بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: نهى النبي يوم خيبر عن لحوم الحمر ورخص...

          217- قوله(1): (نَهَى النَّبِيُّ صلعم يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الحُمُرِ...) الحديث. [خ¦5520]
          ظَاهِرُ الحَدِيْثِ يَدُلُّ على تحريم لحوم الحُمُر الأهلية، والرُّخصة في لحوم الخيل، والكلام عليه مِن وجوه:
          منها: أنَّ ترخيصه ◙ في لحوم الخيل يوم خيبر إنما(2) كان مِن أجل الضرورة، لأنَّه جاء مِن طريق آخر في هذا الحديث أنَّهم ♥(3) لم ينحروا الخيل(4) يوم خيبر إلا مِن أجل المجاعة التي لحقتهم.
          وَفِيْهِ دَلِيْلٌ لمالكٍ ☼ كما قدَّمناه(5) في الحديث قبل، أنَّه وافق السُّنَّةَ في كراهيته(6) أكل لحوم الخيل، لأن لفظة(7): (رَخَّصَ(8)) عند العذر تقتضي المنع أو الكراهية أقلها(9) عند عدم العذر.
          وهنا بحث وهو أن يقال: هل تحريمه صلعم لحوم الحُمُر وترخيصه في لحوم الخيل / تَعَبُّدٌ، لا يُعقَل له مِن جهة الحكمة معنى أو تُعقل الحكمة في ذلك؟
          فأمَّا قولنا: هل تُعقل الحكمة في ذلك؟ فقد قال بعض العلماء: إنَّ الحكمة في تحريم الحُمُر الأهلية هو أنَّ الحمير(10) ليس في الحيوانات أبلدَ منها، فَآكِلُ لحمها يكتسب منه ذلك، فلإشفاقه ◙ على أمَّته مَنَعهم مِن أكل ما لهم(11) فيه ضرر في الدنيا و الآخرة، كما حرَّم مولانا سبحانه الميتة وأحلَّها بعد ثلاث، فذكر بعض العلماء(12) مِن الحكمة في ذلك أنَّ الميتة فيها سُمِّيَّات(13) كثيرة، فمنَعَنا مِنْ أَكْلِها مِن أجل الضرر الذي يعود علينا مِن سُمِّها.
          فإذا بقي المرء ثلاثًا اشتدَّت سُمِّيته في بدنه حتى عادت أشدَّ مِن سُمِّيَّةِ(14) الميتة فأُبِيح لنا إذا ذاك أكلها لعدم الضرر لأكلها(15) بل يحصل له بها قوى ومنافع في إبقاء رمقه رحمةً مِن الله تعالى بعبيده.
          وَفِيْهِ دَلِيْلٌ على أنَّه إذا اجتمع ضرران أُخِذ أقلُّهما(16)، يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِن أنَّه لَمَّا كانت لحوم الحمر تُكسِب البلادة(17)، ولحوم الخيل تُكسِب القساوة كما ذكرنا في الحديث قبل أرخص(18) في لحم الخيل التي هي أقل ضررًا.
          وفي قوله: (يَوْمَ خَيْبَرَ) وجهان:
          (الواحد): أنه دالٌّ على(19) تثبُّته في النقل، لأن ذكر الموطن الذي جرَتْ فيه(20) النازلة دالٌّ(21) على حقيقة العلم بما أخبر به.
          و(الوجه الآخر): وهو كون القضية في موطن مشهور لجمع كثير قد يرويه غيره فيحصل(22) فيه تصديق له، والتواتر في الحديث يزيده / قوة، لأنَّه ينقله مِن كونه خبرَ آحاد إلى التواتر وهو أعلى درجة.
          وينبغي(23) مِن جهة الفقه أن يُعَدَّى(24) الحكم بحيث ما قدر المرء أن يزيد في إخباره عن ما أخبر به قرينةَ حال تصدِّق مقالته(25) فَعَلَ، وفيما ذكرناه دليل على لطف الله تعالى بعبيده فيما أحلَّ(26) لهم وفيما حرم عليهم.
