بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: لله أرحم بعباده من هذه بولدها

          238- قوله: (قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صلعم سَبْيٌ...) الحديثَ(1). [خ¦5999]
          ظاهر الحديث الإخبار بقدر عِظم(2) رحمة الله تعالى بعباده، بمشاهدة ذلك المثال(3). والكلام عليه مِن وجوه:
          منها: قوله: (بِعِبَادِهِ) هل هو عموم للكافر والمؤمن والحيوانات على اختلافها وغيرها مِن جميع المخلوقات، أو ذلك خاصٌّ بالمؤمنين، فيكون اللَّفظ عامَّاً وَمعناه الخصوص؟ لفظ (العبيد)(4) يقتضي العموم، وقرينة الحال _وهو ذكر طرحها لولدها في النَّار_ إشارة إلى تخصيص المؤمنين، وتطييب قلوب السامعين منهم بأنَّ(5) مولاهم الذي مَنَّ عليهم بالإيمان به(6) لَا يعذِّبهم بناره. وقد جاء هذا المعنى صريحاً في الكتاب والسُّنَّة.
          أمَّا الكتاب فقوله جلَّ(7) جلاله: / {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} إلى قوله: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:156-157]، فثبتت(8) للمؤمنين الذين هم بتلك الأوصاف المذكورة. وَأمَّا السُّنَّة فبالحديث(9) المتقدِّم، وهو قوله صلعم : «ما حقُّ اللهِ على عباده؟ وما حقُّ العبادِ على الله.. ثم ذكر أن حق العباد على الله(10) إذا عَبَدُوه ولا يُشْرِكوا به شيئاً ألَّا يعذِّبهم».
          واحتمل وجهاً آخر، وهو: أن يكون معنى المثال: الإخبارَ بأنَّ رحمة الله تعالى لا يشبهها شيءٌ لمن سبقتْ له فيها نسبة، مِن أي العِباد كان حيواناً أو غير حيوان، وأنَّها لا يضرُّ معها شيء. وبقي العلم بتحقيق مَن سَبق لَه فيها نصيب. وَلذلك قال الفضلاء ═: لا سَخَطَ بعدَه أبداً. يَعنُون مَن سَبق له في(11) الأزل رضاءٌ(12) فلا يضرُّه مع السابقة شيء، ولذلك قيل: كم مِن صديق في القَبَا، وكم من عدوٍ في العَبا. نظراً إلى(13) السَّابقة بماذا(14) سبقت؟
          وقد سأل بعض أهل التَّشَيُّعِ بعضَ أهل السُّنَّة فقال: إنَّ الرحيم مِن حقيقته ألَّا يعذِّب أحداً مِن عباده(15)، فكيف يعذِّب عِباده بالنَّار، وهو الرَّحمن الرَّحيم؟ فجاوبه(16) السنِّي بأنْ قال: إنَّ لله(17) سبحانه أسماء عديدة منها (المنتقم)، وكلُّ أسمائه ╡ حقيقة لا مجاز فيها، وَلا بدَّ لكلِّ اسم أن يُظْهِر ما يدلُّ عليه في عالم الوجود والخلق. فمَن خَصَّه بالرَّحمة فلا يعذِّبه، ومن خصَّه بالانتقام فلا يرحمه. /
          ومِن حكمته ╡ أن يخصِّص مِن عباده مَن شاء بما شاء، على مقتضى كلِّ اسم(18) وصِفة، وقد قال جلَّ جلاله: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر:49- 50] فبُهت الشِّيعي وكأنَّه أُلقم حجراً، أو كما جرى(19).
          واحتمل(20) وجهاً ثالثاً: وهو لأهل القلوب، وهو: أن يكون معنى الحديث: الحثُّ على التعلُّق بالله تعالى والزهد في غيره، لأنَّ العبادَ مِن شأنهم طلبُ الحوائج وطلب الخيرات، والاستعاذة مِن المكروهات والتسبُّب في ذلك، وطلب بعضهم مِن بعض المساعدة على ذلك، والعادة بينهم أنَّهم لا(21) يقصدون في الحوائج ولا تتعلَّق آمالهم إلَّا بمَن فيه رحمة وإحسان، فأخبرهم الصَّادق صلعم أنَّ رحمة المولى سبحانه بعباده عَلى العموم أكثرُ مِن رحمة هَذه المرأة بولدها _الَّتي قد خَرَقَت(22) العادةَ المألوفةَ مِن النِّساء على أولادهنَّ_ ببونٍ عظيم.
