بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: أهدي لرسول الله فروج حرير فلبسه

          231- قوله: (أُهْدِيَ لِرَسُولِ اللهِ صلعم فَرَّوجُ حَرِيرٍ...) الحديث. [خ¦5801]
          ظَاهِرُ الحَدِيْثِ يَدُلُّ على كراهية لباس الحرير للمتَّقين. والكلام عليه مِن وجوه:
          منها هل يجوز لغير المتَّقين، وهل تلك الكراهية كراهية تنزيه أو تحريم؟
          أمَّا قولنا: هل يجوز لغير المتَّقين؟ إذا عرفنا حقيقة هذا الاسم حينئذ نتكلَّم في غيره وما يلزمه(1) مِن هذا الحديث.
          أمَّا التَّقيُّ فهو اسم يعم جميع المسلمين لكن النَّاس فيه(2) على درجات، ودليل ذلك قول الله ╡ في كتابه: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا} [المائدة:93] فكُلُّ(3) مَن دخل في الإسلام فقد اتَّقى، أي: وقى نفسه مِن الدخول(4) في النَّار، فإن اتقى ثانية ومنع نفسه مِن المعاصي، فقد اتقى حَقَّ التُّقى أي: وقى نفسه مِن دخول النَّار.
          فإنَّ رسول الله صلعم يقول «الإيمان إيمانان: إيمان لا يُدخل صاحبَه النارَ وإيمان لا يخلِّد صاحبَه في النار» فالإيمان الذي لا يُدخل صاحبه النار هو الإيمان الذي يكون مع الأمر والنهي، والإيمان الذي لا يخلِّد صاحبه في النَّار هو الإيمان مع المعاصي، والذي اتقى التقوى الثَّالث هو في درجة الإحسان، لأنَّه اتَّقى بالله ما سواه، فلم يرَ في الوجود سوى الواحد الأحد، كما قال صلعم : «أنْ تعْبُد الله كأنَّك تراه، فإنْ لمْ تَكُنْ تراه فإنِّه يَرَاك» وهذا مقام الخصوص وبقي ما عدا المؤمنين، / فمَن قال: إنَّهم مخاطَبون بفروع الشريعة فلا يبيحه لهم، ومَن قال(5): إنَّهم ليسوا بمخاطبين بفروع الشريعة لم يتعرَّض لهم.
          وأمَّا قولنا: هل جاءت الأحاديث من خارج تدل على التحريم أو التنزيه؟ لفظ الحديث محتمل لكن قد جاء(6) عنه صلعم أنَّه قال في الحرير: «إنه حرامٌ على ذكور أمَّتي» والآثار في هذا النوع كثيرة.
          فقد ثبت تحريمه بالسُّنة على ذكور هذه الأمَّة، وهل يستعمل عند الضرورة أو يقدَّم على غيره أو لا؟ مثل إذا لم يكن لشخص إلا ثوبان، أحدهما نجس والآخر حرير، فمنهم مَن قال: يصلِّي في النجس، ومنهم مَن قال: يصلِّي في الحرير، وكذلك لباسه في الحرب فمنهم مَن منعه، وهو مالك والجمهور. ومنهم مَن أجاز ذلك بشروط وهو الشافعي ومَن تبعه.
          والشروط التي ذكرت عنه أن يكون لابسُه عادمًا لِمَا يتقي به عن نفسه من آلات(7) الحرب، مثل الدِّرع وما يشبهه من عُدَّة الحرب، ويكون ثوب الحرير خشنًا لأنَّه يردُّ عنه الأذى، وأمَّا أن يكون لبسه للزينة في حربٍ أو غيره فهذا لا يجوز، وما اتَّخذه بعض النَّاس اليوم مِن لبسه في الحَضَر والسفَر على وجه الزينة فحرام لا يجوز، ولابسُه عاصٍ، وسواء كان اللباس منه كثيرًا مثل القَباء وما / يشبهه أو يسيرًا مثل الكوفية وما يشبهها الباب واحد.
          وَفِيْهِ دَلِيْلٌ على جواز الهدية وقبولها، يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِن قوله: (أُهْدِيَ لِرَسُولِ اللهِ صلعم)، لكن الهدية على ثلاثة أوجه كما قال عبد الله بن عمر ☻: هدية لوجه صاحبك، فلك وجه صاحبك، وهدية للثواب، فلك ما أردت، وهدية لوجه الله تعالى، فتلك التي ثوابها على الله أو كما قال.
