162-قوله صلعم : (إِنَّ المَلاَئِكَةَ تَنْزِلُ فِي العَنَانِ...) الحديث. [خ¦3210]
          ظاهر الحديث يَدُلُّ عَلَى خمسة أحكام: نزول الملائكة في السحاب، وتحدُّثهم بما قُضِيَ في السَّماء مِن الأمر، واستراق الشياطين السمع بما تتكلَّم به الملائكة، وإلقاء / الشياطين إلى الكُهَّان ما سمعت، وكذب الشياطين بما لم تسمع، وإلقاء كذبهم إلى الكُهَّان أيضًا، والكلام عليه مِنْ وجوه:
          منها: أن⁽¹⁾ يقال: ما معنى قوله: (قُضِيَ فِي السَّمَاءِ) والكيفية في ذلك؟ أمَّا مِن الحديث فليس فيه دليل على ذلك، وقد جاء في حديث آخر⁽²⁾ ما معناه: أنَّ الحق تعالى إذا أَطلعَ مَن أراد مِن ملائكته على كلامه القديم الأزلي الذي هو صفة ذاته الجليلة، تضرب الملائكة بأجنحتها ويَخِرُّونَ سُجَّدًا مِن الهيبة، فإذا قضي الحكم رَفَعَتِ الملائكة رؤوسها: {قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:23] فيُخبر أهلُ السماء⁽³⁾ السابعة للذين⁽⁴⁾ دونَهم، والذين دونهم للذين دونهم كذلك حتَّى إلى سماء الدنيا ويبقون يتحدَّثون به.
          وفي هذا مِن الفقه أنَّ كلام العبيد بما تكلَّم به المولى جلَّ جلاله عبادة، وإن كان المتكلِّم بذلك الأمر ليس هو⁽⁵⁾ مخاطَبًا به.
          وفيه أنَّ أهل العالم العلوي يعرفون جزئيات هذا العالم الأرضي، لأنَّهم إذا تكلَّموا بالأمور التي تَحْدُثُ فيه فقد عرفوا جزئياته.
          وفيه دليل على تيسير فهم كلام مولانا سبحانه على الملائكة، وأنَّهم يفهمونه بِلُغَتِنا على اختلافها، يؤخذ ذلك مِن أنَّ الشياطين إذا سمعته وألقته إلى الكُهَّان، وألقاه الكهان⁽⁶⁾ إلى النَّاس وهو على لُغتِهم، كلُّ قوم بلُغتهم على ما تقدَّم مِن مرور⁽⁷⁾ الأزمنة وبذلك فهموه. /
          وفيه دليل على ما ذكرناه⁽⁸⁾ أوَّلًا مِن أن كلام الله سبحانه ميسَّر بلُغتنا، مَتلُوٌّ حقًا كما هو بغير حرف ولا صوت، وأنَّ الكيفية في ذلك مجهولة لا علمَ لأحدٍ بها إلا الحكيم سبحانه وتعالى.
          وفيه دليل على فضيلة العالَم العُلوي على هذا العالَم، يؤخذ ذلك مِن كونهم هم الذين يتلقُّون أمر مولانا جلَّ جلاله أوَّلًا.
          وفيه دليل على انفصال السحاب مِن السماء، يؤخذ ذلك مِن قَوْله ╕: (يَنْزِلُ) لأنَّ النزول لا يكون⁽⁹⁾ إلا مِن شيءٍ منفصل عن شيء.
          وفيه دليل على كذب الكهان وأنَّه⁽¹⁰⁾ لا يجوز أن يُصدَّقوا، يؤخذ ذلك مِن أنَّهم يكذِبون ما يشاؤون ويَصدُقون في واحدة، فالحكم للغالب.
          وهنا بحث، لِمَ قال أوَّلًا: العَنان، ثمَّ قال: وهي السحاب؟
          والجواب: أنَّه يُقَال لكلِّ شيء اعترض بين شيئين: عَنَّ، فلمَّا اعترضت السحاب بين السماء والأرض، قال: (العَنَانِ) فلمَّا كان هذا لفظٌ⁽¹¹⁾ يَدُلُّ عَلَى أشياء كثيرة خصصه ╕ بِقَوْلِهِ: (وَهُوَ السَّحَابُ) رفعًا للإلباس⁽¹²⁾ وهذا مِن فصيح الكلام.
          وقوله (قُضِيَ فِي السَّمَاءِ) أي: أنَّه قد ذكر أهل السماء أنَّه أنفذ الأمر، فلمَّا⁽¹³⁾ أن كان ليس فيه رجوع أخبر عنه بأنَّه قد كان وقُضي، ولوجه آخر وهو أنَّ العرب تخبر بصيغة الماضي وتعني به المستقبل، وبالمستقبل وتعني به / الماضي.
          وفيه دليل على قدرة الشياطين على الكذب، يُؤخذ ذلك مِن قوله صلعم : (فَيَكْذِبُونَ⁽¹⁴⁾ مَعَهَا مِئةَ كَذْبَةٍ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) ولا تكون الكَذَبات إلا ممَّا يشاكل ذلك الأمر حتَّى يكون خروج ذلك الحق الذي سمعوه سببًا إلى تصديق كَذِبِهم، لأنَّه إذا كان الكَذِب الذي يكذبونه⁽¹⁵⁾ على خلاف ذلك الحق بالجملة لا يكون عليه دليل قوي في تصديقهم عند كُهَّانِهم.
          وفيه دليل: على أنَّ الخبر لا يُؤخذُ إلا مِن أهله، ولا يكون خبرًا إلا إذا كان على هذا الوجه وإلاَّ فهو ضرر كله، يؤخذ ذلك مِن أنَّ الأمر الذي تكلَّمت به الملائكة خيرٌ كله، فلمَّا سمعته الشياطين وألقته إلى الكُهَّان وزادوا معه الكذب عاد ضررًا، لأنَّه لا يجوز تصديق الكُهَّان وإن أخبروا بذلك الحق، فمَن صدَّق ذلك الحق عمِل محرَّمًا، فعاد عليه منه ضرر مقطوع به، ولو أخذه مِن أهله لكان خيرًا حقًا.
          ومما يشبه ذلك العلوم الشرعية إذا أُخِذت مِن أهل البدع والأهواء عادت ضررًا، لأنَّه لا يخلو أن يَدسُّوا⁽¹⁶⁾ فيها أو في بعضها مِن ذلك السُمِّ شيئًا ما، فعاد مِن أجل ذلك العلمُ الذي يؤخذ منهم الجهلُ خيرٌ منه، لأنَّه أَسْلَمُ، وقد قال صلعم : «إنَّ مِن العِلْمِ لَجَهْلًا». /
          ولذلك⁽¹⁷⁾ كان السلف رضوان الله عليهم لا يأخذون العلم⁽¹⁸⁾ إلا عن مَن فيه الدِّين والفضل، وقد حدَّثني بعض شيوخي أنَّه كان في زمانه سيِّد عالم وكان في وقته بِدعِيٌّ، فجاء ذلك البدعي يومًا فرغب مِن ذلك السيد أن يقرأ عليه آية مِن كتاب الله تعالى فامتنع مِن ذلك ولم يفعل، فقيل له في ذلك، فقال: لم يأتِ بتلك الآية إلا وقد دبَّر في مكيدة فليس طلبه ذلك تعلُّمًا فلا أفعل، فاحتاط لدينه⁽¹⁹⁾ وذلك الأَوْلى⁽²⁰⁾ والأحسن.