          فمن يُرِد طلبَ خيرٍ أو دفع ضرٍّ أو أيَّ حاجة أرادها فليقصد مَن رحمتُه أعظم مِن رحمة هذه بولدها، فهو أنجح له في(23) حاجته، وأيسرُ له فيما يؤمِّله، ولذلك قيل(24): مَن كان قاصداً فَلْيقصد مولاه، فهو سبب إلى رحماه.
          وقال بعضهم:
هَبْني أتيتُ بلا مَعْنـىً ولا سَببٍ                      أَلَيْسَ أنتَ إلى مَعْرُوفِكَ السَّببُ
          وفيه دليل على جواز النظر إلى النِّساء اللَّاتي يُسبَيْن(25) قبل القَسْم. يُؤخذ ذلك مِن نظره صلعم / إلى هذه المرأة، وإرشاده للصَّحابة ═ إلى نظرها.
          وفيه دليل على جواز ضرب المثال بما يُعقل ويُدْرَك بالحواسِ، تشبيهاً(26) بما لا يُعقل ولا يُدرك بالحواسِّ(27)، لتحصل فائدة المعرفة بالشيء مِن وجهٍ ما، وإن كان لا يحيط المثال به مِن كلِّ الجهات. يُؤخذ ذلك مِن ضربه صلعم المثال عَلى عِظم(28) رحمة الله تعالى التي لا تصل إليها الأفكار ولا العقول، برحمة هذه المرأة عَلى ولدها، ومنه بعينه يستدلُّ على أنَّ صفاته سبحانه لا تشبه صفات المحدثات، وإن شاركَتها في التَّسمية، يُؤخذ ذلك مِن قوله صلعم : (لله أرْحَمُ(29) بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا) وَالزِّيادة غير محدودة، فلا شَبَه بينهما وَلا اشتراكَ إلَّا في التسمية ليس إلَّا.
          وفيه دليل على ترجيح أخفِّ الضررين، يُؤخذ ذلك مِن كونه صلعم ترك هَذه المرأة تُشرِكُ أطفالَ(30) السَّبي في الرَّضاعة، وربَّما إذا كبروا يتناكحون وهم إخوةٌ مِن الرَّضاعة(31)، وهذا لا يجوز، فلمَّا(32) كان هذا الوجه محتمِلاً(33) أن يكون وألَّا يكون، وسَدُّ رَمَقهم في الوقت ممَّا الحاجة إليه أكيدة، تركها تفعل ما هو المرجَّح(34)، وبهذا يُستدلُّ أيضاً على(35) أنَّ الضرورة لها حكم عَلى حِدَة، لأنَّه لولا(36) ضرورة الأطفال في الوقت إلى الرَّضاع ما تركها صلعم تفعل ذلك، مِن أجل العلَّة المتقدِّم ذكرها، وهذا البحث المتقدِّم هو(37) عَلى أنَّ الكفَّار / مخاطبون بفروع الشريعة.
          وفيه دليل وَهو أقوى في البحث، وهو: أنَّ الكفَّار ليسوا مخاطبين بفروع الشريعة(38)، لأنَّ أطفال الكفَّار في الدِّين مثل آبائهم، وإنْ مَلَكَهم المسلمون، فلو كانوا مخاطبين بفروع الشَّريعة لكان سيِّدنا صلعم يقول للصحابة في ذلك شيئاً، لأنَّه ◙ المشرِّع، وسكوته عند الحاجة إلى البيان لا يجوز.
