240-قوله صلعم : (تَرَى المُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ...) الحديثَ⁽¹⁾. [خ¦6011]
          ظاهر الحديث يدلُّ على أنَّ المؤمنين كلَّهم وإن تباينوا أو تباعدوا⁽²⁾ كالجَسَد الواحد، كلَّما أُصيب أحدهم بشيء⁽³⁾ أصاب الجميع منه نِسْبة⁽⁴⁾. وَالكلام عليه مِن وجوه:
          منها: أنَّ فيه تقويةً للتوجيهِ⁽⁵⁾ الذي وجَّهناه آخر الكلام على الحديث قبلَه، لأنَّه ╕ جعل توادَّ المؤمنين⁽⁶⁾ وتراحمهم مخالفاً⁽⁷⁾ لتوادِّ غيرهم وتراحمهم. وهل⁽⁸⁾ التراحم والتوادُّ⁽⁹⁾ والتعاطف ألفاظٌ مترادفة⁽¹⁰⁾ والمعنى واحد، أو لكلِّ⁽¹¹⁾ لفظ معنى خاصٌّ؟ وهل هذا للمؤمن⁽¹²⁾ الكامل الإيمان، أو لكلِّ مَن جُعل⁽¹³⁾ تحت هذا الاسم؟ ومَا الحكمة بأنْ مَثَّل الإيمان بالجسد والمؤمنين بالأعضاء منه؟.
          فأمَّا قولنا: هل الثلاثة الألفاظ بمعنى⁽¹⁴⁾ واحد، أو لمعانٍ؟ فنقول والله أعلم: بل هي لمعانٍ مختلفة.
          فقوله صلعم : (فِي تَرَاحُمِهِمْ) معناه: أنَّ الرحمة التي جُعِلت في قلوب المؤمنين بعضهِم لبعض⁽¹⁵⁾ هي مِن أجل أُخوَّة الإيمان، لا لِوُلوعٍ ولَا لإحسان ولَا لشيء⁽¹⁶⁾ خلاف الإيمان، هذا هو أصلها. وقد تتزايد⁽¹⁷⁾ للوجوه الموجبة لرحمته ╡ كما جاء في حقِّ الجار: أنَّ له⁽¹⁸⁾ بنفس الجوار حقَّاً⁽¹⁹⁾، فإن كان مؤمناً كان له حقَّان، فإن كان قريباً كان له ثلاثة حقوق: حقُّ الجوار، وحقُّ الإيمان، وحقُّ القرابة. وكذلك إن / كان صهراً مِن الأصهار زادَ حقَّاً رابعاً⁽²⁰⁾. فكذلك الرحمة التي بين المؤمنين تتضاعف بحسب الموجبات للرحمة، مثلما فعل سيِّدنا صلعم حِين رُفِع له ابنُ بنته، ونَفْس الصبي تتقعقع كأنها شَنٌّ، ففاضت عيناه ◙ ، فقال سعد: يا رسول الله ما هذا؟ قال: «هذهِ رَحْمةٌ جعلها الله في قلوب عباده⁽²¹⁾، إنَّما يرحمُ اللهُ مِن عبادِه الرُّحماءَ» لَمَّا اجتمع⁽²²⁾ له صلعم رحمة الإيمان، ومَا رأى مِن صِغر الصَّبي، ومِن شِدَّة معالجة الموت، ومَا بينهما مِن النَّسَب⁽²³⁾ حتَّى سالت تلك الدَّمعة المباركة لتضاعف الرحمة عندَه.
          و(تَوَادِّهِمْ) كناية⁽²⁴⁾ عن التواصل بينهم واستعمالهم أسبابه⁽²⁵⁾، وأصله أيضاً الإيمان، وقد يتضاعف لموجباته مثل المهاداة لقوله ◙ : «تهادوا تحابُّوا» والتَّزاور والجوار والمشاركات عند الضرورة⁽²⁶⁾، وكلُّ ما يتولَّد عنه ودٌّ مَا فإنَّ الأصل⁽²⁷⁾ فيه توادُّ الإيمان، ويتضاعف بحَسَب موجباته بين النَّاس.
