفِ مَعرِفَةُ حِكمةِ الحَكيمِ في الأشياءِ واتِّبَاعُها، ولذلكَ قالَ ◙ حينَ جاءَ إلى السَّعيِ بينَ الصفا والمروةِ: «نَبدأُ بِمَا بَدأَ اللهُ بِهِ»، وإن كانتِ الوَاوُ لا تُعطِي رتبة في كلامِ العربِ، لكن لمَّا عَلِم صاحب النُّورِ أن الحَكيمَ لا يَبتدئ بشيءٍ إلا لحِكمةٍ(12)، فاتَّبَعَ مُقتضى حِكمةِ الحَكيمِ.
          (الثالثُ): هنا إشارةٌ إلى معنى(13) قولِهِ: (وَلَا يَتَنَفَّسُ في الإِنَاءِ) فإن قُلنا كما تقدَّمَ: ما الحِكمةُ في ذلك؟ ففيهِ وَجهانِ؛ أحدُهما: في حقِّ الشارِبِ لعلَّهُ عندَ تَنفُّسِهِ في الإناءِ يَشْرَقُ بالماءِ، والثاني: في حقِّ الغيرِ لعلَّه يَتَعلَّقُ من نَفَسِهِ شيءٌ ما في الإناء فيَستَقْذِرُهُ الغيرُ.
          وفيه أيضًا: إظهارُ الشَّهامَةِ وقلَّةِ(14) النَّهمَةِ في الشرابِ(15).
          وفيه / أيضًا: أنَّ تَفرِقَةَ الشرابِ(16) أقربُ إلى الريِّ.
          وفيه إشارةٌ لعلَّه ينتَبِهُ(17) لِمَا نُدِبَ إليه مِن قطعِ الشربِ ثلاثًا، فيَحصُلُ(18) له ما رغبَ فيهِ مِنَ الخيرِ؛ لأنَّه(19) جاءَ عنه(20) صلعم : (أنَّ مَن شَرِبَ الماءَ ونوى بهِ العَونَ على الطاعةِ وسمَّى ثم قَطَعَ وحَمِدَ _يفعلُ ذلكَ ثلاثَ مراتٍ_ أنَّ الماءَ يُسبِّح في جوفِهِ ما بَقِيَ في جوفِهِ).
          ويترتَّبُ على هذا مِن الفقهِ أن يُقدَّمَ أوَّلًا النهيُ عن الأشياءِ(21) المحذوراتَ، وحينئذٍ يُشارُ إلى زيادةِ(22) الخيرِ، يُؤخَذُ ذلكَ مِن قولِهِ: (وَلَا يَتَنفَّسُ في الإِنَاءِ) نهيًا منهُ ◙ ، وقالَ في الذي يَشرَبُه ثلاثًا كما تقدَّم على طريق الإرشاد: مَن فعلَ كذا.
          (الرابعُ): فيهِ دليلٌ على أنَّ مُجاوِرَ الشيء(23) يُعطَى حُكمَه، يُؤخَذُ ذلكَ مِن قولِهِ ◙ : (إِذَا بالَ أَحَدُكُم فَلا يَأْخُذْ(24) ذَكَرَهُ). ففي حين(25) كانَ الذَّكَرُ مُجاوِرَ البول(26) مُنِعَ أخذُهُ باليمينِ، وفي غيرِ ذلكَ مِنَ الزمانِ لم يُمنَعْ منهُ، يُؤيِّدُ ذلكَ قولُه ◙ حينَ سألَهُ السائلُ في مسِّ ذَكَرِهِ، فقالَ: «وهَلْ(27) هُوَ إلَّا بَضْعَةٌ مِنْكَ؟»، فدلَّ على جوازِ أخذِهِ كسائرِ جسدِهِ، ولهذه الإشارةِ(28) _أَعنِي أنَّ المُسْتَخْبَثَاتِ كلها تكونُ بالشمالِ_ قالَ أهلُ المعرفةِ بالخواطرِ: إنَّ خاطرَ(29) الشيطانِ يأتي مِن جهةِ الشمالِ شمالَ القلبِ، ويُحتاجُ(30) الآنَ أنْ(31) تَعرِفَ شمالَ القلبِ مِن أينَ هوَ؟ فعندهم أن شمالَ القلبِ مخالفٌ لشمالِ(32) الجُثَّةِ؛ لأنَّهم يقولونَ: وجهَ القلبِ، ويعنونَ بوجهِه(33) (الباب) الذي(34) للغيوبِ مفتوحًا(35) هو إلى جهةِ الصُّلبِ، فمِن ذلكَ البابِ هو عن يمينُ(36) القلبِ، ومنه يشاهدونَ ما يشاهدونَ في أمرِ المُكاشَفاتِ(37) والكراماتِ وما سوى ذلكَ مما خصَّ اللهُ ╡ بهِ أولياءَه على مُقتضَى الحِكمةِ كما دلَّتْ / عليهِ أدلةُ الشرعِ، ولجهلِ مَن جهلَ هذا المعنى الذي أشرنا إليهِ لمَّا أن سَمِعَ(38) خاطرَ الشيطانِ يأتي مِن جهةِ الشمالِ، والمَلَكُ يأتي مِن جهةِ اليمينِ جعلَ ما سمعَ على وضعِ البِنْيَةِ(39)، فانعكسَ عليهِ الأمرُ؛ لأنَّ الخواطرَ عندهم أربعةٌ: مَلَكِيٌّ وشَيطَانيٌّ، وهما مِن حيثُ أشرنَا(40) أولًا، ونَفْسَانِيٌّ، وهو مِن أَمامِ القلبِ، ورَبَّانِيٌّ، وهو مِن داخلِ القلبِ.
          وهنا بحثٌ، وهو: هل النَّهيُ هنا على التحريمِ أو على الكراهةِ؟ مُحتمِلٌ، والظاهرُ أنَّهُ على الكراهةِ، وهذه الكراهةُ مع عدمِ العُذْرِ، وأما أصحابُ الأَعذارِ فلا يَدخلونَ في هذا البابِ، مثلُ الذي ليسَ له إلا يمينٌ ليس إلَّا(41)، أو لهُ في اليسارِ عُذرٌ يَمنعُ مِنَ التَّصرُّفِ للعُذرِ الذي منعَهُ، وهي أيضًا _أَعني الأشياءَ التي أَمرَ بها هنا_ سُنَّة كما جاءَ في الأحاديثِ(42) أنهُ صلعم كانتْ يمينُه لطعامِهِ وشرابِهِ(43)، وشِمالُه لغيرِ ذلكَ، فتأكَّدَ ما أَخبرَ بهِ هنا بما كانَ يفعلُه هو صلعم.
          (الخامسُ): فيه دليلٌ على أنَّ مِنَ الفَصاحَةِ الاختصارُ، إلَّا إذا كانَ في الكلامِ ما(44) يدلُّ عليه(45)، يُؤخَذُ ذلكَ مِن قولِهِ: (وَلَا(46) يَتَنَفَّسُ فِي الإِناءِ) لأنَّ(47) مفهومَه إذا شَرِبَ لا غير.
          (السادسُ): فيه دليلٌ على(48) المَعطوفِ يكونُ مثلَ المَعطوفِ عليه في الوجوب أو في غيرِ(49) ذلكَ، وهو أيضًا مِن الفصاحةِ، يُؤخَذُ ذلكَ مِن أنَّه لمَّا نَهى أوَّلًا عَطَفَ ما بعدَه عليهِ ولم يُعِدِ النَّهيَ(50).
          (السابعُ)(51): يَرِدُ هُنا بحثٌ: هل النَّهيُ مَقصورٌ على هذهِ الأشياءِ أو يتعدَّى حيثُ وجدنا العِلَّةَ؟ فعلى القولِ بأنَّه تعبُّدٌ فلا يتعدَّى(52)، وإذا قلنا: بفَهمِ العِلَّةِ كما أبدينا فحيثُ وجدنا العِلَّةَ(53) عدَّينَا الحُكمَ، وهذا هو الأظهرُ والله أعلمُ. /


[1] زاد في (ل): ((عن أبيه)).
[2] في (م) و(ل): ((يأخذن)).
[3] زاد في (ج) و(ل) و(ف): ((وَلَا يَسْتَنْجِي بِيَمِينِهِ وَلَا يَتَنَفَّسْ فِي الْإِنَاء))، وليس في(ج) قوله: ((الحديث)).
[4] قوله: ((هو)) ليس في (م).