          ويترتَّب عليه مِن الفقه أنَّ أولاد الكفَّار إذا مُلِكوا وهم دون البلوغ أن يُحكَم لهم بالكفر، وإن أسلموا، إلَّا أن يكون إسلامهم بعد بلوغهم. وقد نصَّ الفقهاء على أنَّ مَن سُبِي منهم دون(39) البلوغ، وجُبِر على الإسلام أو أَسلَم مِن تلقاء نفسه ثمَّ مات قبل البلوغ، أنَّه لا يُدفن مع المسلمين وَلا يُصلى عليه، فإنَّ حُكمه حُكم الكفَّار، إلَّا خلافاً شاذَّاً(40). هذا هو الغالب على الظنِّ.
          وفيه إشارة لطريق المحبِّين، يُؤخذ ذلك مِن حال المرأة المذكورة في الحديث: لَمَّا كان حبُّ ابنها قد شغَفَ فؤادَها بذَلَت نفسَها في أشقِّ الأشياء عليها فيما يشبهه في السنِّ، فكيف حالها لو أنَّها وجدت ابنَها؟! لأنَّ كثرة الرَّضاع والحَلْب تُضعِف(41) النِّسَاء، وكثير منهنَّ إذا كان ابنها كثيرَ(42) الرَّضاع يُهلِكها، ولا تقدر على إرضاعه. وَهذه بكثرة وَجْدِها عَلى ابنها قد عَمَّت بالرَّضاع كلَّ / مَولود لَقِيَتْ لشَبَهِه بابنها، كما أُخبر عن قيسِ ليلى حيث(43) قال:
أحـبُّ لحبِّها السُّودَان حتَّى                      أُحـبُّ لحُبِّهـا سُودَ الكـلابِ
          كذلك المحبُّ لا يُبَالي ما لقي في حقِّ محبوبه.
          ومثل ذلك ما أخبر مولانا جلَّ جلاله في كتابه العزيز في قصَّة يوسف ◙ مع أخيه بنيامين(44) حين اجتمعا(45). فقال بنيامين(46) ليوسف ♂: لا أفارقك أصلاً. فقال له يوسف ◙ (47): لا يمكن ذلك إلَّا(48) أن تقرَّ على نفسك بالسَّرقة. فرضي بإلقاء الوصف الذميم على اليد السَّالمة مِن العار والخيانة في حَقِّ(49) الإقامة مع الحبيب؛ فقال تعالى: {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ} إلى قوله ╡ : {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [يوسف:70- 76] هان عليه وصف الخيانة، بتوفية رفع الأمانة، بخلوة الحبيب(50) دون رقيب، هذا في حقِّ مخلوق فانٍ(51)، فكيف في حبِّ خالق باقٍ؟.
          هانت والله عليهم النفوس، فبذلوها في حبِّ مولاها، فوصل ╡ حبلَهم بحبله، وأدناهم وأسقاهم، فأحياهم، أهانوها فرفعوها، وأذلوها فأعزُّوها، وأفردوها فجمعوها، وحرموها فأسعدوها، وقطعوا العلائق(52) فأَمِنوا البوائق، وحادوا عمَّا(53) سواه فلم يجدوا إلَّا إيَّاه، ومنه(54) قول بعضهم: تفردتُ عن الأكوان بحبِّه، وكذلك عبد الفرد لايزال فرداً، فهَنَاهم مِن هَنَاهُمْ بِرِضَى مولاهم يا طوباهم حين لقاء مولاهم(55). فيا مَن أسعد(56) مُحيَّاهم: بحرمتهم إلَّا أوردتنا مَواردهم، / يا كريم يا وهَّاب.
          صلى(57) الله على سيدنا محمَّد سيد الأنام(58) وعلى آله يا ربِّ وسلِّم.


[1] في (ب): ((عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ ╩: قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صلعم سَبْيٌ، فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْيِ قَدْ تَحْلُبُ ثَدْيَهَا تَسْقِي، إِذ وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ، فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ، فَقَالَ رسول الله صلعم : أَتُرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟ قُلْنَا: لاَ، وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لاَ تَطْرَحَهُ، فَقَالَ: الَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا)).
[2] في (ب): ((عظيم)).
[3] في (ب): ((الشأن)).
