84-قوله: (قَدِمَ النَّبِيُّ صلعم المَدِينَةَ، وَأَمَرَ بِبِنَاءِ المَسْجِدِ⁽¹⁾...) الحديثُ. [خ¦1868]
          ظاهرُه يدلُّ على⁽²⁾ أنَّ بناءَ المسجدِ كانَ بأمرِ النَّبِيِّ صلعم بعدَ هجرتِه إلى المدينةِ⁽³⁾، والكلامُ عليهِ من وجوهٍ:
          منها: جوازُ طلبِ الأشياءِ للبيعِ وإنْ لم يكنْ صاحبُها / عرضَها للبيعِ، يُؤخَذُ ذلكَ مِنْ قَولِهِ ◙ : (يَا بَنِي النَّجَّارِ ثَامِنُونِي) وهم لم يكونوا عرضُوا مِلكَهم للبيعِ قبلُ.
          وفيه دليلٌ على جوازِ أنْ يُنسَبَ الشخصُ إلى صنعةٍ كانتْ في قبيلتِه أو آبائِه، وليسَ ذلكَ مِنَ الألقابِ المنهيِّ عنها، يُؤخَذُ ذلكَ مِنْ قَولِهِ ◙ : (يَا بَنِي النَّجَّارِ)، وهذهِ صنعةٌ كانتْ في أحدِ آبائهم فشُهِروا بها فدعاهم بها.
          وفيهِ دليلٌ على جوازِ قبولِ الهديةِ لشيءٍ وإنْ كانَ قد تعرَّضَ إلى شرائِها مالم يقصدْ تحشيم صاحبِها، يُؤخَذُ ذلكَ مِن قبولِه⁽⁴⁾ ◙ منهم ما طلبهم للبيع⁽⁵⁾: (فَقَالُوا: لَا نَأْخُذُ ثَمَنَهُ⁽⁶⁾، إِلَّا مِنَ⁽⁷⁾ اللهِ)، والدليلُ الذي على قولِنا⁽⁸⁾ (مالم يقصدْ تحشيمَ صاحبِها)؛ لأنَّ النَّبِيَّ صلعم قَالَ: (ثَامِنُونِي)، ولا يقولُ النَّبِيُّ صلعم : (ثَامِنُونِي)⁽⁹⁾ إلا حقًا، لا يقولُ ذلكَ حيلةً ولا مجازًا ومَن يقعُ لهُ شيءٌ مِن ذلكَ فهو تنقيصٌ بالنَّبِيِّ صلعم، وهو لا يَحِلُّ، وإنْ أفصحَ بهِ وجبَ قتلُه شرعًا.
          وهنا بحثٌ: وهوَ ليسَ بمجردِ الدعوى منهُ يقعُ التصديقُ إلا حتى تكونَ هناكَ قرينةٌ تُبيِّنُ ذلكَ مثلَ قولِ هؤلاءِ الذينَ قَالوا: (لَا نَأْخُذُ ثَمَنَهُ، إِلَّا مِنَ⁽¹⁰⁾ اللهِ)، ولا⁽¹¹⁾ يلزمُ مِن قَولهم: (لاَ نَأْخُذُ ثَمَنَهُ، إِلَّا مِنَ اللهِ) أن يكونَ صدقةً؛ لأنَّ الهديةَ صاحبُها مأجورٌ إذا قصدَ بها وجهَ الله مثلَ الصدقةِ، غيرَ أنَّ الفرقَ بينَ الصدقةِ والهبةِ أنَّ الصدقةَ لا تكونُ⁽¹²⁾ إلا للهِ إلا أنْ يدخلَها رياءٌ، والهبةُ قدْ تكونُ لوجوهٍ كثيرةٍ قد نُصَّ عليها في كتبِ الفروعِ، فما هو منها⁽¹³⁾ للهِ فصاحبُها فيها مأجورٌ كما هوَ في الصدقةِ وإنْ لم يكنْ مِن صاحبِها إفصاحٌ / مثلَ مقَالةِ هؤلاءِ، ويكونُ هناكَ ما يقومُ مقامَ ذلكَ.