[5] في (م): ((قد))، وفي (ل): ((فقد)).
[6] في (ل): ((يتقرب)).
[7] في (م): ((القبيل ولما)).
[8] في (م): ((لهذه)).
[9] في (م): ((من)).
[10] قوله: ((لأنه أولُ ما وقعتِ المعصيةُ من البشرِ تولَّد عنها الحَدَثُ)) ليس في (م).
[11] في (م): ((ولذلك)).
[12] في (ل): ((بشيء باطلاً))، وفي (ف): ((بشيء باطلاً إلا لحكمة)).
[13] زاد في (ف): ((في)).
[14] قوله: ((وقلة)) ليس في (ل). وبعدها في (ل): ((الشهامة والنهامة)) وفي (ف): ((النهامة)).
[15] في (ج): ((الشرب)).
[16] في (ج) و(م) و(ل) و(ف): ((الشراب)).
[17] في (ل): ((يتنبه)).
[18] في (م): ((ويحصل)).
[19] زاد في (ل): ((قد)).
[20] في (ج): ((عن النبي)).
[21] قوله: ((الأشياء)) ليس في (م).
[22] قوله: ((زيادة)) ليس في (م).
[23] في الأصل (ط): ((على مجار الشيء))، والمثبت هو الصواب، وفي (ج): ((النبي)).
[24] في (ج) و(م): ((يأخذن أحدكم))، وفي (ل) و(ف): ((يأخذن))، وبعدها في (ل): ((ذكره بيمينه)).
[25] قوله: ((حين)) ليس في (ج)، وقوله بعدها: ((كان)) ليس في (م).
[26] في (ج) و(م) و(ل) و(ف): ((مجاوراً للبول)).
[27] في (ج): ((هل)) بدون الواو.
[28] في (ل) و(ف): ((الإشارات)).
[29] قوله: ((إن خاطر)) ليس في (ط) و(ج) والمثبت من النسخ الأخرى.
[30] في (ل): ((وتحتاج)) وفي (ف): ((فيحتاج)).
[31] قوله: ((أن)) ليس في (ل)، وقوله بعدها: ((تعرف)) ليس في (م)، وفي (ف): ((ويحتاج الأن إلى بيان شمال)).
[32] زاد في (م): ((أهل))، وقوله: ((الجثة)) ليس في (ل).
[33] في (ج): ((بوجه))، وفي (ف): ((ويعنون به)).
[34] زاد في (م) و(ل) و(ف): ((هو)).
[35] في (ج): ((مفتاحا)).
[36] في (ط): ((عن يمين)).
[37] في (م): ((يشاهدون من المكاشفات)).
[38] زاد في (ج) و(ل): ((أن))، وفي (ل): ((لما أن يسمع أن)).
[39] في (ل): ((البينة)) وفي (ف): ((التنبيه)).
[40] زاد في (ج): ((إليه)).
[41] قوله: ((ليس إلا)) ليس في (ج) و (م).
[42] في (ج) و(م): ((الحديث)).
[43] في (ل) و(ف): ((يمينه إلى وجهه)).
[44] في (ج): ((لا)).
[45] كذا في النسخ.
[46] في (ل) و(ف): ((لا)) بلا واو.
[47] في (ط): ((ولأن)) والصواب المثبت من النسخ الأخرى.
[48] زاد في (ل): ((أن)).
[49] في (ج): ((في الجواب أو في غير))، وقوله: ((في)) ليس في (ل) و(ف).
[50] قوله: ((السادس: فيه دليلٌ على المَعطوفِ يكونُ مثلَ المَعطوفِ عليه في الوجوب أو في غيرِ ذلكَ، وهو أيضاً من الفصاحةِ، يُؤخَذُ ذلكَ من أنَّه لمَّا نَهى أولاً عَطَفَ ما بعدَه عليهِ ولم يُعِدِ النَّهيَ.)) ليس في (م).
[51] في (م): ((السادس)).
[52] كذا في (ل) و(ف)، وفي النسخ الأخرى: ((تتعدى)).
[53] قوله: ((فعلى القولِ بأنَّه تعبُّدٌ فلا تَتعدَّى، وإذا قلنا بفَهمِ العِلَّةِ كما أبدينا فحيثُ وجدنا العِلَّةَ)) ليس في (م).