          وَفِيْهِ دَلِيْلٌ أيضًا(27) على أنَّه ╡ لا يُحلُّ أو يُحرِّم إلا عن(28) حكمة وفائدة لنا، عَقَلها مَن عَقَلها وجَهِلها مَن جَهِلها.
          وَفِيْهِ دَلِيْلٌ على استغنائه ╡ عن جميع خلقه وعن تعبُّداتهم، إذ كلُّ ذلك عائد بالنفع لهم، وهو الغني المستغني، ولذلك تنعم أهل العقول والمعاملات بكلِّ حكم يصدر عن الله تعالى، لعلمهم بأنَّ ذلك رحمة منه ╡ إليهم لم يَشُكُّوا في ذلك فرجع لهم بقوَّة يقينهم(29) التنعم بالنعماء والبلاء على حدٍّ سواء.
          ولذلك(30) روي عن بعضهم أنَّه قال: لا أبالي على أي(31) حالة أصبحت وأمسيت، إنما هي(32) حالة شكر أو صبر وكلاهما رحمة من الله تعالى، هؤلاء فَهِمُوا قوله ╡ : { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}[المائدة :50] وقول رسول الله صلعم : «وَاللهِ، مَا يَقْضِي اللهُ لِمُؤْمِنٍ قَضَاءً(33) إِلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ» فمَن عرف عفَّ واستراح، ومَن جهلَ تكالبَ و ما أَنْجَح(34)، ومَن طلب العزَّ بالجهل وقع الهوان به، بل هان وذلَّ(35).


[1] قوله: ((قوله)) ليس في (ج).
[2] في (م): ((أنه)).
[3] زاد في (ط): ((أنهم)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[4] في (ج): ((الحمر)).
[5] في (ج): ((كما قدمنا)).
[6] في (م) و (ج): ((كراهية)).
[7] في (ط): ((لأنه لفظ)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[8] في (ج): ((ترخص)).
[9] قوله: ((أقلها)) ليس في (م) و (ج).
[10] في الأصل(ط) و (م) و (ج): ((الحمير)).
[11] في (م) و (ج): ((من كل ما عليهم)).
[12] في (م): ((ذكر بعض الحكماء)) وفي (ج): ((ذكر بعض العلماء)).
[13] في الأصل(ط) و (م) و (ج): ((سُمِّيَّة)).
[14] في (م) و (ج): ((سم)).
[15] في (ج): ((بأكلها)).
[16] في (ط): ((أقلها)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[17] في (ج): ((بلادة)).
[18] في (ج): ((رخص)).
[19] قوله: ((على)) ليس في (ج).
[20] في الملف: ((الموطنين اللذين جرت بهما)) وفي (م): ((الموطنين اللذين جرت فيهما)) وفي (ج): ((الموطنين الذين جرت فيه)).
[21] في (ج): ((دالَّة)).
[22] صورتها في (م): ((محتمل)).
[23] في (ج): ((ويبقى)).
[24] في (م): ((تعدي)).
[25] في (ط): ((مقالته ذلك)). والعبارة في (م): ((أن يزيده في إخباره على ما أخبر به قرينة حال تصديق ومقالته فعل)).
[26] في (ج): ((فيهما حلَّ)).
[27] قوله: ((أيضا)) ليس في (م) و (ج).
[28] في (ج): ((لا يحلل أو يحرم إلا على)).
[29] في (ج): ((نفسهم)).
[30] في (م) و (ج): ((ولذلك)). كالاصل.
[31] قوله: ((أي)) ليس في (م).
[32] قوله: ((هي)) ليس في (ج).
[33] في (ج): ((للمؤمن من قضاء)).
[34] في (المطبوع): ((نجح)).
[35] العبارة في (م): ((وقع الهوان به وما عز)). وفي (ج): ((وقع بذلك الهوان به وما عزَّ)).