          وبقي في الهدية تقسيم آخر قسمته(8) العلماء: لا يخلو صاحب الهدية أن يكون كَسْبه حرامًا أو حلالًا أو مختلطًا، فإن كان حرامًا فلا تحلُّ، وإن كان حلالًا فجائزة.
          وإن كانت(9) ممَّن كَسْبُه مختلط فأربعة أقوال: بالجواز، وبعدمه، وبالكراهية وبالتفرقة، إن كان الحلال الغالبَ على كَسبه فجائزة، وإن كان الحرام الغالبَ فممنوعة، هذا إذا خَلَت الهدية أن تكون رِشْوة، فإنَّها إذا كانت على هذا الوجه فحرام، وذلك هو السُّحْت بعينه.
          وبقيت عِلَّة تحريمه(10) هل هي معقولة المعنى أو هي تعبُّد؟ فإن قلنا: تعبُّد، فلا بحث، وإن قلنا: معقولة المعنى، فما هي؟ فنقول والله أعلم: إن العِلَّة فيه كالعِلَّة في التَّختُّمِ بالذهب(11) واستعمالِ أواني الفضة والذهب، وهي أنَّه لَمَّا كان الحرير لباسَ المؤمن في الجنَّة مُنِعَهُ هنا، كما قال صلعم في أواني الذهب والفضة: «إنَّها أواني أهل الجنَّة» وقد قال(12) فيها في حديث آخر عن الكفَّار «هي لهم في الدنيا ولكم في الآخرة». / وكذلك الجواب على الحرير مثل الأواني سواء بسواء(13)، كون مولانا سبحانه أنعم على المؤمنين(14) بدار كرامته وجعل لباسهم فيها الحرير وآنيتهم فيها الفضة والذهب، ثمَّ أنعم على الكفار أن أعطاهم نصيبًا مِن ذلك في هذه الدار وشاركهم(15) في ذلك طائفة مِن المؤمنين وهم النسوة وما(16) يلحق لأزواجهن مِن التمتع بتلك الزينة منهن تحقيقًا(17) لصفة الرحمة حتى تعمَّ جميع عباده سبحانه.
          يشهد لذلك قوله ╡ {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:32].
          وَفِيْهِ دَلِيْلٌ على استغنائه ╡ عن عبادة عباده، وأنَّه لا تضرُّه معصية العاصي، لأنَّه سبحانه قد أنعم على الكفار وهم على ما هم عليه مِن كفرهم وهو أعظم المعاصي، فقد أنَالَهم ╡ طَرَفًا مِن الرحمة في هذه الدار، فلو كان يناله تعالى منها ضرر لم يكن يرحمهم، لا في هذه الدار ولا في تلك الدار، ولم يكن أيضًا يلحق المؤمنين عذابٌ ولا آلامٌ، لا في هذه الدار ولا في تلك الدار، فسبحان(18) مَن تنزَّه وتعالى وتقدَّس واستغنى عن عبادة العابدين.
          وبقي بحث: وهو ما الحكمة في أن أبيح لبس الحرير للنِّسْوة وهنَّ في جميع أمور الدين شقائق الرِّجال؟ فإن قلنا: تعبُّدًا(19) فلا بحث، وإن قلنا: لحكمة، فما هي؟ فنقول والله أعلم:
          لها وجوه (منها): أنَّه لِمَا عَلِم الله مِن ضَعفهنَّ وقِلَّةِ صبْرهنَّ عنه، لأن النفوس كثيرًا ما تتعلَّق به(20)، فلطف ╡ بهنَّ في إباحة لبسه {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]
          و(وجه / آخر): وهو أنَّ زينتهنَّ به ليس في الغالب لهنَّ بل هي لأزواجهن(21). وتزيُّن الزوجة لزوجها مِن جملة حُسْنِ التَّبعل، وحسنُ التَّبعلِ مِن الإيمان، فلمَّا عَريَ لبسهنَّ له(22) عن حظوظ النفوس وكان لبسه لهن ممَّا يُعين على أوصاف الإيمان وهو حُسْن التبعل أبيح لهن ذلك.
