181- قولها: (سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلعم عَنْ ِالْتِفَاتِ الرجل⁽¹⁾ فِي الصَّلاة...) الحديث. [خ¦3291]
          ظاهر الحديث الإخبار بأنَّ التفات الرجل في صلاته نقص فيها⁽²⁾ يأخذ الشَّيطان منها⁽³⁾، والكلام عليه مِن وجوه:
          منها أنْ يقال: هل هذا خاصٌّ بالرجال أو ذلك سواء للرجال والنساء؟ ولِمَ قال: يختلسه الشَّيطان ولم يعبِّر⁽⁴⁾ بـ: يسرقه أو يغصبه⁽⁵⁾ أو غير ذلك ممَّا يشبه هذه الألفاظ؟ وهل يعني بالالتفات هنا الحسيَّ ليس إلا؟ أو الحسيَّ والمعنويَّ معًا أو أيُّهما كان فهو خلسة؟
          فالجواب عن الأوَّل: هل هو خاصٌّ بالرجال⁽⁶⁾ أم لا؟ فليس خاصًّا بالرجال دون النِّساء، بدليل أنَّ النِّساء شقائق الرِّجال في جميع التعبُّدات لكنها سألت عن الرِّجال لكون⁽⁷⁾ الرِّجال أكثر قوة في الدِّيْن في الغالب، فيكون مِن باب الإخبار بالأعلى عن الأدنى، فإذا كان ذلك في الرِّجال فمِن باب أحرى في النِّساء.
          وأمَّا الجواب عن قوله: (خُلْسَة⁽⁸⁾) ولم يذكر / غيرها من الألفاظ، فإنَّ المختلس هو الذي يخطف الشيء وهو يُرى أي: الذي يخطف⁽⁹⁾ المال مِن غير غلبة ولا قوة ويعتمد الهرب، وذلك مع معاينه المالك له، والسارق يأخذ في خفية⁽¹⁰⁾ والظالم يأخذ بقوة، فلمَّا كان الشَّيطان يَشغَل هذا عن صلاته بأن يلتفت إلى⁽¹¹⁾ غيرها وعقله معه بلا حُجَّة أقامها له على ذلك أشبه المختلس الذي يأخذ الشيء بلا حيلة والناس يبصرونه، ولذلك يقول يوم القيامة كما أخبر عنه سبحانه في كتابه العزيز: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} [إبراهيم22].
          وفيه دليل: على التعبير عن⁽¹²⁾ المعاني بمثل ما يعبَّر عن المحسوسات، يؤخذ ذلك مِن قوله ╕: (يَخْتَلِسُهُا)، والشَّيطان لم يأخذ شيئًا محسوسًا مِن صلاة المصلي، وإنَّما أخذ منها معنًى مِن معانيها في زمانٍ ما وهو عدم حضوره حين التفاته.
          وفيه دليل: على أنَّ مَن حصل له شيء مِن الأشياء حسًّا كان أو معنًى بحيلة⁽¹³⁾ غير محقَّقة، أنَّه يصدق عليه اسم (مُخْتَلِس)، يؤخذ ذلك مِن كون الشَّيطان احتال على المصلِّي حتى وقع له الخلل في صلاته وهو مقصود العدوِّ فسمَّاه سيِّدنا صلعم مختلسًا.
          وهنا سؤال⁽¹⁴⁾ وهو: أنْ يُقال: لِمَ جُعل⁽¹⁵⁾ في السهو في الركعات جَبْر⁽¹⁶⁾ كما تقدَّم في الحديث قبل، ولم يُجعَل لهذا الالتفات جبر⁽¹⁷⁾؟
          فالجواب والله أعلم: لَمَّا كان⁽¹⁸⁾ شكُّه في عدد / الركعات نسيانًا مِن أجل ما احتال عليه الشَّيطان بتذكيره⁽¹⁹⁾ له ما قد كان جرى مِن⁽²⁰⁾ الأمور، والله سبحانه وتعالى قد تفضَّل علينا بأن لا يؤاخذنا بالنسيان، جعل لنا البدل ممَّا وقع مِن الخلل، ولَمَّا كان هذا الالتفات بالقصد مِن المصلي وعقله معه لم يجعل له بدلًا⁽²¹⁾ منه تغليظًا وتحريضًا على التزام الأدب في العبادة، ومما يشبه ذلك قوله صلعم : «أَسوأُ السرقةِ⁽²²⁾ الذي يَسرِق صلاتَه» قالوا: وكيف⁽²³⁾ يَسرِق صلاتَه يا رسول الله؟ قال: «لا يُتِمُّ ركوعَها ولا سجودَها».
          وأمَّا قولنا: هل أراد بالالتفات الحسيَّ أو المعنويَّ⁽²⁴⁾ أو مجموعَهما؟ فظاهر الحديث يعطي أنَّه الحسيُّ وإذا كان الحسيَّ فالمعنويُّ معه لازمٌ.
          وبقي الكلام على المعنوي، فإذا نظرنا إلى قوله صلعم في حديث غيره: «إنَّ الله لا يَقبل صلاةَ امرئٍ حتى يكون⁽²⁵⁾ قَلبُه مع جَوارحِهِ⁽²⁶⁾» فيكون الالتفاتُ المعنوي مثلَ الحسيِّ، ويعني⁽²⁷⁾ بالمعنوي ما يكون في القلب مِن الالتفات إلى غير ما هو بسبيله، وقد قال بهذا جماعة مِن العلماء لأنَّهم يقولون: إنَّ دوام الحضور في الصلاة فرض واجب وهو عدم الالتفات، والجمهور على أنَّ دوام ذلك شرط كمال، وإنَّما الفرض فيه في أوَّل العمل وآخره⁽²⁸⁾ على قول.
          وفيه دليل: على أنَّ كل ما يكون مِن الخلل في الصلاة أنَّه مِن تسويل الشَّيطان، يؤخذ / ذلك مِن الحديث الذي⁽²⁹⁾ قبل⁽³⁰⁾ هذا الحديث إذا جُمع إليه، لأنَّه في الذي قبلُ شغله بالحديث حتى أنساه، وهنا لم يتعرَّض له إلى⁽³¹⁾ الحديث⁽³²⁾ فكان أصل المكيدة خفية⁽³³⁾ حتى أخبر بها الصادق صلعم، فعلى هذا فكلُّ ما نجد في الصلاة مِن خللٍ نعلم أنَّه مِن العدو عَلِمْنا⁽³⁴⁾ سبَبَه أو لم نَعلَمه.
          وفيه دليل: على ما مَنَّ الله تعالى به على سيِّدنا صلعم من كثرة اطِّلاعه⁽³⁵⁾ على غوامضَ كثيرةٍ مِن الغيوب، ولولا ذلك ما كان ╕ يخبر عن مثل هذا وأعدادٍ مِن أمثاله.
          وفيه دليل: على كثرة لطف الله تعالى بنا، يؤخذ ذلك مِن⁽³⁶⁾ إرسال هذا السيِّد صلعم رسولًا إلينا حتى يخبرنا بهذه الفوائد كلها، لأنْ نعرف كيف نتحرَّز مِن عدونا؟ وكيف الخلاص مِن مكائده؟ جعلنا الله ممَّن خلَّصه منها بفضله لا ربَّ سواه⁽³⁷⁾.