[4] في (ج): ((العبيد لفظ)).
[5] في (ج) و(ب): ((أن)).
[6] قوله: ((به)) ليس في (ب).
[7] في (ج): ((الكتاب فجلَّ)).
[8] في (ب): ((فثبت)).
[9] في (ب): ((كالحديث)).
[10] قوله: ((ثم ذكر أن حق العباد على الله)) ليس في (م) والمثبت من النسخ الأخرى.
[11] في (ج): ((من)).
[12] في (ب): ((رضى)).
[13] في (ج): ((نظر إلى)).
[14] في (م): ((بما إذا)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[15] زاد في (ب): ((بالنار)).
[16] في (ت): ((مجاوبة)).
[17] في (ج): ((الله)).
[18] في (م): ((بما شاء على مقتضى اسم)) والمثبت من (ب) و(ت). وفي (ج): ((بما شاء بمقتضى كلِّ اسم)).
[19] قوله: ((أو كما جرى)) ليس واضحاً في (م) والمثبت من النسخ الأخرى.
[20] في (م): ((احتمل)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[21] في (ب): ((أن لا)).
[22] في (م) و(ج) و(ت): ((خرقت)).
[23] في (م): ((من)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[24] في النسخ: ((قال)) ولعل المثبت هو الصواب والله أعلم.
[25] في النسخ: ((الذين يسبون)) ولعل المثبت هو الصواب والله أعلم.
[26] في (ب): ((وتشبها)).
[27] قوله: ((تشبيهاً بما لا يعقل ولا يدرك بالحواس)) ليس في (م) والمثبت من النسخ الأخرى، وبعدها في (ب): ((لتحصيل)).
[28] في (ت): ((عظيم)).
[29] في (م): ((من قوله ╡ أرحم)) والمثبت من (ج). في (ت): ((من قوله ◙ لله أرحم)). في (ب): ((الله أرحم)).
[30] في (ب): ((أولاد)).
[31] في (ج) و(ت): ((الرضاع)).
[32] في (ب): ((فكما)).
[33] في (ج): ((محتمل)).
[34] كذا في (م) وفي باقي النسخ: ((الأرجح)).
[35] قوله: ((على)) ليس في (م) و(ت)، والمثبت من (ج) و(ب)، وعبارة (ب): ((وبهذا أيضاً يستدل على)).
[36] زاد في (ب): ((الضرورة أي)).
[37] قوله: ((هو)) ليس في (م) والمثبت من النسخ الأخرى.
[38] قوله: ((وفيه دليل وَهو أقوى في البحث، وهو: أنَّ الكفار ليسوا مخاطبين بفروع الشريعة)) ليس في (ج).
[39] في (ب): ((قبل)).
[40] زاد في المطبوع: ((لا يعوَّل عليه)).
[41] في (ج): ((يضعف)).
[42] كذا في (ج)، وباقي النسخ:: ((قوي)).
[43] زاد في (ج): ((إنه)).
[44] في (ت): ((يامِن)).
[45] في (ج): ((◙ أخيه يامن اجتمعا)).
[46] في (ج) و(ت): ((يامن)).
[47] قوله: ((لا أفارقك أصلاً. فقال له يوسف ◙)) ليس في (ب).
[48] زاد في (ب): ((بعد)).
[49] في (م) و(ج) و(ت): ((الخيانة في حق)) ولعل المثبت هو الأولى.
[50] في (ب): ((بخلوه مع الحبيب))، وفي (ت): ((بخلوه بالحبيب))، وفي المطبوع: ((لتوفية رفع الملامة وخلوه بالحبيب)).
[51] قوله :((فان)) ليس في (م) والمثبت من النسخ الأخرى.
[52] في (ب): ((العوائق)).
[53] في (ب): ((عمَّن)).
[54] كذا في (ج) وفي باقي النسخ: ((ومن)).
[55] في (ب): ((طرباهم حين يلقاهم)).
[56] في (ب): ((أسعدهم)).
[57] في (ت) و(ب): ((وصلَّى)).
[58] قوله: ((سيد الأنام)) ليس في (ب).