163- قوله: (لرسولِ اللهِ صلعم كَيْفَ يَأْتِيكَ الوَحْيُ؟..) الحديث. [خ¦3215]
          ظاهر الحديث يَدُلُّ عَلَى أنَّ الوحي يأتي للنَّبيِّ⁽¹⁾ صلعم على صفتين لا ثالث لهما، وهما المذكورتان⁽²⁾ في الحديث، والكلام عليه مِن وجوه:
          منها: الندب إلى⁽³⁾ السؤال عن كل ما هو⁽⁴⁾ متعلِّق بالإيمان وإن كنا غير مكلَّفين بذلك، يؤخذ ذلك مِن سؤال السائل لسيِّدنا صلعم عن كيفية مجيء الوحي إليه، فجاوبه صلعم عن⁽⁵⁾ ذلك ولم يقل له في ذلك شيئًا، ونحن⁽⁶⁾ لم نُتَعَبَّد بعلم ذلك، لكن لَمَّا أن كان ممَّا يقوى به الإيمان⁽⁷⁾ ندب إلى السؤال عنه.
          لكن هنا شرط وهو: أنَّه لا يكون السؤال عن مثل هذا إلا بعد توفية ما كُلِّفْنَا به، يؤخذ ذلك مِن أن الصَّحابة رضوان الله عليهم كانوا في توفية ذلك بحيث لا يحتاج على ذلك إلى دليل / وإلا يكون مِن باب الفضول والحُمْق إذا ترك ما أُمِرَ به واشتغل بما لا يُطْلَب منه فذلك ممنوع، وقد جاء شخص يسأل عمر ☺ عن النازعات فضربه بالدِّرَّة وقال له: ما لك وللنازعات؟! وأمره أن يشتغل بما به أُمِرَ، وهذا منه ☺ تنبيهًا إلى ما أشرنا إليه⁽⁸⁾.
          وفيه دليل: على ما أعطى الله تعالى للملائكة مِن القدرة على التطوير في صورهم يتطورون كيف شاءوا، يؤخذ ذلك مِن قوله ╕: (يَأْتِينِي المَلَكُ أَحْيَانًا فِي مِثْلِ صَلْصَلَةِ الجَرَسِ) وجاء حديث آخر (على الصَّفا) التي هي الحجارة⁽⁹⁾ يعني: أنَّ كلامه مثل صَلْصَلة الجرس وهو على صورته لم يتغير عنها، ومرةً أخرى يأتي ذلك المَلك ويتمثَّل على صورة رجل، قيل: كان يتمثَّل على⁽¹⁰⁾ صورة دِحيَةَ الكَلْبِي وكان أجملَ العرب بعد سيِّدنا صلعم.
          وفيه دليل: على ما فُضِّل به سيِّدنا صلعم مِن القوة في باطنه لكونه ╕ يأتيه الوحي على هذه الشِّدَّة والقُوَّة فيثبت حتَّى يعي ما قيل⁽¹¹⁾ له.
          وفيه دليل: على عظيم قدرة الله تعالى، يؤخذ ذلك مِن كون الملَك يأتي في مثل / صَلْصَلة الجرس ويلحق سيِّدنا صلعم مِن ذلك الشِّدَّةُ العظيمةُ، حتَّى إنَّه يأتيه في اليوم الشديد البرد فَيَفْصِم عنه وإنَّ جبينَه ليتفصَّد عرَقًا، ومع ذلك مَن يكون بجنبه لا يسمع مِن ذلك شيئًا.
          وفيه دليل: على أنَّه ينبغي أن يكون الرسول فيه أو عليه نسبة مِن آثار مرسِله أو المرسَل إليه إحداهما أو هما معًا، يؤخذ ذلك مِن كون الملَك يأتي أحيانًا في مثل⁽¹²⁾ صَلْصَلة الجرس، وهذه حالة إعظام وإرهاب تناسب ما يصدر مِن بعض آثار المرسِل، وإن كان لا شَبَه ولا مثال، لكنْ نسبةٌ ما مِن الإعظام والإرهاب ليكون أثرٌ ما مِن صفة المرسِل على رسوله، وقد قال العلماء: ينظر قدر عقل الملِك في رسوله الذي يبعث ونوابه، لأنَّ الحكيم⁽¹³⁾ العارف لا يبعث إلا مَن يكون فيه أهلية بحسب الشيء المتوجه فيه، والمرة الأخرى يأتي في مثل المرسَل إليه، وهو حين يتمثَّل الملَك رجلًا فيخاطب سيِّدنا صلعم ويكلِّمه، فحصلت له نِسبة ما مِن نِسبة الخلقة، ولذلك قال ╕ في الأولى: (وَهُوَ أَشَدُّهُ⁽¹⁴⁾ عَلَيَّ⁽¹⁵⁾)، فأخبر بما يقاسي فيه مِن الشِّدَّة، فدلَّ على⁽¹⁶⁾ أنَّ الوجه الآخر لا شدَّة فيه ولا يثقله.
          لكن هنا بحث لطيف وهو: أنَّ في الوجهين على الملَك المرسَل أثرًا⁽¹⁷⁾ ما مِن صفة المرسِل⁽¹⁸⁾ جلَّ جلاله، فالمرَّة الواحدة / أثر ما مِن الإعظام والإرهاب⁽¹⁹⁾، والثانية أثر ما مِن اللطف والرحمة والإيناس، وفي هذا مِن الحكمة أنَّه لَمَّا أن جاءت النبوة⁽²⁰⁾ بوصفين، وهما: الإنذار ومقابلته التخويف بصفة التعظيم⁽²¹⁾ والإجلال، والبشارة ومقابلتها التَّعطُّف بصفة الرحمة والإيناس، فجاءت الواسطة⁽²²⁾ على مقتضى هذين الوصفين لتتقوى⁽²³⁾ تانك الصفتان عند سيِّدنا صلعم.
          وممَّا يقوي ما أشرنا إليه أنَّه لَمَّا كان شهر رمضان شهر خير ورحمة كان جبريل ╕ يلقى سيِّدنا صلعم كلَّ ليلة في⁽²⁴⁾ رمضان يدارسه القرآن، كما جاء⁽²⁵⁾ الحديث بعد: «فَلَرَسُولُ اللهِ صلعم حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ أَجْوَدُ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ» فلم يأته في شهر الخير إلا على صفة الإيناس والخير والرحمة وتدريس القرآن، لأنَّه لا شيء أكثر رحمة مِن تدريس القرآن، إذ بكلِّ حرف لمن يعلم⁽²⁶⁾ بِمَ رُفِع، وبِمَ نُصِب، سبعُمائة حسنة فبانت حكمة الحكيم بما⁽²⁷⁾ تعبَّد به هذه الأمَّة وفضله العميم عليها، جعلنا الله⁽²⁸⁾ من خيرها بمنِّه في الدارين.
          وهذا فيه دليل لقول مَن قال: إنَّما الصوفي كخمَّار بين دنَّينِ، مِن أيِّهما شرب سكر وطرب، فإن شرب مِن خمر التخويف والتعظيم سكر خوفًا وتمايل حزنًا، / وإن شرب مِن خمر الرجاء سكر فرحًا وتمايل سرورًا وطربًا، فإن مزجهما⁽²⁹⁾ خرج مِن مقام الحال إلى حد التمييز والتكليف.