          وأمَّا التعاطف⁽²⁸⁾ فهو تقوية بعضهم لبعض، كَما يعطف طرف الثوب عليه ليقوِّيه، وَهو مِن باب قوله ╡ : {وَتَعَاوَنُوا⁽²⁹⁾ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}[المائدة:2] فإنَّ أصل⁽³⁰⁾ الإيمان هو الذي عطف قلوب بعضهم على بعض، كما قال جلَّ جلاله في كتابه: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال:63] وكقصَّة / موسى ◙ ، حين وجَد⁽³¹⁾ الإسرائيليَّ مع القبطيِّ، استنصرَ الإسرائيليُّ⁽³²⁾ بموسى ◙ ، مِن أجل جَمعِ الإيمان بينهما، فوكز موسى ◙ القبطيَّ مِن أجل توادِّ الإسرائيليِّ، فكان مِن قصَّتهما مَا أخبر⁽³³⁾ ╡ في كتابه. وقد يتزايد التعاطف بينهم أيضاً لموجباته⁽³⁴⁾، وأصله الإيمان كقصَّة موسى ◙ ، لَمَّا رأى ضعف الإسرائيليِّ وتعدِّي القبطيِّ عليه وظُلمَه له، وقلَّة أنصار⁽³⁵⁾ الإسرائيليِّ، تأكَّد التَّعاطف عند موسى ◙ ، حتَّى⁽³⁶⁾ أخذ بالضربة الواحدة روحَ القبطي.
          وأمَّا قولنا: هل هذه الأوصاف للمؤمن الكامل الإيمان، أو لكلِّ مَن دخل تحت هذا الاسم؟ فقد بان لك بضرب المثل بسيِّدنا⁽³⁷⁾ صلعم وبموسى ◙ ، أنَّ ذلك مِن أوصاف الإيمان الكامل، وَلا يُطلِق الشَّارع صلعم لفظ الإيمان إلَّا على كماله، ولذلك⁽³⁸⁾ بيَّن ◙ أوصاف المؤمنين⁽³⁹⁾ ليعرف كلُّ أحدٍ قسمتَهُ أين هي؟ وَكفى به⁽⁴⁰⁾ عَلى نفسه حسيباً. وَلا يَغترَّ بإطراء بعض النَّاس لَه، فإنَّ المخبِر صادقٌ، والنَّاقد⁽⁴¹⁾ بصير، وإليه المرجع والمصير.
          وأمَّا قولنا: مَا الحكمة بأنْ شبَّه ◙ الإيمان بالجسد وأهله بالأعضاء؟ فذلك مِن أبدع ما يكون في التشبيه، لأنَّه لمَّا كان الإيمان أصلاً وَله فروع _وهي جميع التَّكليفات على نحو ما جاءت به الشَّريعة المحمَّدية_ فإذا نقص مِن / التِّكليفات شيء أو دخل في بعضها شَيْنٌ شان ذلك الشينُ الأصلَ الذي هُو الإيمان، لأنَّه يقتضي بوضعه الانقيادَ وَالامتثال، فكذلك الجسد، هو⁽⁴²⁾ واحد مثل أصل الشجرة، وأعضاؤه هُم المؤمنون، لأنَّهم قد تفرَّقوا مثل فروع الشجرة، فإذا كان شينٌ مَا في أحد الفروع شانَ ذلك الأصل، وإذا ضرب أحد في غصن مِن أغصانها اهتزَّت الأغصان كلُّها وتداعت لتلك الضربة كلِّها بالتحرُّك⁽⁴³⁾ والاضطراب، فكذلك الجسد إذا ضرَبتْ⁽⁴⁴⁾ يد القَدَر عضواً منه ممَّا⁽⁴⁵⁾ يؤلمه تَداعَت له سائر الأعضاء، كَما أخبر⁽⁴⁶⁾ الصَّادق صلعم.
          وفيه دليل على مَا أعطى⁽⁴⁷⁾ الله ╡ لسيِّدنا⁽⁴⁸⁾ صلعم مِن الفصاحة والبلاغة.
          وفيه دليل لمذهب مالك ⌂ الذي يقول: إنَّ الإيمان يزيد وينقص؛ يُؤخذ ذلك مِن كونه ◙ ، بيَّن صِفات الإيمان الكامل، والكمال ضدُّه⁽⁴⁹⁾ النقص، والنقص ليس على حدٍّ واحد، فبانت الزِّيادة والنَّقص. وفي هذه الأوصاف دليل لطريق أهل السلوك لأنَّهم يطلبون أنفسهم بتوفية أوصاف⁽⁵⁰⁾ الإيمان في أنفسهم ومع غيرهم. وقد ذُكر عَن بعضهم أنَّه جاءه بعضُ إخوانه يطلب منه سلفاً، فلمَّا أخرج له⁽⁵¹⁾ السَّلف خرج وهو باكٍ فقال له أخوه: مَا أبكاك؟ قال له: تفريطي في حقِّك، حتَّى جئت تطلب منِّي السَّلف. واستغفرَ الله ممَّا جرى منه، هَكذا فَكُنْ⁽⁵²⁾، وَإلَّا فالأصل معلول. /