          وقد رُوِيَ عن بعضِ أهلِ هذا الشأنِ إذا كانَ يأتيهِ الفتوحُ ولا يعلمُ مِن⁽¹⁴⁾ صاحبِه⁽¹⁵⁾ مِن أيِّ الوجوهِ هوَ⁽¹⁶⁾ يقولُ لهُ: ناشدتُكَ اللهَ متى⁽¹⁷⁾ أنا عندَك خيرٌ: إن قبلتُ منكَ أو إنْ⁽¹⁸⁾ رددتُ عليكَ؟ فعلى الذي يحلِفُ عليهِ مِن الحالتينِ عمِلَ عليهِ تحرُّزًا مِن الدعوى في هذا الشأنِ، وإنْ كانَ⁽¹⁹⁾ على ما رُوِيَ عنهُ مِن أهلِ الكشفِ والاطِّلاعِ.
          وفيهِ دليلٌ على جوازِ⁽²⁰⁾ حفرِ قبورِ المشركينَ، يُؤخَذُ ذلكَ مِنْ قَولِهِ: (فَأَمَرَ بِقُبُورِ المُشْرِكِينَ فَنُبِشَتْ)، وفيهِ منَ الحكمةِ أنَّ حكمَ الحياةِ مُستَصحبٌ في المماتِ فكما هيَ دماؤُهم في الحياةِ مُباحةٌ ولا حرمةَ لهم كانوا كذلكَ في مماتِهم، والمؤمنُ حرمتُه في المماتِ كحرمتِه في الحياةِ؛ لأنَّه قدْ جاءَ: «إنَّهُ مَنْ كسرَ عَظْمَ مؤمنٍ ميِّتٍ كَمَنْ كَسَرَهُ حَيًّا في الإثم سَواء»⁽²¹⁾. وقبرُه حَبْسٌ عليهِ لا يحلُّ لأحدٍ التصرُّفُ فيهِ.
          وفيهِ إشارةٌ لأهلِ البصيرةِ الذينَ يقولونَ: أحوالُكَ عنوانٌ على مالَكَ هناكَ⁽²²⁾، فإنِ استقمتَ هنا رُفِعْتَ هنالكَ⁽²³⁾، وإن خلطت فإنما بَخَسْتَ⁽²⁴⁾ نفسَك.
          وفيهِ دليلٌ على جوازِ هدمِ خرابِ البناءِ إذا كانَ فيهِ فائدةٌ وليسَ مِنَ الفسادِ في الأرضِ، يُؤخَذُ ذلكَ مِنْ قَولِهِ: (ثُمَّ بِالخِرَبِ، فَسُوِّيَتْ).
          وفيه دليلٌ على جوازِ قطع⁽²⁵⁾ الثمارِ وإنْ كانَتْ⁽²⁶⁾ تُطِعمُ إذا كانَ ذلكَ لضرورةٍ، يُؤخَذُ ذلكَ مِنْ قَولِهِ: (وَبِالنَّخْلِ فَقُطِعَ)، وقد نصَّ العلماءُ على أنَّ قطعَ الثمارِ المُطعِمةِ مِنَ الفسادِ في الأرضِ، ولمَّا⁽²⁷⁾ كانَ هذا لضرورةٍ خرجَ⁽²⁸⁾ أنْ يكونَ / مِن ذلكَ القبيلِ، والضرورةُ التي هي⁽²⁹⁾ هنا أنَّه لَمَّا قدِمَ المدينةَ صلعم تنافسَ الأنصارُ رضوانُ الله عليهم في نزولِه ◙ عندَ مَن ينزِلُ منهم، فقَالَ لهم: «دَعُوا النَّاقَةَ فَإِنَّهَا مَأْمُورةٌ»⁽³⁰⁾، فمشَتْ حتى أتتْ موضعَ المسجدِ فبركَتْ فيهِ، فأيُّ ضرورةٍ أشدُّ مِن هذهِ؟ لأنَّ هذا حكمٌ منَ اللهِ ╡ ، وقد كانَ في علمِ اللهِ تَعَالَى أنَّ تلكَ البقعةَ هيَ الموضعُ التي هيَ⁽³¹⁾ روضةٌ مِن رياضِ الجنَّةِ فكلُّ ما كانَ فيها فهو عاريةٌ بحكمِ القلعِ، وليسَ مثلُ هذا ضرورةٌ في غيرِه أنْ يقولَ الشخصُ (نَشتهي نَبني هذا⁽³²⁾ بُنيانًا) بشهوةِ نفسِه فيكونُ هناكَ تمرٌ⁽³³⁾ مثمرٌ فيقطعُه ويجعلُ هذا الحديثَ حجَّةً فيه، هذا لا يحلُّ، بلِ الضرورةُ غيرُ هذهِ على ما هوَ مذكورٌ في كتبِ الفقهِ.