          إشارة صوفية: وهي أنَّه لَمَّا كان لبسُ الحرير مِن أعلى الملابس وبلُبسه تبلغ النفوس أعلى حظها في حسن(23) اللباس، حُرِّم على الذكور الذين فيهم الفحولية وأُبِيح للأنوثية(24)، دلَّ بهذا على أنَّ مَن فيه فحولية في الهمَّة أنَّ كل ما فيه تَبَاهٍ مِن جميع ملذوذات الدنيا على اختلاف أنواعها، لم يعرِّجوا عليه، وإن كان بعضه مباحًا أيضًا على(25) لسان العلم وزهدوا في جميعها إلا قَدر ما فيه هو عَوْن على الدِّين، وكذلك كلُّ ما كان فيه للنفس(26) حظ لم يُعَرِّجوا عليه، وإنْ كان / بعضه مباحًا أيضًا على لسان العلم إلا بقدر ما هو عون على الدين.
          في مثل هذا هو تنافسهم، حتى إنَّه ذكر عن بعضهم أنَّه كان مجاورًا بمكة، وكانت بيده صنعة يَرِد فيها في اليوم جملة دراهم فلا يعمل مِن تلك الصنعة التي يعرف، ولا يشتري لنفسه شيئًا يقتات به، إلا حتى يرى محتاجًا فيرهن شَملَة كانت له فيما يحتاج في تلك الصنعة، فيعمل يومَه ذلك ثمَّ يفدي شملَتَه آخر النهار، ويكون أكله تابعًا لذلك المحتاج الذي رآه.
          ومما(27) يقوي حسن فهمهم قول عمر ☺ حين تكلَّم معه بعض الصحابة رضي الله عن جميعهم بأن يحسن لنفسه في أكله ويطيِّبه(28)، فإنَّ في عافيته وصحته منفعة للمسلمين، فجاوبهم بأن قال لهم: كان لي(29) صاحبان وقد ماتا، فأنا أشاركهما فيما كانا عليه مِن العيش الغليظ لعلِّي أشاركهما في عيشهما الرغيد، أتريدون أن أكون ممَّن قال ╡ في حقِّهم: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا}؟ [الأحقاف:20] فتعِس مَن ادَّعى الفُحولية وهمَّته أدنى حالة مِن الأنوثية، وتبهرجَ بلسان العلم وهو لا يعلمه! مَنَّ الله علينا(30) بعلوِّ الهمة والمساعدة على ذلك بمنِّه.


[1] في (م): ((وما يلزم)).
[2] في (م): ((لكن فيه الناس)).
[3] في (ج): ((فقيل)).
[4] في (ج): ((من الدخول)) والمثبت من (م).
[5] زاد في (ج): ((يبيحه لهم بيان)) والمثبت من (م).
[6] العبارة في (م): ((وأما قولنا هل الكراهية على التحريم أو التنزيه لأنه قد جاء)).
[7] في (م): ((ألم)).
[8] في (م): ((قسمه)).
[9] قوله: ((إن كانت)) ليس في (ج). والمثبت من (م).
[10] في (ج): ((تحريم)) والمثبت من (م).
[11] في (ج): ((في الذهب)) والمثبت من (م).
[12] قوله: ((قد)) ليس في (م).
[13] زاد في (م): ((وفي)).
[14] في (ج): ((المسلمين)) والمثبت من (م).
[15] في (م): ((شاركتهم)).
[16] في (م): ((ومما)).
[17] في (م) و (ج): ((تحقيق)) ولعل المثبت هو الصواب.
[18] العبارة في (م): ((لم يكن يرحمهم لا في هذه الدار ولا في تلك الدار فسبحان)).
[19] في (م): ((تعبد)).
[20] العبارة في (م): ((صبرهن عنه لأن النفوس عنه لأن النفوس كثير من تتعلق به)).
[21] العبارة في (ج): ((وهو أن زينتهم في الغالب ليس لهنَّ بل هي لأزواجهنَّ)) والمثبت من (م).
[22] قوله: ((له)) ليس في (م).
[23] في (م): ((في جنس)).
[24] في (م): ((للأنوثة)).
[25] العبارة في (م): ((على اختلاف أنواعه لم يعرجوا عليه وإن كان بعضه مباحا على)).
[26] في (ج): ((كل من كان للنفس فيه)).
[27] في (ج): ((وما)) والمثبت من (م).
[28] في (م): ((تطيبه)).
[29] قوله: ((لي)) ليس في (م).
[30] في (م): ((مُنَّ علينا)).