          وهذه⁽³⁴⁾ إشارةٌ لمن سعدَ في الأزلِ⁽³⁵⁾ ما ضرَّهُ ما جرى عليهِ مِنَ الفتنِ، يُؤخَذُ ذلكَ مِن أنَّه لمَّا كانتْ هذهِ البقعةُ قد سبقتْ لها تلكَ⁽³⁶⁾ السعادةُ العُظمى، وهيَ⁽³⁷⁾ أنْ تكونَ مَسجدًا ومَنزِلًا ولَحدًا إلى السيِّدِ⁽³⁸⁾ مِن بني آدمَ والمُرفَّعُ في العالمينَ صلعم ⁽³⁹⁾ ما ضرَّها ما تداولَ عليها مِن أيدي المشركينَ ومُخالفتِهم، إذا حَسُنَت العُقبَى فكلُّ قبيحٍ يزولُ، وإنْ فَسَدَتْ فكلُّ جميلٍ يحولُ.
          وفيهِ دليلٌ على⁽⁴⁰⁾ أنَّ مِن حُسنِ التصرُّفِ أن يعملَ الشخصُ في أمرِه كلِّه على قدرِ جدتِهِ أو عُسرِه، يُؤخَذُ ذلكَ مِن كونِ النَّبِيِّ صلعم لَمَّا تركَ⁽⁴¹⁾ هوَ والمهاجرونَ أوطانَهم وأموالَهم⁽⁴²⁾ فاحتاجَ ◙ إلى بناءِ المسجدِ / بناهُ⁽⁴³⁾ على ما يقتضيهِ الوقتُ بجريدِ النخلِ وحيطانُه مِن جذورِها⁽⁴⁴⁾.
          يُؤخَذُ ذلكَ مِنْ قَولِهِ: (فَصَفُّوا⁽⁴⁵⁾ النَّخْلَ قِبْلَةَ المَسْجِدِ) ولم يَبْنِ بآجُرٍّ ولا جِصٍّ ولا بشيءٍ فيهِ تكليف لا عليهِ ولا على غيرِه، فهذا مُقتضى السنَّةِ، ومما يؤيِّدُهُ من الكتابِ قَولُه تَعَالَى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق:7]، وقد قَالَ عليٌّ ☺: الرِّفقُ في النفقةِ خيرٌ مِن الزيادةِ في التجارةِ⁽⁴⁶⁾.
          وفيهِ دليلٌ على أنَّ أهمَ ما على المرءِ مِنَ⁽⁴⁷⁾ الأمورِ النظرُ في أمرِ دينِهِ، يُؤخَذُ ذلكَ⁽⁴⁸⁾ مِن أنَّه أولُ ما نظرَ فيهِ صلعم عندَ دخولِه المدينةَ بناءُ المسجدِ الذي هو للآخرةِ⁽⁴⁹⁾.
          وفيهِ دليلٌ للفقراءِ الذينَ يقولونَ: إذا زهدَ الفقيرُ وخرجَ عن كلِّ ما يملكُه ممَّا هوَ مِن أمرِ دينِه فلا يدخلُ تحتَ ذلكَ اللفظِ ولا يجوزُ لهُ الخروجُ عنهُ⁽⁵⁰⁾ ويَحْبِسُ⁽⁵¹⁾ منه بقدرِ ضرورةِ دينِهِ، مثلُ الإناءِ للوضوءِ⁽⁵²⁾ وما يسترُ بهِ عورتَه، ومثلُ ما يصلِّي عليهِ⁽⁵³⁾؛ لأنَّ كلَّ ما يكونُ الخروجُ عنهُ يتعذَّرُ بهِ وجهٌ مِن وجوهِ الدِّينِ فلا يجوزُ؛ لأنَّهُ الأهمُّ في جميعِ أمورِ الدينِ، وقدْ قيلَ⁽⁵⁴⁾: فَحافِظْ عليه ولا تبالِ⁽⁵⁵⁾ بما عداهُ⁽⁵⁶⁾، فَعِزُّ المرءِ بدينِه لا بما سواهُ⁽⁵⁷⁾.